مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الإعلام العراقي الجديد .. رؤية من الداخل

تقنيون سابقون في القناة العراقية التي كانت تديرها الدولة في عهد صدام حسين يقومون بتجارب في أحد الاستديوهات يوم 12 مايو 2003 استعدادا لإطلاق قناة عراقية جديدة Keystone

وجد الاعلام العراقي في اعقاب الاحتلال الامريكي نفسه يعيش عهدا جديدا لم يألفه من قبل..

كما شهد جملة من التغيرات كانت جوهرية في صميمه وأحدثت عددا من الانعكاسات عليه وعلى المتلقي العراقي الذي صدمته تلك التطورات على نحو عميق.

تميز إعلام العهد الجديد بعدد من المزايا كما ظهرت عليه اعراض مرضية عديدة. من بين أهم المزايا التي حظيت بها وسائل الاعلام العراقية في العهد الجديد الانفتاح على العالم والتقنيات الحديثة المستخدمة في المجال الاعلامي، فضلا عن هامش بهذا القدر أو ذاك مما يسميه البعض حرية والبعض الأخر فوضى ويطلق عليه الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا صفة “الحرية المتوحشة”، وهي حرية خرقاء غير مسؤولة الى حد كبير.

رؤى متباينة

ويرى إعلاميون عراقيون أن المرحلة الجديدة شهدت انحرافا كبيرا عن الأهداف الحقيقية لوسائل الاعلام ومن بينها تشخيص الأخطاء، والإشارة الى مواضع الخلل ومواطن القصور، وتعميق الانتماء للوطن، والارتباط بقيم إنسانية نبيلة مثل الحق والحرية والعدالة.

ويرى هؤلاء أن إعلام العهد الجديد رسَّخ مفاهيم الطائفية والانتماء للعشيرة والعرق والنظرة الضيقة في معالجة مشكلات الوطن بدل تعميق الانتماء للعراق باعتباره وطنا واحدا وعشيرة وطائفة تجمع الكل على مائدتها.

كما يشير هؤلاء الإعلاميون إلى أمراض مهنية مثل سرقة المواد الصحفية من وسائل إعلام أخرى، أو نشر الفضائح والاخبار المختلقة بقصد الإثارة الممجوجة التي لا تحقق هدفا نبيلا مما ترمي اليه وسائل الاعلام الرصينة ويحتاجه العراقي فعلا.

وحسب وجهة النظر المضادة فإن الفورة التي تشهدها وسائل الإعلام العراقية بكل أصنافها اليوم ما كان لها أن تحدث لولا الحرية التي أتاحها العهد الجديد أمام الاعلاميين. ويضرب هؤلاء على موقفهم أمثلة عديدة من بينها إمكانية توجيه النقد لرئيسي الجمهورية والوزراء وأعضاء التشكيلة الحكومية، وانتقاد سياساتهم أحيانا، والتعرض لهم بالرسم الكاريكاتوري أحيانا اخرى، وسوى ذلك من المعالم على طريق الحرية الاعلامية التي لم يألفها المواطن من قبل.

أكثر من 100 صحيفة جديدة في بغداد!

لعلنا نتمكن هنا من الوقوف على أبرز سمات وسائل الإعلام العراقية في عهدها الجديد المقروءة منها أو المسموعة أو المرئية.

كانت الانتقالة الاولى التي واجهها المواطن والإعلامي العراقي على حد سواء تتعلق بحرية اقتناء الأطباق اللاقطة للقنوات الفضائية، حيث صار بإمكان العراقي التجول – وهو جالس على مقعده – بين محطات العالم المختلفة، وهو ما كان محظورا بشدة في العهد السابق.

ودفعت حالة الانفتاح أو الفوضى المتوحشة التي يشهدها العراق، إلى تأسيس صحف ومجلات جديدة تعبر عن شتى الميول والاتجاهات السياسية والثقافية والاجتماعية حتى بلغت تلك الصحف والمجلات الجديدة أكثر من مائة صحيفة في بغداد وحدها.

غير أن مما يؤسف له أن عددا غير قليل من هذه الصحف والمجلات توزعت على الاتجاهات السياسية وابتعدت في ولائها ومرجعيتها عن مفاهيم المواطنة الصحيحة، واندفعت إلى السقوط في فخاخ المعارك السياسية والمهاترات الصحفية. كما لم تلجأ إلى الحكمة والتعقل اللتين تصلحان لمعالجة الجرح العراقي النازف.

إذاعات تفوق الحصر..

وبعد أن كان المواطن العراقي في العهد السابق يستقي أخباره بالضرورة من مصادر رسمية ومن خلال وسائل إعلام مملوكة بالكامل للدولة أو موجهة بأمرها، صار بإمكانه اليوم ان يستقي معلوماته من مصادر شتى قد تتضارب فيها المعلومات والتقييمات بين هذه الإذاعة أو تلك، خاصة في ظل غياب موقف رسمي واضح ومصدر دقيق للمعلومة. ولنا في قضية إلقاء القبض على عزة إبراهيم والتخبط الواضح الذي بدت فيه الحكومة وبعض مسؤوليها مثلا واضحا.

