مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الأوروبيون في لبنان: “مقامرة كبرى”؟

جنود فرنسيون تابعون لقوات الأمم المتحدة (يونيفيل) يصلون إلى ساحل مدينة الناقورة الحدودية في جنوب لبنان يوم 25 أغسطس 2006 Keystone

"الأوروبيون قادمون، لكن ماذا سيفعلون"؟ لا أحد في لبنان يملك إجابة على هذا السؤال، ولا أحد في أوروبا أيضاً.

وقد لخّـص سيرجي إيفانوف، وزير الدفاع الروسي هذه المعضلة اللبنانية – الأوروبية المشتركة بالكلمات المعّبرة الآتية: “ليس من الواضح بعد ما ستكون عليه وضعية قوات حفظ السلام في لبنان ولا حقوقها ولا ما يجب أن تفعل هناك ولا الصلاحيات التي منحت لها”.

ماذا يعني هذا الغموض الذي يحيط بمهمة “اليونيفيل” الموسّـعة (قوات حفظ السلام الدولية)، التي قرّر الاتحاد الأوروبي، وبعد تردد كبير، تقديم نصف عددها الذي نصّ قرار مجلس الأمن رقم 1701 أن تكون بحدود 15 ألف جندي؟

شيء واحد: هذه ليست مهمة سلام أوروبية – دولية عادية جديدة، إنها مغامرة كبرى لا أحد يعرف بعد ما إذا كانت ستكون حفلة عرس أم ستنقلب إلى حفل عزاء.

لماذا؟ الجواب الشافي يمكن أن نجده لدى فرنسا، التي تُـعتبر الأب “الروحي” الحقيقي، ليس فقط للقرار 1701 الذي صدر لوقف “حرب الأسيرين” بين “حزب الله” المدعوم (من بعيد) سورياً وإيرانياً، وإسرائيل المدعومة (من قريب) أمريكياً.

ماذا في جعبة الموقف الفرنسي؟

بعد تقلّـبات مثيرة لباريس من الحماسة البالغة لإرسال 3000 جندي إلى لبنان ولقيادة القوات الدولية هناك إلى التراجع والاكتفاء في إيفاد 200 عسكري جلّـهم من المهندسين، حسم الرئيس الفرنسي جاك شيراك الموقف وأعلن عن إرسال 2000 جندي لخوض غِـمار مهمّـة، يَـعرف هو قبل غيره، أنها محفوفة بشتى المخاطر وكل أنواع الأعاصير.

التبريرات التي قدّمها شيراك لهذا التردّد بدَت مُـقنعة، وإن غير كافية: الحصول على “ضمانات من لبنان وإسرائيل بأن القوة الدولية ستتمكّـن من الاضطلاع بمهمتها” و”تقديم توضيحات من الأمم المتحدة حول تسلسل قيادة اليونفيل كي تكون متماسكة وفعالة” و”ضمان تمتّـع القوات الدولية بصلاحية استخدام القوة للدفاع عن نفسها ولحماية المدنيين”.

فهذه (التبريرات) مُـقنعة لأن لفرنسا تاريخا أسود وذاكرة عاطفية أكثر سواداً مع تجارب حفظ السلام. فهي خسرت عام 1983 في لبنان 58 جندياً في الهجمات الانتحارية التي شنّـها آنذاك “حزب الله”، والتي أودَت أيضاً بحياة 241 جندياً أمريكياً، حيث دفعت ثمناً أعلى في البوسنة خلال مهمّـة حفظ السلام في التسعينات، حين قُـتل 84 عسكرياً فرنسياً لأنهم افتقدوا إلى صلاحيات الرّدع والدّفاع عن النفس.

لكنها غير كافية، لأنها لا توضّـح لماذا كانت فرنسا وراء البند المتعلق بتشكيل قوة دولية ضاربة ورادعة، ثم تراجعت عن الالتزام بقيادة هذه القوة قبل أن يعيدها شيراك إلى موقفها الأولي. ثمة هنا دوافع أخرى قيد العمل دفعت الرئيس الفرنسي إلى العمل أخيراً، أبرزها على الأرجح إثنان:

الأول، الحماسة الإيطالية المفاجئة لإرسال 3000 جندي إلى لبنان ولقيادة القوات الدولية هناك، وهو تطوّر قرع ولاشك عشرات أجراس الإنذار في باريس، التي خشيت أن تكون روما في وارد وراثة دورها التاريخي والثقافي المميّـز في لبنان وسوريا.

والثاني، التّـهديدات المبطنة التي أطلقتها واشنطن باتجاه باريس، من أنها قد تلغي كل الصّـفقات السريّـة التي عقدتها معها منذ عام 2004 والتي ولد من رحمها القراران 1559 و1701.

الرئيس الأمريكي بوش كان مهذباً حين وضع هذه التهديدات في قفازات حريرية، فاكتفى بـ “مناشدة” الرئيس شيراك حسم موقفه من مسألة قيادة اليونيفيل.

لكن صديقهما المشترك، جيم هوغلاند، الكاتب في “واشنطن بوست”، ناب عن بوش في صياغة التحذيرات المباشرة لشيراك على النحو الآتي: “الأمريكيون، الذين طالما جادلوا بأن لفرنسا وأوروبا دوراً بنّـاء وإيجابياً تلعبانه في الشؤون العالمية – بما في ذلك الشرق الأوسط – لديهم رهان ضخم على قراراتك. إن الفشل في اغتنام واستخدام الفرصة الخطرة في لبنان، والتي ساعدت فرنسا نفسها على تشكيلها، سيغرق كل الآمال لتحقيق هذا الدور إلى أجل غير مسمى”.

ابتزاز على المكشوف؟ بالتأكيد. وهو يدل على أي حال، على مدى وحجم الطابع الإستراتيجي الرفيع الذي تضفيه أمريكا على إطلالتها على حرب لبنان. طابع يدفعها حتى إلى التهديد بنسف أثمن إنجازات إدارة بوش في السياسة الخارجية: التحالف الأمريكي – الفرنسي في الشرق الأوسط.

فرص أم مخاطر

الآن، وبعد قول كل شيء عن أبعاد الخطوة الفرنسية ومبرراتها، نأتي إلى السؤال الأهم: هل سيؤدي انبعاث الروح مجدّداً في مشروع القوة الدولية “الفعّـالة والنشطة” والتي ترقص على تخوم الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (استخدام القوة لفرض السلام)، إلى خروج لبنان من حال الحرب ودخوله إلى حال السلام؟ وهل فرص نجاح اليونيفيل في حلّـتها الجديدة، ستكون أكبر من مخاطر فشلها؟

لا يبدو أن الأمر سيكون على هذا النحو، ليس تماماً على الأقل. لماذا؟ هذا السؤال الثاني يُـعيدنا إلى تساؤلنا الأولي: لماذا تعتبر مهمّـة اليونيفيل التي تأسّـست عام 1978 للإشراف على انسحاب القوات الإسرائيلية الغازية آنذاك والتي ستتوسّـع عام 2006 لتُـحاول فرض هُـدنة سلمية دائمة بين لبنان وإسرائيل، مغامرة أشبه بالمقامرة؟

لسبب غاية في البساطة: إذا لم يكن هدف “اليونيفيل” المعزّزة تجريد “حزب الله” من سلاحه، ولا منع إسرائيل بالقوة من خرق السيادة اللبنانية، ولا حتى حراسة الحدود اللبنانية مع سوريا وإسرائيل، فماذا ستكون مهمتها إذن”؟

يُـدرك الأوروبيون بالطبع المخاطر الجمّـة في هذا الغموض، لكن لعابهم سال للفُـرص المحتملة التي قد تبرز: لعب دور كبير جديد في الشؤون العالمية عبر الشرق الأوسط. لقاء ذلك، الأوروبيون يبدون مستعدين لتحمّـل بعض الأكلاف البشرية والكثير من الأكـلاف المالية.

الرهان هنا واضح: إذا ما نجحت القوة الدولية اليوم في تهدئة لبنان، فستقفز غداً إلى غزّة وربما إلى الضفة للقيام بمهمة مماثلة. وحينها ستجلس أوروبا إلى طاولة المفاوضات لتقاسم الأغنام والمسؤوليات على قدم المساواة مع أمريكا في الشرق الأوسط، لا بل أكثر: بسبب علاقات بروكسل المديدة مع طهران، ربما تتمكّـن الأولى من لعب دور الوسيط، لكن على الأرض هذه المرة، بين الإيرانيين والأمريكيين المُـتصارعين على النفوذ في المنطقة.

طموحات كبيرة حقاً. لكن، هل هي قابلة للتنفيذ؟

معضلة الأوروبيين الكُـبرى ستتمثّـل في عدم قُـدرتهم على تشكيل أحداث الشرق الأوسط أو على الأقل التأثير فيها. كل شيء سيعتمد على المسار الذي ستسير فيه المجابهة الإيرانية – الأمريكية: فإذا ما نحت المجابهة نحو التسوية، سيزدهر المشروع الأوروبي وستتحوّل القوة الدولية في لبنان إلى رأس جِـسر لعبور (بل عودة) أوروبي تاريخي نحو الضفاف الشرقية للبحر المتوسط.

لكن، إذا ما ارتفعت حرارة هذه المجابهة وانفجر بُـركانها، فسيكون على هذا المشروع الأوروبي، إمّـا وقاية نفسه من حممها اللاهبة أو لملمة أغراضه والرحيل بأسرع ما يمكن.

الدهاء (أو الخبث بنظر البعض) الفارسي والتهوّر (بل الإندفاع برأي كثيرين) الأمريكي سيلعبان هنا الدور الأهم في تحديد مصير هذا المشروع، وهو دور لا يبدو أنه سيكون إيجابياً البتّـة بالنسبة للأوروبيين.

فطهران وافقت على قُـوات فصل بينها وبين إسرائيل على الحدود اللبنانية، لأنها على الأرجح تحسب على النحو الآتي: طالما أن القوات الأوروبية لن تتصدّى لحزب الله ولا لعملية إعادة تسليحه وتعزيزه، فسيكون الجنود الأوروبيون الـ 7000 في جنوب لبنان، عاجلاً أم آجلاً، “سبايا” في يدها، تماماً كما انقلب الجنود الأمريكيون الـ 150 ألفاً في العراق “رهائن” لديها.

في المقابل، ترى واشنطن في هذا الوجود العسكري الأوروبي في لبنان فرصة ذهبية لخدمة هدفين ثمينين إثنين: الأول، منع إيران من فتح جبهة لبنان ضدّها وضدّ إسرائيل. والثاني، توريط بروكسل مباشرة في الصّـراع مع طهران، خاصة إذا ما وصل رذاذ الصِّـدام الأمريكي- الإيراني المحتمل إلى العواصم الأوروبية في شكل عمليات إرهابية.

كما هو واضح، رحلة “يونفيل شيراك” إلى بلاد الأرز لن تكون نُـزهة مرحة في يوم ربيعي جميل. إنها بالأحرى رحلة نحو “شراك” لا حصر لها. شيراك يُـدرك تماماً طبيعة هذه الشراك. لكن ضرورات الدور العالمي الأوروبي أباحت لديه محظورات القيام بثاني مغامرة حفظ سلام في لبنان منذ عام 1983. فهل ينجح هذه المرة أم يخرج دامياً مجدداً؟

في باريس هناك كاتدرائية شهيرة إسمها نوتردام، ربما يفعل الرئيس الفرنسي خيراًً إذا ما توجّـه إليها كل صباح ليتضرّع إلى السماء كي لا تتكرّر على الأرض تجارب الماضي القريب!

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية