مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أمريكا والشرق الأوسط: لا انـحـسـار؟

جورج بوش يتحدث إلى وسائل الإعلام إثر اللقاء الذي عقده يوم 12 مايو 2006 مع عدد من وزراء الخارجية الأمريكيين السابقين في البيت الأبيض Keystone

ثمة سؤال كبير يحوم كالشبح في سماء الشرق الأوسط منذ أمد غير قصير بدون أن يحظى بإجابات شافية..

يقول السؤال: هل سيبدأ الانحسار الاستراتيجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط مع بدء التراجع المتوقع للقوات الأمريكية من العراق قبل نهاية هذا العام؟

سؤال خطير بالطبع. لكنه مطروح بقوة، ليس فقط بسبب المتاعب الأمريكية الجمة في بلاد الرافدين، التي كلفتها حتى الآن أكثر من 2000 قتيل و10 آلاف جريح (والعد مستمر) ونحو 250 مليار دولار (والحبل ما زال على الجرار)، وليس أيضاً لأن المشروع الأمريكي لتغيير الشرق الأوسط الكبير يحظى بممانعة قوية على حد سواء من خصوم أمريكا، الإيرانيين والسوريين والفلسطينيين واللبنانيين، ومن حلفائها السعوديين والمصريين وغيرهم، بل لأن أمريكا ستكون بعد حين مضطرة للالتفات إلى التطورات الجِـسام التي تجري الآن في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا.

“دولة صليبية”

السؤال إذن له مبرراته، لكن قبل التطرق إليه، نشير أولاً إلى أن هناك جدلاً مثيراً يجري في الداخل الأمريكي منذ نهاية الحرب الباردة عام1989، يتمحور برمّـته حول رغبة الولايات المتحدة أو حتى قدرتها على إقامة إمبراطورية عالمية.

وعلى سبيل المثال، نشر الكاتب الأمريكي روبرت ميري مؤخراً كتاباً بعنوان “رمال الإمبراطورية: السياسة الأمريكية ومخاطر طموحها”، قال فيه “إن لا أحدا يستطيع هزيمة أمريكا، لكن أمريكا مهددة بهزيمة نفسها”.

المقدمة التي أملت على ميري هذه الخلاصة كانت بسيطة: أمريكا لا تفهم العالم، وهي، خاصة مع إدارة بوش التي تتشكل من تحالف الواقعيين الكيسنجرييين المؤمنين بفلسفة القوة والقوميين المحافظين (رامسفيلد وتشيني) والمحافظين الجدد، تحوّلت إلى “دولة صليبية” جديدة تسعى لتغيير العالم وفق صورتها. وفي خِـضم هذا الانقلاب، تخلت الولايات المتحدة عن الأسلوب الأمثل في السياسة الخارجية القائم على التعاون الدولي الذي أرسى دعائمه الرئيس وودرو ويلسون في أوائل القرن العشرين.

الرؤوس التي يدحرجها هنا الكاتب متهماً إياها بتعريض أمن أمريكا وزعامتها للخطر، عديدة: من وليام كريستول وبول وولفوفيتز وماكس بوت (المحافظون الجدد)، إلى صموئيل هانتغتون وبرنارد لويس (أنصار حروب الحضارات)، مروراً بكاتب “نيويورك تايمز” توماس فريدمان، الذي يدّعي أن أمريكا يجب ألا أن تكتفي بأن تكون زعيمة العالم، بل عليها أيضاً أن تنشر الفكر الرأسمالي في العالم كله، إضافة إلى نشر فكر العولمة.

كل هؤلاء، برأي ميري، يشوّهون نظرة أمريكا إلى العالم، مما يجعلها عاجزة عن فهم هذا العالم في صورته الحقيقية، وهذا ما حدث في العراق حين اكتشفت واشنطن أنها فجـّرت بحربها عليه سلسلة مفاجآت طائفية وعرقية وقومية، لم تكن لتتوقعها، وهذه التجربة التراجيدية مرشحة للتكرار في باقي أنحاء العالم، إذا ما استمر “عمى الألوان” السياسي في واشنطن.

منطق مقنع؟

بالتأكيد، خاصة وأنه ليس الوحيد من نوعه. فثمة محللون فرنسيون وبريطانيون سبقوا ميري إلى الاستنتاجات ذاتها حول “الهزيمة الذاتية” الأمريكية، ولكن من مداخل أخرى.

من هؤلاء مثلاً، الفرنسي إيمانويل تود، الذي “تنبّـأ” بأن وحش العولمة الذي أطلقته أمريكا في العالم، سيأكل أول من يأكل أبناءه: الأمريكيون أنفسهم. لماذا؟ لأن تصدير الوظائف (outsourcing)، والاعتماد على الكفاءات الخارجية في التطوير والإبداع، وإدمان الاقتصاد الأمريكي على الاستثمارات والأرصدة الأجنبية، سيقلب أمريكا من دولة مُـنتجة إلى دولة مستهلكة، وسيحد من قدرتها على تمويل إمبراطوريتها العالمية.

أما البريطاني بول كينيدي، فيتوقع أن تُـصاب الولايات المتحدة قريباً بالمرض القاتل ذاته الذي ضرب كل الإمبراطوريات السابقة في التاريخ: التمدد الاستراتيجي الزائد، وخلل التوازن بين المدفع والزبدة.

الآن، إذا دمجنا أفكار ميري وتود وكينيدي في وعاء واحد، ووضعنا الوعاء على نار خفيفة، فعلى أي وجبة سنحصل؟

على وجبة وحيدة: أمريكا، وبرغم كل الجهود الهائلة لجبابرة مراكز أبحاثها ودراساتها، وبرغم كل إستراتيجيات بوش للأمن القومي الهادفة لمنع ظهور أي قوة أخرى منافسة لأمريكا، لن تستطيع في النهاية الهروب من القانون الحديدي التاريخي الخاص بصعود وسقوط القوى العظمى، فهذا قدر لا مفر منه، وهو سُـنّـة حياة لا مناص منها.

وبالتالي، السؤال هنا ليس هل تنحدر القوة الأمريكية العالمية، بل متى؟. وهذا الـ “متى” قد تنفع بسرعة كبيرة، إذا ما واصل الثلاثي المحافظ الحاكم الحالي في واشنطن جهوده الخطرة الراهنة لتحويل بلورة القوة الأمريكية إلى ما وصفه روبرت ميري، وعن حق، بـ “الدولة الصليبية الجديدة” الطموحة والجموحة.

عوامل اللا إنحسار

نعود إلى سؤالنا الأولي: هل سينطبق هذا القانون الحديدي أيضاً على الشرق الأوسط؟ كلا! لماذا؟ ردّ مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية على هذا التساؤل، حين نشر في أوائل هذا العام تقييماً إستراتيجياً، إستنتج فيه أن أية إدارة أمريكية جديدة ستخلف بوش (بما في ذلك إدارة ديمقراطية) ستكون مضطرة للاحتفاظ بنسبة كبيرة من القوات الأمريكية في العراق وباقي أنحاء الشرق الأوسط، لاعتبارات عديدة تتلخّـص في ثلاث نقاط: النفط، الاستراتيجيات العليا، والعولمة.

أولاً، النفط. خلال الأشهر الستة الأخيرة، صدرت ثلاث كتب تتقاطع كلها عند نقطة واحدة: الوفرة النفطية العالمية انتهت أو تكاد، والندرة النفطية العالمية بدأت أو تكاد، وعما قريب ستندلع حروب موارد جديدة قد لا يكون لها سابق في التاريخ.

ثانياً، الإستراتيجيات العليا. حروب الموارد هذه، تعني شيئاً واحداً: من يُـسيطِـر على النفط، يركـّز السلطة والقوة الاقتصادية بيده. وبالنسبة لأمريكا، هذه السيطرة جزء أيضاً من رؤية جيو – إستراتيجية أوسع، هدفها التحكم بقارة أوراسيا قلب العالم.

أبرز المحللين الذين تطرقوا إلى هذه النقطة، كان سمير أمين في إطار نظريته “الإمبريالية الجماعية”، فهو يرى (انظر مجلة “مونثلي ريفيو” – 2004)، أن مشروع بوش لإحكام السيطرة على أوراسيا من خلال السيطرة على نفط الشرق الأوسط، “لم ينبثق من بنات أفكاره لتطبِّـقه عصبة من المحافظين الجدد المتطرفين، بل هو مشروع الطبقة الحاكمة الأمريكية منذ 1945”.

ويضيف: “لقد فهمت المؤسسة الأمريكية جيداً أن سعيها للهيمنة، يستند إلى ثلاث عناصر تفوّق على منافسيها الأوروبيين واليابانيين، في طليعتها السيطرة على الموارد الطبيعة للكوكب، والاحتكار العسكري، وهيمنة الثقافة الأمريكية”.

ثالثاً، العولمة. العامل الأخير الذي يدفع النخب الأمريكية إلى التوحد حيال العراق، هو ظاهرة العولمة. وبرغم أن هذا العامل لم يستوف بعد حقه من الدراسات المستفيضة، بصفته أحد المحركات الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، إلا انه بدأ يطل برأسه بشكل متزايد مع انغماس أصحاب القرار الأمريكيين في بحث كيفية التعاطي مع “الدول الفاشلة” في العالم، والتي يعرّفونها بأنها تلك التي تعجز عن تحقيق الأمن لشعوبها فتشكـّل بالتالي، مرتعاً للإرهاب.

الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين

بيد أن الباحث الأمريكي توماس بارنيت، أبرز محلل إستراتيجي في البنتاغون، نشر مؤخراً دراسة بعنوان “خريطة البنتاغون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين”، أوضح فيها مدى الارتباط الكبير بين مفهوم “الدولة الفاشلة” ومفهوم العولمة، عبر تمييزه بين نوعين من الدول: الفاعلة وغير الفاعلة.

فأي دولة أو منطقة تكون فاعلة برأيه، حين تدمج ما هو قومي بما هو اقتصاد عالمي (الأفكار، المال، الإعلام)، وحين تسعى إلى تنسيق “قواعد حكمها الداخلي” مع الحكم العالمي الصاعد (مثلا عبر الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية).

ومن خلال مسحه لـ 140 عملية عسكرية أمريكية في فترة التسعينات، اكتشف بارنيت أن القوات الأمريكية ذهبت بالتحديد إلى الدول الواقعة خارج مركز العولمة التي يسميها “الفجوة غير المندمجة”، وهي: حوض الكاريبي وإفريقيا والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا والكثير من جنوب شرق آسيا.

ويرى المؤلف أن أحداث 11 سبتمبر كانت “هبة من السماء برغم قسوتها”. فهي كانت دعوة من التاريخ لأمريكا كي تبدأ في فرض قواعد جديدة للعالم. العدو في العالم الجديد ليس الإسلام ولا الجغرافيا أو التاريخ، بل “عدم الارتباط بالعولمة” الذي يعني العزلة والحرمان والقمع، وهذه كلها علامات خطر.

وبالتالي، إذا فشلت دولة ما في الانضمام إلى العولمة أو رفضت الكثير من تدفقاتها الثقافية، فإنها ستجد في النهاية القوات الأمريكية على أراضيها.

النفط، الاستراتيجيات العليا والعولمة، كل هذه إذن عوامل تلعب أدوارا بارزة في تكييف إطلالة النخب الأمريكية على الشرق الأوسط، طبعاً في اتجاه رفض “القطع والهرب”.

بيد أن رفض الهرب لن يعني بالضرورة الإبقاء على الوضع الراهن. فكما أن هناك إجماعاً أمريكياً على “استحالة” التخلي عن ثاني احتياطي من النفط في العالم، ثمة إجماع آخر على بلورة “إستراتيجية خروج” توفّر إمكانية استمرارية السيطرة الأمريكية على هذا الاحتياطي، وهذا سيعني أمرا واحداً: مشروع المحافظين الجدد الطموح لتغيير الشرق الأوسط بشطحة قلم انتهى أو يكاد، خاصة مع الصعود القوي للإسلام السياسي عبر الوسائل الديمقراطية في مصر وفلسطين وغيرهما. لكن فشل هذا المشروع، لن يعني الانحسار الاستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط الكبير. النبيذ سيتغير، لكن الزجاجات الأمريكية القديمة باقية على حالها.

بكلمات أوضح: أمريكا قد تخسر بعض المعارك في الشرق الأوسط، لكنها، لاعتبارات نفطية وإستراتيجية (والآن إيديولوجية مع صعود المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين)، لا تستطيع أن تخسر الحرب. فما هي في الميزان زعامة أمريكا العالمية نفسها، التي يجمع معظم المحللين على أنها ستستمر بلا منازع جدي حتى عام 2020 على الأقل؟!

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية