مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الطائفية في العراق.. الاختيار الـمـرّ

وفد وساطة الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر (حازم الأعرجي وعبد الهادي دراجي) يغادر مسجد أم القرى في بغداد يوم 22 مايو 2005 بعد اجتماع مع هيئة علماء المسلمين في العراق "ميثاق شرف" Keystone

التطورات القادمة من العراق لا تبشر بالخير الذي يتمناه المرء لهذا البلد العريق الذي خرج لتوه من عشريات قاسية.

فإلى جانب حمام الدم اليومي الذي يتفجر في وجه العراقيين العاديين أو العاملين في مؤسسات الأمن دون معرفة الجاني الحقيقي، دخلت الطائفية بقوة إلى المشهد العراقي.

لقد تعالت في الآونة الأخيرة الاتهامات بين هيئات سنية وأخرى شيعية، كل منها يحمّـل الآخر مسؤولية اغتيال مواطنين ينتمون إلى طائفته، وكأن العراق في تاريخه الحديث لم يعد يعرف مفهوم المواطنة الجامعة لكل أبناء الوطن الواحد، إذ صارت الهوية الأولى والأجدر هي الطائفة، فالسنّـة مقابل الشيعة، إذا كان القاسم المشترك هو العرق، كما هو الحال بين عرب العراق، وقد تتحول إلى الدين والمذهب في حال غياب العرق الواحد، كالأكراد السُـنة الذين يشتركون مع السُـنة العرب في المذهب.

هذا الخليط بين العرق والطائفة والمذهب، ومن ورائه العشيرة والمنطقة والإقليم، يجعل العراق مسكونا بهاجس الانقسام المناطقي والاقتتال الأهلي، وذلك بالرغم من كل الدعوات والبيانات التي تحضّ على التماسك الاجتماعي والحفاظ على وحدة البلد الجغرافية.

وحين يتحول الاتهام من أبناء طائفة إلى أجهزة ومؤسسات أمنية بعينها باعتبارها شريكة في جرم انتهاك الأماكن المقدسة، وانتهاك الحرمات وقتل الأبرياء أو ربما تقديم الغطاء لميليشيات وافدة تقوم بمثل هذه الأعمال ضد أناس بذاتهم على خلفية الطائفة، يصبح البلد كله على نار حامية بكل معنى الكلمة، وتصبح خياراته مؤهلة للأسوإ وليس الأحسن بأي حال.

تكتل على أساس طائفي

استشعار السُـنة بالخطر الطائفي، جنبا إلى جنب غيابهم عن التأثير في مسار العملية السياسية الجارية في البلاد، لاسيما كتابة الدستور الدائم، حيث لا يوجد سوى اثنين من السُـنة من بين 55 عضوا هم إجمالى لجنة كتابة الدستور، فضلا عن تحول جزء كبير جدا من ظاهرة العنف إلى نوع من الإرهاب الأعمى، وبروز مساعي تهميش السُـنة باعتبار أن هذا هو الاختيار الذي فضّـلوه عن طِـيب خاطر حين قاطعوا الانتخابات، دفعت السُـنة العراقيين إلى التفكير في بناء مرجعية جامعة، تعمل على التنسيق بين توجهاتهم المختلفة وتكون صوتا واحدا ومؤثرا لهم في عملية بناء العراق.

ومن هنا جاء إعلان تشكيل تكتل أهل السُـنة، وهو التكتل الذي سيجمع كل السُـنة، بغض النظر عن كونهم عربا أو أكرادا أو تركمانا، أو إسلاميين أو عِـلمانيين أو ليبراليين أو ديمقراطيين أو قادة عشائر، حسب ما جاء في بيان عدنان الدليمي، رئيس ديوان الوقف السُـني أمام اجتماع أهل السُـنة، معتبرا ذلك أساسا صلبا للوحدة العراقية البعيدة عن الطائفية والعرقية والعنصرية والمحاصصة.

وبالرغم من القيمة السياسية الكبرى لإعلان هذا التكتل، إلا انه في الوقت نفسه يؤكّـد على أن أساس التجمع هو الانتماء إلى مذهب معيَّـن، فيما يجسِّـد روح الطائفية، لكن عبر التغلغل في العرقيات العراقية المختلفة، والمنتشرة بدورها عبر أكثر من منطقة.

تصعيد في اتجاه فتنة

إن حوادث الاغتيال المجهولة لمواطنين ورجال دين من العرب السُـنة، والمصحوبة بانتهاك مساجد سُـنية، وبواسطة قوات أمن غالبيتها من الشيعة، كما يشيع الأمر بين العراقيين، تعني أن الأمور آخذة في التصعيد لتثير فِـتنة ساحقة بكل ما يعنيه التعبير من دمار وخراب، وهو تصعيد ليس ببعيد عن تدبير مُـسبَـق، حسب ظواهر الأمور.

وحسب بيان السيد حارث الضاري، رئيس هيئة علماء المسلمين في 18 مايو الجاري، فإن “قوات بدر هي المسؤولة، وأنه إذا كان المتّـهم في العهد الماضي رجلا واحدا هو رئيس النظام (صدام حسين) ومَـن حوله، فاليوم من يقوم بمثل هذا الدور هم رؤساء أحزاب وأحزاب بعينها، والكل لا يمت إلى الشعب بصلة.. أحزاب لها خطط ولها أيديولوجيات مدعومة ومتسترة بستار رسمي، وبستار الأمن المدعوم من قبل قوات الاحتلال ومن قبل قوى خارجية”، مثلما ورد في نص البيان.

اتهام قوات بدر قابله في الواقع اتهام مضاد، جاء على لسان أبو كلل، القيادي البارز في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وذلك على هامش تشييع ضحايا انفجار حسينية الصبيح، معتبرا أن الشيعة قد يضطرون إلى الرد المناسب، وأن أبناء الطائفة السُـنية يتحملون مسؤولية هذه الأحداث، وأن عليهم إيقاف هذه الحركة الإجرامية، حتى لا يضطر الشيعة إلى ردود أفعال نحن في غنى عنها.. فعشائر الشيعة لديها قوة لا يُـستهان بها.

تساؤلات حساسة

هذا النفي من جانب مسؤولي بدر، ومن قبل الاتهام بكونها مسؤولة عن اغتيال رموز سُـنية، وإن كان يضع إجابة واحدة وواضحة سلبا أو إيجابا، لكنه يثير في الوقت نفسه تساؤلات عدة أكثر حساسية، خاصة ما يتعلق بتلك الإشارات بوجود أياد خارجية ذات طابع إقليمي.

فإذا كانت قوات بدر هي المسؤولة، فهل يعني ذلك أن الأمر له علاقة بإيران، لاسيما وأن الأخيرة كانت هي الحاضن الرئيسي لقوات بدر طوال عقد ونصف قبل سقوط نظام الرئيس صدام البائد؟ ثم ماذا ستجني إيران من وراء فتنة طائفية قد تُـطيح بكل شيء في العراق، بما في ذلك النفوذ الإيراني نفسه الذي بات مشهودا في الشأن العراقي ذاته، رغم الاحتلال الأمريكي له، ورغم التدهور الحادث في العلاقات الأمريكية الإيرانية؟

وتزداد التساؤلات سُـخونة إذا تم الربط بين سيطرة الشيعة على كل من المجلس الوطني والحكومة العراقية الانتقالية بفعل فوزهم بالغالبية في انتخابات 30 يناير المنصرم، وبين التمسّـك بفكرة اجتثاث البعث، رغم ما بدا فيها من مساوئ، وبضرورة تطهير الوزارات وقوات الأمن التي تشكلت في عهد الحكومة المؤقتة السابقة برئاسة إياد علاوي، من العناصر التي يعتبرها الائتلاف الشيعي فاسدة وكانت تنتمي إلى البعث البائد.

ويصل الأمر إلى ذروته، حين تطرح سياسة دمج الميليشيات الحزبية في داخل قوات الأمن بنفس هياكلها الداخلية أو وِفق ترتيب خاص يُـتيح لها الحفاظ على تميّـزها العقيدي داخل مؤسسات الأمن التي تتشكل باسم العراق ككل.

شبح غير عارض

مجمل هذه التساؤلات وغيرها يعني أن بروز شبح الطائفية في العراق ليس أمرا عارضا، بل ربما هناك من يُـخطط له بدأب، من العراقيين أنفسهم، أو بتنسيق خفي بين بعض العراقيين والاحتلال الأمريكي، أو بالتعاون مع جهات إيرانية. والهدف من كل ذلك، بلورة قناعة شعبية بين التجمعات الكبرى للعراقيين، باستحالة العيش المشترك في ظل كيان واحد، ومن ثم التمهيد لفرض صيغة فدرالية وِفق أُسس طائفية بالدرجة الأولى قد تمهّـد لاحقا إلى انقسام طوعي أو ربما قسري إلى أكثر من كيان عراقي.

وليس بخاف على أحد أن عددا من مراكز البحوث الأمريكية التي تمد إدارة الرئيس بوش والكونغرس بالأبحاث والدراسات وتقديرات المواقف السياسية والإستراتيجية، قدمت تصورات في أكثر من مناسبة متضمنة مشهد تقسيم العراق إلى عدة دويلات صغيرة على أسس طائفية، باعتبار أن ذلك قد يشكل مخرجا مناسبا لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي المكثف وفق صيغة الاحتلال المرفوضة شعبيا، والتمهيد لقبولها من دويلتي الشمال الكردي والجنوب الشيعي كقوات صديقة للحماية، وأن تترك دويلة الوسط السُـني لمصيرها الذاتي.

ولا يقف الأمر عند مراكز بحوث أمريكية، فهناك من أحزاب الشيعة الداخلة في الائتلاف العراقي الموحد مَـن طالب من قبل (بل وبدأ في خطوات عملية) بفصل الجنوب عن باقي العراق، وحتى تكون ثرواته النفطية كلها لأهل الجنوب، وكرَدّ على الظلم الذي عاشه شيعة العراق إبّـان عهد الرئيس صدام.

لكن الانقسام العراقي على أسس طائفية، لا يمثل حلا مثاليا للاحتلال الأمريكي، فهو إن حدث، سيعني أن كل ما فعله الغزو الأمريكي-البريطاني المشترك للعراق هو تقسيمه والسماح بمد النفوذ الإيراني إلى جزء كبير منه، والسماح إلى تنظيمات التطرف والإرهاب إلى التغلغل في جزء آخر، وهما نتيجتان بائستان لكل الخطط الأمريكية، ودليل فشل ذريع، وربما من هذه الناحية، قد يتمسك الاحتلال الأمريكي بالبقاء فترة أطول، وبرفض تقسيم العراق على أسس طائفية وحسب، ساعيا إلى بلورة نظام سياسي يحد من التغلغل الإيراني في العراق، في الوقت الذي تبدو فيه هذه المهمة شِـبه مستحيلة.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية