مستقبل تقنية النانو واستخداماتها المرتقبة في سويسرا
تعتمد الكثير من الأجهزة الإلكترونية، ذات الاستخدام اليومي، على تقنية النانو، حيث أنها تعمل بواسطة ترانزستورات أو دوائر إلكترونية مُـتكاملة – رقائق - دقيقة الحجْـم، ولكن إلى أيّ مدى يُـمكن لهذه التقنية الحديثة أن تقفز بعِـلم الإلكترونيات، وماذا يُـخبِّـئ لنا المستقبل من مفاجآتها؟
swissinfo.ch حاورت الأستاذ جيوفاني دي ميكيلي، الذي عمِـل لمدة عشرين عاما في مختبرات “وادي السيليكون” Silicon Valley” الشهير في الولايات المتحدة، قبل أن ينتقل إلى سِـلك التدريس، حيث يشغَـل منصِـب مدير قسم الهندسة الإلكترونية في المعهد الفدرالي التقني العالي في لوزان، ويُـشرف حاليا على مشروع “نانو تيرا”.
swissinfo.ch: أستاذ جيوفاني دي ميكيلي، ما المقصود بتقنية النانو؟
جيوفاني دي ميكيلي: يُـستخدَم في العادة مُـصطلح تقنية – أو تكنولوجيا – النانو، لوصْـف التقنية المُـستخدَمة في تشغيل الأجهزة والهياكل الدقيقة، ذات الأحجام من 1 إلى 100 نانومتر. فعلى سبيل المثال، في حالة الإلكترونيات، وصل التطوّر التكنولوجي عند عقدة 32 نانومتر، أي أن هذا هو حجْـم الترانزستور أو الدائرة الموجودة في داخل الرقاقة الرقمية، والمعنى أننا حاليا نتعامل بالتقنية النانوية.
ما الجديد الذي تُـضفيه هذه التقنية؟
جيوفاني دي ميكيلي: هناك جانبان. فمن جهة، تُمَكّن هذه التقنية من تصغير أحجام الأجهزة إلى أقصى ما يُـمكن، وذلك من خلال التحكّـم الذّكِـي بخصائص المادّة. ومن جهة أخرى، كَـوْن الأحجام الدّقيقة في هذه التقنية، تماثل تلك التي للكائِـنات البيولوجية الدقيقة، كالفَـيْـروسات والبَكْـتيريا، وكذلك للبروتينات، فإنه بالإمكان التحكُّـم بتراكيبها لإنشاء بُنيات جديدة. ومن ناحيتنا، سنتمكّـن من تصنيع دوائر إلكترونية ذات صِـلة مباشرة بالمخلوقات أو العناصر البيولوجية.
وأعتقد بأن المستقبل سيحفَـل بالتّـفاعل المباشر بين الإلكترونيات، ومن بينها أجهزة الكمبيوتر والإنسان. ومن المرجّـح أن تختفي لوْحة المفاتيح ويتِـم استبدالها بداية بوسائل أخرى تعتمِـد على المخاطبة الكلامية أو التحكّـم بواسطة العيْـن أو حتى بواسطة الانفِـعالات العصبية، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التواصل المباشر مع النُّـظم المعلوماتية بواسطة الواجهة العصبية، أي الإشارات العصبية الصّـادرة عن الدِّماغ.
أنتم مسؤولون عن برنامج “نانو تيرا”، فهل لكم أن تحدِّثونا عنه وعن أهدافه؟
جيوفاني دي ميكيلي: خلال الـ 20 سنة الماضية، اهتمّـت الإلكترونيات بدعْـم وتطوير الحواسيب والهواتف وأنظمة الترفيه بشكل خاص، ولكنها أيضا تستطيع أن تقدِّم الكثير لخِـدمة وتحسين الحياة البشرية، حيث أنها تمتلِـك إمكانات هائلة في مِـضمار التشخيص الطبّـي وفي مراقبة نظافة البيئة، وهذا ما نعتني به من خلال “نانو تيرا”.
وهذا البرنامج، وُلِـد قبل نحو عاميْـن بتمويل ثري من قِـبل الحكومة الفدرالية، وتُـشارك فيه العديد من الجامعات السويسرية ويضمّ في الوقْـت الحاضر نحو 19 مشروعا كبيرا، بعضها يخصّ المجال الصحي وبعضها يخصّ المجال البِـيئي، وبعضها يهتمّ بالتقنيات الأساسية، بحيث يمكن فيما بعد الاستِـفادة منها، سواء في ميدان الصحة أو في ميدان البيئة.
هل لك أن تُـعطينا مِـثالا عَـمليا؟
جيوفاني دي ميكيلي: مشروع “أي آيرونيك i-IronIC”، على سبيل المثال، الذي نسعى من خلاله إلى تطوير أداة استِـشعار أو جهاز نَـنَـوي داخل إبرة، يُـمكن خرزها في الجسم لمراقبة عمليات الأيض المُـختلفة ومشاهدتها في بُـرهة معقولة من الزمن.
ويمكن لهذا الجهاز أن يكون مفيدا للمُـصابين بمرض السكّـري أو لمرضى القلب، خصوصا في معاينة التطوّرات الناجمة عن بعض المؤشِّـرات البيولوجية، وفي معرفة احتمالات دخول المريض في حالة خطر، من أجل أن يتوفّـر للمريض أكبَـر درجات الاستقلالية وتكون لديه دلائل تُـرشده إلى حالة الخطر قبل وقوعها.
بجانب العديد من الجامعات، هنالك أيضا شركات صناعية تشارك في برنامج “نانو تيرا”، هل لكم أن توضِّـحوا لنا ذلك؟
جيوفاني دي ميكيلي: في حالة مشروع “أي أيرونيك i-IronIC”، تُـوجد ضِـمن المجموعة، شركتان صناعيتان. الأولى، هي شركة “ميناريني ديانيوستيك Menarini Diagnostic”، التي تستَـخدِم حاليا هذه التقنيات في مرض السكَّـري، وهي مهتمّـة بتطوير وتعميم هذا الفنّ، ليشمل ميادِين أخرى مثل أمراض القلب.
والثانية، هي شركة نستلي، التي يَنصَـبّ اهتمامها على ما يتعلق بـ “التغذية الشخصية”، وتريد أن تتعرّف على ما للمواد الغذائية من تأثيرات، عندما تكون هنالك ظروف معيَّـنة أو مرضى معيَّـنين أو رياضة محدّدة أو فِـئة عمرية ما.
ما هو مستقبل التكنولوجيا النانوية في مجال الإلكترونيات؟
جيوفاني دي ميكيلي: إذا ما نظرنا إلى المستقبل، فإن الخطوة التالية ستكون ربْـط شبكات الاتصالات، مثل الإنترنت، مع أجهزة نانوية كي تُـساعدنا في فهْـم ما يحدُث داخل الكائن الحيّ أو في البيئة. ولعلّ مراقبة المحيطات، هي أبسط الأمثلة المشاهَـدة، حيث تم بالفعل إنشاء شبكة نانوية من أجهزة الاستشعار الزلزالية، وتوجد حاليا أجهزة استِـشعار تُـتيح إمكانية التنبُّـؤ بأمواج تسونامي، ولكن المطلوب هو تعميم هذه التقنية.
ونحن من خلال “نانو تيرا” نعمل – على سبيل المثال – من أجل تطوير أجهزة استشعار لرصْـد الأنهار الجليدية، إذ مع ارتفاع درجة حرارة الأرض ووجود كُـتَـل جليدية معلَّـقة، يُـمكن أن تشكل خطرا حقيقيا يتهدّد بعض القُـرى السويسرية. ومن المعلوم – أيضا – أنه يكفي أن تسقُـط الأمطار ليوميْـن لتُحدِث فيضانات، تتسبّـب في خسائر كبيرة، ومنها خسائر في الأرواح، الأمر الذي يستدْعي إنشاء شبكة من المجسّات الاستِـشعارية، تقوم برصد الرطوبة والجفاف وبعض البيانات الخاصة بالغِـلاف الجوي، بحيث يُـمكننا من خلالها التنبُّـؤ بالأحوال المَـناخية، ثمّ رفع المعلومات على الشبكة الإلكترونية ومراقبة كامل التُّـراب الوطني، من أجل توفير الفرصة أمام المواطن كيْ يُنقِـذ نفسه في حالة وقوع كوارث طبيعية.
وفي خطوة لاحِـقة، يتمّ إمداد الشبكة الإلكترونية بمعلومات حوْل المحاذير البيولوجية. وفي رأيي، أنه بالإمكان أن تنشَـأ خلال السنوات القادمة آلية رقابة على الحدود، مهمَّـتها الحيْـلولة دون عبُـور الجراثيم التي تنشر الأوبِـئة وتهدّد سلامة المواطنين.
ما هو الدور الذي تؤدِّيه سويسرا في مجال علوم النانو؟
جيوفاني دي ميكيلي: سويسرا كتقدمة جدا في مجال العلوم والتكنولوجيا النانوية، وربّـما تحتلّ المرتبة الأولى عالمِـيا، بما لديها من نِـسبة مطبوعات وبَـراءات اختراع، بالمقارنة مع تِـعدادها السكاني، ولكن المؤسِـف في سويسرا، هو قلّـة تنقّل التكنولوجيا بين العلوم والهندسة، ولذلك، كان من سياسة المعهد التقني الفدرالي العالي ومن إستراتيجيات “نانو تيرا”، تعزيز الصِّـلة بين عِـلم النانو والهندسة، بحيث تسلك الأفكار مسارا هندسيا، يقود إلى البحث بالإضافة إلى التطوير، والمهِـم جدا بالنسبة لسويسرا، الانتقال من النتائج المُـختبرية إلى إنشاء شركات تجارية صغيرة، تعمل على تسويق المبتكرات.
في السنوات الأخيرة، أثارت تِـقنية النانو قَـدرا كبيرا من الحماس، ولكنها أجَّـجت أيضا الكثير من المخاوف، فهل من مبرّر لهذه المخاوف؟
جيوفاني دي ميكيلي: أعتقِـد أن هناك ما يبرِّر جُـزئيا بعض هذه المخاوف، ولكني لا أرى في الوقت الحاضر أية مخاطر لتكنولوجيا النانو إذا ما استُـخدمت بشكل سليم. ولا ننسى أن كل المركَّـبات الكيميائية قد تكون سامّـة، كما أن عناصر السُّـموم تدخل في كل الأدوات التي نستخدِمها، كالكاميرا الرقمية على سبيل المثال أو كعموم الدوائر الإلكترونية، ولكن لا أحد يحطِّـم الكاميرا الرقمية أو يفرك الرقاقة الإلكترونية، ليستخرج منهما السموم التي تسبِّـب السرطان.
ومع ذلك، لابد لنا من أخْـذ الحيطة ووضْـع نُـظُـم حماية قانونية، من شأنها أن تمنع بعض الأفراد من استِـغلال تكنولوجيا ما في صناعة أجهزة ذات أغراض دَنيئة أو في تحضير متفجّـرات أو في تلويث بيئي نَـنَـوي، يُـمكن أن يَـطال خطره السكان.
أجرت الحديث باولا بلترامي – لوزان – swissinfo.ch
تخرّج جيوفاني دي ميكيلي من قسم الهندسة النووية في المعهد التقني العالي في ميلانو في عام 1979، ثم تابع الدراسة في جامعة بيركلي (في كاليفورنيا – الولايات المتحدة) ليحصل على الماجستير في الهندسة الإلكترونية في عام 1980 ثم على الدكتوراه في تكنولوجيا المعلومات في عام 1983.
عمل في شركة آي بي إم IBM في نيويورك، ثم عاد إلى جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، ليعمل أستاذا فيها قبل أن ينتقل إلى سويسرا. ويشغل منذ عام 2008، منصِـب مدير قسم الهندسة الإلكترونية في مركز الأنظمة المتكاملة، التابع للمعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان.
اعتنى ضمن سلسلة أبحاثه بمُـختلف التقنيات المتّـصلة بتصوّر وتصميم النُّـظم المتكاملة، ذات الطبيعة غير المُـتجانسة والتي تدمج بين المكوِّنات الكهربائية والبصرية والميكانيكية الدقيقة والبيولوجية، وقد ألّـف عدّة كُـتب، وله ما يزيد عن 300 مقالة.
عضو في المعهد الدولي للهندسة الكهربائية والإلكترونية، وشغل فيه العديد من المناصب الإدارية، ويرأس حاليا اللجنة العِـلمية للمركز السويسري للإلكترونيات والتكنولوجيا الدقيقة في نوشاتيل، وهو عضو مؤسس ومستشار عِـلمي في معهد البحوث والدراسات المتقدِّمة في جامعة لوغانو (جنوب سويسرا)، كما أنه يُـشرف على البرنامج الفدرالي “نانو تيرا”.
نشأ مشروع “نانو تيرا” في عام 2008، وهو برنامج سويسري فدرالي لتمويل المشاريع العِـلمية في تقنية النانو الدّاعمة للصحة والأمن والبيئة، وتبلغ ميزانيته الإجمالية 120 مليون فرنك، موزعة على أربع سنوات من البحث العلمي، وتتحمّـل الحكومة الفدرالية 50٪ من هذه الميزانية، فيما يتحمل المشاركون في المشروع النصف الباقي من الميزانية.
تشارك في المشروع العديد من الجامعات، من بينها المعهديْـن التقنييْـن الفدراليين العالييْـن في لوزان وزيورخ، والجامعة السويسرية في القسم الناطق بالإيطالية والمركز السويسري للإلكترونيات والتكنولوجيا الدقيقة في نوشاتيل، وجامعة كل من بازل ونوشاتيل وجنيف، كما تشارك أيضا شركات عاملة في مجال تقنية النانو، تشكل فيما بينها مجموعات بحسب المشاريع.
يقوم “نانو تيرا” حاليا بتمويل 19مشروعا من كِـبار المشاريع، بعضها يهتَـم بالصحة، وبعضها الآخر يهتم بالبيئة، بينما يتّـجه بعضها نحو التكنولوجيا الأساسية فيما يمكن استخدامها بعد ذلك، سواء في الصحة أو في البيئة.
تتابع تطوير الدوائر المتكاملة (الرقائق) منذ السبعينات، وكانت القفزة الكبرى في مبدإ التوليف، أي في أساليب الكمبيوتر، التي تساعد في صناعة رقائق إلكترونية بواسطة برامج كمبيوتر، حتى غدت الآن صناعة الرقاقة كأنها عملية كتابة برنامج إلكتروني أو “سوفتوير”.
ساعد التطوّر التِّـقني في بُـلوغ العقدة النَـنَوية 32 نانومتر، والعُـقدة هي حجم الترانزستور أو الدائرة الإلكترونية، التي في داخل الرقاقة. مع العِـلم بأن عملية التصغير أو التقزيم، لا يمكن لها أن تتخطّـى حجْـم الجزيء، وإلا فقدَ العنصر صِـفاته الفيزيائية.
أدّى ظهور تقنية النانو إلى تحقيق نجاحات في ميدان الإلكترونيات النَـنوية، الأمر الذي حثّ الخُـطى نحو إنتاج أجهزة ذات هياكل وأحجام دقيقة، إلى الحدّ الذي تكون معه تكاليف التّـصنيع مقبولة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.