وفور سقوط النظام العراقي السابق، تسابقت الأحزاب والقوى السياسية الناشئة حديثا أو المستوردة إلى تقاسم الإرث الإعلامي للنظام السابق أو ما تبقى منه، حيث لجأت تلك القوى والأحزاب إلى الاستيلاء على المؤسسات الإعلامية وتم تفريغها من محتوياتها تمهيدا لبدء بث إذاعات جديدة تغطي أجزاء محدودة من الرقعة الجغرافية لعموم البلاد، فيما لجأت جهات أخرى الى استيراد أجهزة بث إذاعي جديدة من الخارج وبدأت بتأسيس محطات إذاعة خاصة بها.

وفي كل الأحوال، ما تزال كل محطات الإذاعة الناشئة حديثا قاصرة عن تغطية الخارطة العراقية بكاملها. وقد استفادت بعض الجهات، وخاصة الدينية منها في محافظات عراقية متعددة، من محطات التقوية الإذاعية ومحطات البث الصغيرة التي كان النظام السابق يلجأ إليها عند حدوث بعض المشكلات الفنية لتنشئ إذاعاتها المحلية التي بالكاد تغطي مساحة وسط المحافظة المعنية.

كما أن القوات الامريكية لها محطات إذاعة خاصة بها تبث من خلالها الأغاني وبعض التعليمات العسكرية، ناهيك عن عدد غير محدد من المحطات الإذاعية الخاصة أو تلك الممولة من جهات خارجية أو “غير منظورة”، الأمر الذي جعل عدد محطات البث الإذاعي في العراق يفوق إمكانية الحصر والتقييم الدقيقين.

وساهم في هذه الفوضى أن قانونا مُلزما في هذا الصدد يُنظم عمليات البث الاذاعي لم يُطبق بعد في العراق.

تجربة إذاعة دجلة الخاصة

وإذا كان لهذا التعدد جوانبه السلبية فله جوانبه الإيجابية أيضا، حيث صار بإمكان العراقي أن ينتقد عبر موجات البث الإذاعي من يشاء ويساهم في إبداء رأيه بمن يريد وأن يعلق على هذه الخطوة الحكومية أو تلك.

يقول أحمد الركابي، المدير الحالي لإذاعة دجلة الخاصة الجديدة والذي عرفه المستمع العراقي باعتباره أول مذيع في الإذاعة التي أنشأتها قوات الاحتلال بعد يومين من احتلال العاصمة العراقية العام الماضي، إن حرية العراقيين في التعبير عن قناعاتهم وآرائهم ضرورية للغاية بعد طول حرمان دام عدة عقود.

ويشدد الركابي – الذي غادر العراق منتصف العام الماضي إثر خلاف حول موقع حكومي بعد تأسيس شبكة الإعلام العراقي – على القول “إننا نسعى إلى مد الجسور بين الشعب والسلطة الحاكمة في البلاد”، مضيفا أن “العراقيين يرون في هذه الإذاعة – برغم حداثتها – الوسيلة الأكثر قدرة على التعبير عن آرائهم وقناعاتهم”.

وحسب عدد من مستمعي إذاعة دجلة فإن هذه المحطة تحاول التقرب من الناس والتعبير عن مشاكلهم على نحو يتلمَّس المشكلة ويحاول وضع الحلول لها.

ويعتقد عدد من المتابعين لإذاعة دجلة أنها تحاول الاستفادة كثيرا من أسلوب عمل هيئة الإذاعة البريطانية من خلال بثها برامج ومتابعات في القضايا المختلفة، مما يعني تحررها من الخانق الذي قد يضعها فيه التزامها جانبا واحدا أو جوانب ضيقة فحسب، لذلك فهي تعالج جميع المجالات السياسية والاجتماعية والدينية والقانونية والثقافية والترفيهية، معتمدة في معظم البرامج على مستمعين يعبرون عن أنفسهم عبر الهاتف، وهي تجربة تتيح للمواطن المشاركة في البرنامج عوضا عن الاكتفاء بكونه مستمعا فحسب.

وقد بدأت إذاعة دجلة بخبرات وإمكانيات متواضعة حيث حصلت على منحة من منظمة سويدية واستخدمت تقنيات فنية محدودة وغير متطورة تماما في البث. ويعمل حاليا في هذه الإذاعة التي تغطي الآن تكاليفها من الإعلانات نحو 50 موظفا حسب السيد الركابي.

كما حازت مؤخرا على جائزة إذاعية من بريطانيا، حيث أسعدت هذه النتيجة المتميزة – التي حصلت عليها سريعا – القائمين عليها ومحبيها الذين يتزايد عددهم باستمرار.

ويعتقد الكثيرون أن فرص نجاح هذه الاذاعة وافرة كونها تحاول التقرب من العراقيين الذين تمتلئ صدورهم بالكثير الذي يرغبون في البوح به والتعبير عنه.

ويرى الركابي أن العراقيين سعداء بالدور الذي يؤديه راديو دجلة، معتبرا أن هذا التواصل الجيد مع الجمهور العراقي نابع من كونها إذاعة مستقلة تماما وأنها لكل العراقيين – حسب تعبيره.

لكن التجربة الجديدة في الإذاعات العراقية ليست إيجابية تماما أو ليست خالية من المشاكل، فهناك في كل الأحوال صعوبة التعامل برؤية جديدة وخاصة في هذه المرحلة الانتقالية التي يتعيَّن فيها على العراقي التخلص من إرث الواحدة كما في العهد السابق والنظر إلى الأمام بتطلع حر متعدد الرؤى والاتجاهات.

ظهور فضائيات عديدة

ما يقال على الإذاعات الجديدة في العراق يمكن أن يُقال أيضا على القنوات التلفزيونية الجديدة التي شهدتها الساحة الإعلامية العراقية من حيث التعدد والتوزع.

فيما مضى، كان متاحا أمام العراقيين ثلاث محطات بث تلفزيونية محلية وواحدة فضائية عراقية تبث برامجها أرضيا أيضا. كما أتيحت للعراقي في العامين الأخيرين – قبل الاحتلال – فرصة الحصول عبر اشتراك خاص على 14 قناة تلفزيونية عربية متنوعة. لكن المواطن ظلَّ متعطشا إلى قنوات العالم التي يمكن الوصول إليها عبر الصحون اللاقطة.

ومع العهد الجديد أنشأت سلطة الاحتلال قناة تلفزيونية بلغت من البؤس والركاكة قدرا لم يشجع أحدا على إدارة وجهه إليها أو إيلاء أي اهتمام بها. لكن الاعلام العراقي المرئي ما لبث أن شهد انطلاقة جديدة مع بدء عصر القنوات العراقية الفضائية المتعددة.

خلال العام المنصرم نشأت العديد من الفضائيات العراقية، بعضها ناطق بالعربية والبعض الآخر ناطق بالكردية. ويتوقع أن تشهد المرحلة القليلة المقبلة انطلاق بث فضائيات عديدة أخرى منها الفجر والانوار والفرات والديار والهدى والمشرق، فضلا عن فضائيات حزبية مثل قناة لحركة الوفاق الوطني، وأخرى للتجمع الجمهوري العراقي، وأخريات للأكراد والتركمان.

ورغم أن الولايات المتحدة سعت إلى توجيه محطتها (الحرة) إلى المواطن العراقي بالدرجة الأولى من خلال قناة (الحرة عراق)، إلا أنها لم تفلح في شد المواطن إليها بعيدا عن قناتي الجزيرة والعربية أولا، والقنوات الفضائية اللبنانية والإماراتية والمصرية بالدرجة التالية.

بروز قناة “الشرقية”

غير أن المحطة الجديدة الحقيقية التي لفتت انتباه العراقيين في الداخل أو الخارج هي قناة الشرقية التي استقطبت عددا غير قليل من الكفاءات الإعلامية العراقية التي وجدت نفسها بلا فرصة عمل مع إلغاء وزارة الإعلام.

لقد حازت الشرقية قدرا لا بأس به من إعجاب العراقيين وثقتهم أيضا باعتمادها أسلوب النقد اللاذع عبر برامج كوميدية ساخرة تلامس معاناة العراقيين وتتسلل إلى قلوبهم بهدوء.

ويطمح القائمون على الشرقية إلى جعل هذه المحطة للعائلة العراقية فعلا، وإلى أن تكون معبرة عن احتياجاتهم وواقعهم، خاصة وأنها نجحت تماما في استقطاب خيرة كفاءاتهم الإعلامية والفنية، مما يؤهلها إلى كسب رضا المواطنين والتعبير عن أفكارهم لا تغييرها كما تطمح قنوات أخرى موجهة إلى كسب عقولهم وقلوبهم مثل (الحرة) أو (الحرة عراق) التي تبث فضائيا وأرضيا في العراق.

ورغم كل المعوقات والمشاكل الامنية المتعددة والخطيرة التي تسعى بعض القوى إلى إغراق المجتمع العراقي في خضمها، يُتوقع للإعلام العراقي أن يشهد انطلاقة جديدة عندما يحظى العراقيون بقدر من الاستقرار، وعندما ينجحون في وضع حد لأجواء عدم الاستقرار والفوضى التي يمر بها العراق منذ الاحتلال.

مصطفى كامل – بغداد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية