مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أمريـكا: “أفغنة” العراق ثم .. “عرقنته” ؟!

من المنتظر أن يتوارى الجيش الأمريكي شيئا فشيئا عن أنظار معظم العراقيين لكنه لن يغادر العراق قريبا .. Keystone

في ظل التطورات الجارية على الساحة العراقية، يتساءل كثيرون هل بدأ العراق خطواته الاولى نحو "الأفغنة" على "الطريقة الاميركية"؟

ولكن قبل محاولة الاجابة على هذا السؤال الخطير، لنتفق أولا على مفهوم “الأفغنة”..

في السابق، كان هذا المصطلح يعني تفتت البلاد الى مقاطعات يحكمها أمراء حرب محليون. لكنه بعد الغزو الاميركي العام لأفغانستان العام 2001، بات يعني شيئا آخر: حكومة مركزية صغيرة محاصرة في العاصمة، وقوات خاصة أمريكية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بعملية “بناء الامة” (أو الدولة)، إذ عملها يقتصر على مقاتلة “الارهابيين” في الجبال الافغانية.

وبالطبع، هذا المشهد يندرج في إطار لوحة عامة إسمها الحرب الاهلية الشاملة، التي يتنازع فيها أمراء الحرب الاثنيون والطائفيون الافغان الثروة والسلطة.

هذا النمط من “الافغنة الاميركية” بدأ يطل برأسه الان في العراق، بعد أن بات واضحا ان كل الخطط الاميركية السابقة للسيطرة العسكرية المباشرة على بلاد ما بين الرافدين باءت بالفشل.

البدايات

المؤشرات؟ .. إنها عديدة:

1- مع نقل السلطة إسميا الى العراقيين في 28 حزيران الماضي، باشرت القوات الاميركية الانسحاب من المدن العراقية الى مواقع ثابتة وأكثر قابلية للدفاع، وأصبح دورها مقتصرا على حماية منشآت النفط وانابيبه، ومقرات الحكومة العراقية، ومواقع البنية التحتية، مع وضع الطيران بكل أنواعه تحت تصرف الحكومة المؤقتة العراقية.

2- مراهنة واشنطن على أن هذا الاختفاء عن المشهد المباشر، سيجبر المقاومين على توجيه ضرباتهم الى العراقيين بدل الاميركيين، الامر الذي سيثير نقمة الشعب عليهم.

3- إضافة، لا يستبعد المسؤولون الاميركيون ان يؤدي الفراغ الامني المتوقع، الى بروز تنافس على السلطة في “المقاطعات” التي تحكمها المقاومات الاصولية السنية والشيعية والبعثية، الأمر الذي سيؤدي بدوره الى توجيه البنادق بعيدا عن صدور الاميركيين.

ويلخّص الكاتب الاميركي ديفيد أغناتيوس هذه الافغنة للعراق بقوله: “البلاد قد تتحلل الى إقطاعيات أو الى تقسيم فعلي. وفي كلا الحالين، سيكون هذا شأنا عراقيا لا امريكيا، يعتمد على رغبات ومطالب العراقيين أنفسهم”.

علاوي وقرضاي

هل يعني هذا التطور أن إياد علاوي، رئيس الحكومة العراقية المؤقت، سيتحّول الى حميد قرضاي آخر، لا سلطة له سوى على بعض الشوارع المحيطة بقصره في كابول؟

حسنا. واشنطن تقول أنها تأمل بقوة ان ينجح علاوي في إعادة تشكيل بعض الفرق العسكرية العراقية السابقة لمواجهة المقاومات البعثية والاصولية. لكن في الوقت ذاته، لا هي تعّلق كبير آمال على هذا الامل، ولا هي تسهل له حياته ومهمته.. والأسباب معروفة.

فالادارة الاميركية الحالية لا تزال ترفض طلب علاوي بأن يتشكّل الجيش العراقي الجديد من نحو 250 ألف جندي، وتصّر على ان يكون أقل من 50 ألفا، بحجة أنها لا تريد أن يتحول الجيش العراقي مجددا الى تهديد لجيرانه أو لشعبه.

وحتى مع هؤلاء الخمسين ألفا، ليس ثمة ما يشير الى ان الاحتلال الاميركي سيكون مستعدا لتزويد هذه القوات المحدودة بأكثر من أسلحة محدودة وخفيفة، وحتما ليس بالدبابات والطائرات.

وحكومة علاوي نفسها ستكون عاجزة عن تشكيل هذا الجيش خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الخمسة أشهر، في ظل ظروف امنية صعبة تجبر القادة العراقيين (على ما يقال) على النوم في الكويت وقطر ليلا، والانتقال صباحا الى بغداد بطائرات عسكرية اميركية.

ثم، وهنا الاهم، حتى لو نجح رئيس الحكومة العراقية بإعادة لم شعث بعض فرق الجيش السابق، فليس مضمونا إطلاقا أنه سيتمّكن من تحقيق ما عجز عنه الجيش الاميركي: إلحاق الهزيمة العسكرية والامنية بالمقاومات المختلفة.

فخلال الاشهر الستة الماضية، كانت المقاومات العراقية ترسخ أقدامها بقوة في كل المناطق العراقية، الى درجة ان مسؤولا عسكريا امريكيا بارزا إعترف مؤخرا بأنه بات يقع يوميا ما بين 40 الى 60 هجوما على قوات التحالف، معظمها لا تشير اليه أجهزة الاعلام.

ويضيف المسؤول أنه “لن يكون من السهل البتة ضرب هذا التمرد، الذي تطور خلال العام الماضي من حرب عصابات كلاسيكية تعتمد على مبدأ “أضرب وأهرب”، الى حملة متعددة الرؤوس ضد جملة منوعة من الاهداف”.

وهذه الاهداف تشمل: زرع القنابل على جوانب الطرق؛ الخطف والكمائن؛ القصف بمدافع المورتر والصواريخ؛ الهجمات الانتحارية بالسيارات المفخخة؛ الهجمات المتزامنة بالقنابل في طول البلاد وعرضها؛ إسقاط الطائرات ومهاجمة المطارات، واخيرا إغتيال المسؤولين والسياسيين ورجال الدين وقوات الشرطة.

ويعتقد المحللون الغربيون ان القسم الاكبر من العمليات العسكرية، يقوم به البعثيون من بقايا الحرس الجمهوري والقوات الخاصة واجهزة المخابرات وفدائيي صدام.

وقد نقل مؤخرا عن ثلاثة جنرالات عراقيين سابقين قولهم بأن التخطيط لحرب العصابات الراهنة، تم قبل سقوط بغداد في أبريل 2003 بوقت طويل، بعد ان تأكدت القيادة البعثية بانها لن تكون قادرة على مواجهة القوات الاميركية في حرب كلاسيكية.

بيد ان هذا لا يعني ان الاصوليين السّنة، الذين يعتبر بعضهم قريبا من تنظيم “القاعدة” كحركة الجهاد والتوحيد التابعة لأبي مصعب الزرقاوي، أقل خطرا. وعلى أي حال، القوة والقدرات التنظيمية لهؤلاء بدت واضحة قبل أسبوعين حين شنوا هجمات منسقة في العديد من المدن العراقية أودت بحياة اكثر من 100 عراقي. كما تبدت أيضا في معارك الفلوجة التي شاركوا فيها بكثافة. ويعتقد الخبراء ان الأصوليين السنة يتشكلون من “مجاهدين” عربا من خارج العراق، كما من متطرفين دينيين عراقيين.

بيد ان واشنطن وبغداد تراهنان هنا على إحتمال نشوب “صراع على السلطة” بين المقاومين البعثيين والاصوليين (وأيضا بين الميليشيات السنية – الشيعية، والشيعية- الشيعية) في المناطق التي ستخلو من الوجود الامني الامريكي.

كما تراهنان أيضا على ان البعثي السابق علاوي، الذي يتشّكل حزبه “الوفاق الوطني العراقي” من ضباط بعثيين سابقين، سيتمّكن من إستقطاب عناصر من المقاومة البعثية الى جانبه لخوض حرب مشتركة ضد المقاومين الاصوليين، خاصة بعد ان اعاد أكثر من 12 ألف موظف بعثي الى أعمالهم في وزارتي الصحة والتعليم.

إستراتيجية جديدة

حسنا.. الى أين من هنا؟

ترجيحات المحللين الشرق أوسطيين تميل الى توقع نشوب حروب اهلية عراقية، أو بروز “ديكتاتورية” محدودة في بغداد، او كليهما معا.

لكن، وفي أي من الحالين، سيكون في وسع الاميركيين تحقيق التالي:

* الاعلان بأن العراق أصبح بعد 28 يونيو دولة ذات سيادة، وانهم لا يتدخلون في خيارات العراقيين، مهما يكن شكل هذه الخيارات.

* بدء سحب القوات الاميركية من المناطق المدينية (عدا “كابول علاوي”)، ونشرها في 20 قاعدة عسكرية تشرف منها على مناطق النفط في الشمال والجنوب.

* إعادة اكثر من 90 ألف جندي الى الولايات المتحدة، والاحتفاظ بنحو 50 ألف جندي في العراق، على أن يبقى هؤلاء هناك لأكثر من 20 عاما( كما قال مؤخرا مسؤولون اميركيون كبار لصحيفة “كريستيان ساينس مونيتور”) .

* واخيرا، الافادة من التجربة العراقية، للقيام بإعادة نظر شاملة للأستراتيجية العسكرية الاميركية في الشرق الاوسط الكبير وباقي أنحاء العالم.

النقاشات حول هذه النقطة الاخيرة بدأت، وبكثافة، في واشنطن. ومن بين الاسئلة التي طروحت الان بسبب حرب العراق، التي أثبتت انها كانت اطول واكثر كلفة مما إعتقد المخططون الاميركيون: ما نوع النزاعات المستقبلية التي يجب توقعها والاستعداد لها؟ كيف يجب تغيير تركيبة وإنتشار القوات الاميركية في العالم؟ وما مصير “الحروب الاستباقية” التي بشّر بها المحافظون الجدد؟

جوهر هذه النقاشات يتمحور حول ما يسمى “مبدأ باول” (الاهداف الواضحة للحرب الاستخدام الكاسح للقوة، إستراتيجية خروج واضحة)، في مواجهة “مبدأ رامسفيلد” (عدد أصغر من القوات البرية عالية الحراك والمناورة، التشديد الكبير على العمليات الخاصة، والاعتماد على القوة الجوية ذات التكنولوجيا المتفوقة).

ويقول هنا الكاتب الاميركي براد نيكربوكر أن كل الدلائل تشير الى أن تجربة العراق ستسفر عن تحويل الجيش الاميركي الى قوة قادرة على التدخل في النزعات السياسية، والتمردات، وعمليات حفظ السلام في شتى انحاء العالم، بدلا من التركيز على الحروب التقليدية.

بيد ان هذا التطوير سيتم على أساس “مبدأ رامسفيلد”، أو بعض جوانب هذا المبدأ على الاقل. بمعنى انه سيواصل التشديد على القوات الخاصة الصغيرة، والتكنولوجيا المتطورة، وقوة الطيران، مع دمج هذه التكتيكات العسكرية بإستراتيجيات سياسية واضحة لحقبة ما بعد النزعات المسلحة.

أليس هذا بالتحديد ما يطبق الان في أفغانستان؟

أجل.. وهذا أيضا ما قد يطبق قريبا في العراق، مع إدخال التعديلات الاستراتيجية العسكرية والسياسية الجديدة.

وحين يحدث ذلك،(والارجح أنه سيحدث قريبا)، قد يتوقف الحديث عن “أفغنة” الصراعات في العالم، ليبدأ الحديث عن “عرقنة” هذه الصراعات!

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية