مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عندما يُحاول مجرمو الياقات البيضاء تكميم أفواه الصحافة

محتجون يرفعون صورة امرأة
قبيل اغتيالها يوم 17 أكتوبر 2017، مُورست ضغوط على الصحافية المالطية دافنيه كاروانا غاليسيا عن طريق رفع العديد من الدعاوى القضائية ضدها. Afp

في سويسرا، كما هو الحال في سائر البلدان الأوروبية وفي الولايات المتحدة، تتزايد الضغوط ومحاولات فرض رقابة على وسائل الإعلام ضعيفة التمويل. وتحذر حوالي ثلاثون منظمة غير حكومية من هذه الهجمات القضائية، التي تهدد حرية الصحافة.

فاض الكيل بالدعاوى القضائية بالنسبة لماري موريس وفرانسوا بيليه: ففي موفى شهر يناير وجد مؤسسا مجلة “غوثام سيتي” الالكترونية، المتخصّصة في الجرائم الاقتصادية والتي تصدر من كانتون فو، أنفسهما للمرة الخامسة خلال إثني عشر شهراً أمام المحكمة. والجريمة؟ لقد أرادا كتابة تقرير صحفي حول إدانة أحد مديري الثروات المقيمين بمدينة جنيف، والذي قام بإخفاء أموال أحد الأثرياء من “فاعلي الخير” الأجانب عن الضرائب.

تم تمويه هوية المُدان ـ وهذا وفقاً للقواعد السويسرية الصارمة الخاصة بنشر الأسماء. إلا أن القاضي رأى أن هناك خطراً من أن يتم التعرف على المُدان من خلال المقال، لذلك قرر حظر النشر. “لكن هذا يُعتبر تعديا سافرا على حرية الرأي، إنه فعل رقابي حقيقي”، على حد قول السيدة موريس.

المزيد
امرأة تحمل صورة امرأة في مظاهرة

المزيد

لماذا نحتاج إلى صحافة حُــرّة؟

تم نشر هذا المحتوى على فتاةٌ صغيرة بِجدائل ملفوفة ترنو إلى  عدسة المصور، وتحاول عدم إفلات حقيبة الظهر الكبيرة من يدها. وفي صورة أخرى، نشاهد صبياً يقف أمام الكاميرا، وهو يرتدي قميصاً قصير الأكمام وردياً طُبِعَت عليه صورة لمصارع – ويمسك بيده اليمنى حلوى غزل البنات لونها يطابق لون قميصه. كلا الصورتين التُقِطَتا في مدينة حلب السورية، لكن بِفارق زمني يصل إلى…

طالع المزيدلماذا نحتاج إلى صحافة حُــرّة؟

وبرغم اقتناع كلا الصحافيين موريس وبيليه أنهما على الحق، لكنهما أذعنا. “لقد قمنا بدفع 3000 فرنك سويسري بالفعل كأتعاب محاماة ولم يكن لدينا لا المال ولا الطاقة، لاستئناف الحكم. لذلك قررنا، عدم نشر المعلومات”، مثلما تقول ماري موريس.

“الأثر التثبيطي”

لقد لاحظ برتيل كوتييه، أستاذ قانون الإعلام بجامعة سويسرا الناطقة بالإيطالية، زيادة في الإرهاب القضائي للإعلام: “حتى إن كسب الصحفي أو الصحفية في نهاية المطاف القضية، فإن كل هذه الدعاوى القضائية تؤدي إلى إرهاقه وردعه. وهذا ما نسميه بـ ‘الأثر التثبيطي’: فالضغط القضائي يهدف إلى منع الإعلاميين من القيام بدورهم كمراقبين لما يحدث في المجتمع”.

إن هذا الصراع بين أصحاب الأعمال الأثرياء، الذين يمكنهم تكليف أفضل المحامين، وبين وسائل الإعلام ضعيفة التمويل يُصبح أقل تكافؤاً باطّراد. “فصحيفة محلية أو شركة إعلامية مستقلة وجديدة مثل “غوثام سيتي Gotham City”، “بون بور لا تيت Bon Pour la tête” أو “ريبوبليك Republik” لا يُمكنها تحمل دفع عدة آلاف من الفرنكات على سبيل التعويض. ولكن مثل هذه الوسائل الإعلامية الصغيرة على وجه الخصوص، هي التي تساهم في تعددية الصحافة وتنوعها”، على حد قول السيد كوتييه.

رجل وامرأة يجلسان متجاورين على مقعد خشبي في حديقة عامة
يُعاني ماري موريس وفرنسوا بيليه، مؤسّسا رسالة “غوثام سيتي” الاخبارية الألكترونية، من مقاضاة رجال الأعمال المنتظمة لهما، حيث يسعى هؤلاء جاهدين إلى عدم نشر أسمائهم. swissinfo.ch

وفي القضايا الأربعة الأخرى الحالية كانت مجلة “غوثام سيتي” هدفاً لما يُعرف بالإجراءات “المؤقتة بامتياز”. حيث تسمح هذه النوعية من الاجراءات للقاضي أو القاضية بمنع صدور إحدى المقالات، وكثيراً ما يحدث هذا حتى قبل نشره وبدون الرجوع إلى الإعلاميين المسؤولين، إذا ما ثبت وجود خطر الهجوم “المباشر” على كرامة وسُمعة المدعي. “إنها أداة حاسمة، مخصصة للاستخدام عادةً في الحالات الضرورية، لكن يُساء استخدامها اليوم بشدة”، مثلما يصرح السيد بيليه.

أداة رقابية

على الرغم من أن المحاكم كانت تعترف بوجود مصلحة عامة في تداول تلك المعلومات وتسمح بالنشر في نهاية الأمر، إلا أن مثل هذه الحوادث تترك أثرها. ففي حالتين منهما، لم يقم المدعين بدفع أتعاب المحاماة للطرف المنتصر. “لقد اضطررنا في عام 2020 إلى دفع عشرين ألف فرنك كإجمالي أتعاب المحاماة. وهذا يمثل أجور كافة العاملين بفريقنا عن شهر كامل”، تقول السيدة موريس.

صحيح أن عزمهما على كشف الفساد والاختلاسات وغسيل الأموال لم يفتر. إلا أن مُؤسّسيْ “غوثام سيتي” أصبحا أكثر حذراً. “لا يُمكن لنا أن نُصارع في كل مرة. فإذا علمنا أننا سوف نتورط في مشكلات، فقد نترك الأمر برمته في بعض الأحيان. وهذا يُعدّ من قبيل الرقابة الذاتية”، كما تصرح ماري موريس.

وجدير بالذكر أن هذه الظاهرة لا تقتصر على سويسرا وحدها. ففي الولايات المتحدة، أصبح الصحفيون والصحفيات هدفاً لما يُعرف بالدعاوى الاستراتيجية ضد المشاركة الشعبية المعروفة اختصاراً بدعاوى “SLAPP”. وهذه دعاوى يتم فيها إساءة استخدام القانون بهدف تكميم أفواه المعارضين في جدل علني بعينه. وبهذا يجري ممارسة الضغط على الإعلاميين، وكذلك على الشخصيات العامة من المجال الأكاديمي أو من المنظمات غير الحكومية. وسرعان ما انتشرت دعاوى “SLAPP” في أوروبا وفي قلب الديمقراطيات الليبرالية أيضاً.

“لا يُمكن لنا أن نصارع في كل مرة. فإذا علمنا أننا سوف نتورط في مشكلات، فقد نترك الأمر برمته في بعض الأحيان. وهذا يُعدّ من قبيل الرقابة الذاتية”

ماري موريس، المشاركة في تأسيس “غوثام سيتي”

في موفى شهر مارس 2021، دشنت منظمة مراسلون بلا حدود وحوالي ثلاثين منظمة غير حكومية أخرى منصة للتشهير بـ “استخدام الدعاوى القضائية لإرهاب وتكميم الأصوات الناقدة” وللعمل على مكافحتها على المستوى الأوروبي. وفي الثامن عشر من مايو المقبل، سوف تقوم المنظمة المُدافعة عن حرية الصحافة بالإعلان عن الشركات والشخصيات السياسية الأكثر رفعاً لدعاوى قضائية ضد الإعلاميين.

توعية المحاكم بحرية الصحافة

أما أكثر الأحداث التي ساهمت في إطلاق هذه المبادرة فقد كان مقتل الصحفية المالطية دافنيه كاروانا غاليسيا في أكتوبر 2017، والتي كانت تجري تحقيقات صحافية حول وقائع فساد. “فقبل أن تقتل، كانت دافنيه كاروانا غاليسيا هدفاً لأكثر من خمسين دعوى قضائية. لقد قضت أوقاتاً طويلة جداً أمام المحاكم، مِمّا ترك أثراً مُعيقاً على عملها الاستقصائي، مثلما يمكننا أن نتخيل”، على حد قول دوني ماسميجان، الأمين العام للفرع السويسري لمنظمة مراسلون بلا حدود.

وعلى الرغم من عدم وقوع حادثة صارخة مثل هذه في سويسرا لحسن الحظ بعد، إلا أن ماسميجان يرى أنه يجب رفع وعي القضاء السويسري. “لا بد أن تتطور التشريعات وخاصة فيما يتعلق بإجراءات الرقابة السابقة. كما يجب أن يستخدم القضاة والقاضيات القانون بصورة تُنْصِف الإعلاميين وتحترم حرية الصحافة”، على حد قوله.

محتويات خارجية

في سياق متصل، فإن الإجراءات المؤقتة والتدابير المؤقتة بامتياز، التي تم إقرارها عام 1984 من طرف غرفتي البرلمان الفدرالي تنص بوضوح على شروط أكثر صرامة لتطبيقها على الإعلام، ذلك لأنها تمس صميم حرية الصحافة. “لكنها كثيراً ما أدت إلى وقوع صدامات بين السياسة والقضاء والإعلام”، كما يقول السيد كوتييه. “وقد رأينا عام 2019 مجدداً، حينما حاول العديد من الوزراء في حكومات محلية لكانتونات ناطقة بالفرنسية [وهم باسكال برولي، وكريستوف داربولاي، وجاكلين ديه كواترو، وبيير موديه] الحيلولة دون نشر بعض من المقالات أو الكتب، التي ورد ذكرهم فيها”.

أتعاب محاماة مدفوعة مُقدّماً

ختاماً، ووفقاً لأقوال مؤسسيْ مجلة “غوثام سيتي”، فإن الحل الممكن قد يتمثل في تغيير القانون والمطالبة بضمانات مالية في حال التقدم بطلب لتطبيق الإجراءات المؤقتة بامتياز، مثلما هو الحال في الدعاوى القضائية الأخرى. “وهذا قد يؤدي إلى ضمان قيام المدعين – والذين يكونون في كثير من الأحيان من أصحاب الأعمال الأثرياء القاطنين بالخارج – بتحمل مصاريف التقاضي التي تتكلفها وسائل الإعلام المُدَّعى عليها ظلماً”، على حد تصريحات السيد بيليه.

وحتى يتم تغطية تكاليف التقاضي وعدم تعريض وجود منصة “غوثام سيتي” حديثة العهد للخطر، توجه كل من فرانسوا بيليه وماري موريس إلى إحدى المنظمات الخيرية، التي قدمت لهما دعماً مالياً. ذلك أن الصحفيّيْن مُصمّمان على الاستمرار في تسليط الضوء على الحقائق التي يسعى خصومهما من المتقاضين الأثرياء إلى إخفائها والتفصي منها.

تحتل سويسرا بؤرة التحقيقات القضائية حول أكثر ثلاث وقائع اختلاس لأموال عامة، ظهرت للعلن على مستوى العالم، وهي: بتروبراس (البرازيل)، 1MDB (ماليزيا)، وفنزويلا.

و “مع انتهاء العمل بما يُعرف بالسرية المصرفية لدافعي الضرائب الأوروبيين، قامت العديد من المصارف بنقل مراكز ثقلها إلى الدول الصناعية الناشئة، وأصبحت بذلك معرضة لأخطار بالغة من الفساد والاختلاس وغسيل الأموال”، يقول فرانسوا بيليه، أحد مؤسسي مجلة “غوثام سيتيرابط خارجي“.

وتجدر الإشارة إلى الضجة التي أثارتها “غوثام سيتي” في أنغولا في سبتمبر 2020، حينما أماطت اللثام عن مصادرة سويسرا لـ 900 مليون دولار. وكانت هذه الأموال ملكاً لأحد أصحاب الأعمال وثيقي الصلة بحكومة الرئيس السابق خوسيه إدواردو دوس سانتوس.

ففي كل أسبوع تقريباً، تتلقى سويسرا طلبات من بعض الدول النامية للحصول على مساعدة قضائية. وتقوم “غوثام سيتي” باكتشافاتها بناء على مصادر المعلومات العلنية هذه. ومن ثم يتم مشاركة هذه المعلومات مع المشتركين في منشورات المجلة، ومن بينهم مصارف ومكاتب محاماة، ومنظمات غير حكومية، ووسائل إعلام، وكذلك مؤسسات قضائية وهيئات فدرالية.

للعلم، تقوم swissinfo.ch في إطار شراكتها، بنشر إحدى مقالات “غوثام سيتي” شهريا، والتي تهم القراء الدوليين بصفة خاصة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية