مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الطموحات مشتركة لكن التنافس .. مكتوم!

يتفاعل سوق الأوراق المالية في سنغافورة مع حركة التعاملات الدولية، إلا أن نتائجه الأخيرة تشير إلى أنه قد يكون أكثر استقرارا من غيره Keystone

تتأرجح نظرة خبراء الاقتصاد والمصارف السويسريين إلى سنغافورة بين التوجس من أن تتحول إلى منافس غير سهل، وبين الإعجاب بالخطوات الثابتة الحثيثة التي قطعتها في ظرف وجيز.

لكن الخبراء والمخططين لا يكتفون بمتابعة ما يحدث في هذا الجزء البعيد من العالم، بل يتحركون منذ الآن ولكن على الطريقة .. السويسرية!

للوهلة الأولى، تبدو المقارنة بين الساحة المالية السويسرية ونظيرتها في سنغافورة غير متكافئة. فالأولى تحتضن 4000 مليار فرنك من الثروات والودائع المالية لإدارتها، والثانية لم تستقطب حتى الآن سوى 120 مليارا، بخبرة محدودة ولكنها ناجحة في هذا المجال استنادا إلى الإمكانات المتوفرة في المنطقة وفرص الاستثمار وتدوير الأموال.

إلا أن المخاوف تزايدت في سويسرا منذ أن تم التوقيع على الحزمة الثانية من الاتفاقيات الثنائية بين برن وبروكسل، والتي نص أحد بنودها على قيام تعاون سويسري في مجال محاربة التهرب الضريبي على الثروات المودعة من طرف رعايا بلدان الاتحاد الأوروبي في المصارف السويسرية، يتمثل في سداد نسبة معينة من الضرائب على المدخرات ولكن دون الإفصاح عن أية تفاصيل حول هوية أصحابها أو حجم ثرواتهم.

فالمؤسسات المالية السويسرية ترى أن تلك الاتفاقية ستتسبب في مغادرة الثروات، لأن الميزة التي كانت تتمتع بها في الكنفدرالية أصبحت غير مغرية لهم، فضلا عن أن سرية الحسابات المصرفية يمكن ضمانها إما في بلدانهم أو في مناطق أخرى من العالم.

سنغافورة أكثر جاذبية

أما توجه الأنظار إلى سنغافورة تحديدا فله أسباب عدة، حيث أشارت نتائج بحث أجراه خبراء الساحة المالية عن الأماكن التي يحتمل أن تتحول إليها ثروات الأوروبيين المودعة حاليا في سويسرا، دون الخوف من تحصيل ضرائب عليها، إلى مجموعة من الدول التي لم توقع أية اتفاقيات بهذا الصدد مع الاتحاد الأوروبي، وهي سنغافورة وهونغ كونغ واليابان.

وقد تركز الإهتمام على الأولى نظرا لموقعها الجغرافي في وسط جنوب شرقي آسيا بين العملاقتين إندونيسيا وماليزيا، وليس في أقصى شرقي القارة كالأخرتين، فضلا عن أن تلك الدولة الصغيرة الحجم، بدأت تهتم بساحتها المصرفية وأسلوب التعاملات في أسواق الأوراق المالية سواء في القارة الآسيوية أو على صعيد عالمي بشكل لافت للنظر، كما أنها أعدت لهذه الخطوات الكوادر البشرية المناسبة والأسلوب العملي المتطور، مستفيدة من استقرارها السياسي وخطة تنمية متكاملة نجحت في الربط بين عدد من المحاور بتنسيق جيد وفاجأت نتائجها العديد من المراقبين للشأن الآسيوي.

وفي خطوة وصفت بـ “الإستباقية – الدفاعية” طالب توماس سوتر المتحدث باسم رابطة المصارف السويسرية الاتحاد الأوروبي بتوقيع اتفاق مماثل مع تلك الدول الآسيوية، عملا بمبدأ تكافؤ الفرص، مستندا في هذا إلى تأييد الحكومة الفدرالية للفكرة، لكن برن لم تترجم هذا التأييد إلى ضغط على الاتحاد الأوربي، وقد يكون مرد ذلك غياب تقاليد سويسرية في ممارسة مثل هذا الشكل من الضغوط أو نتيجة لتعقد ملف العلاقات الثنائية بين الجانبين بشكل لا يسمح بأية مناورة جديدة تتعلق بطرف ثالث.

من جهة أخرى، قد يعود السبب الكامن وراء تهاون بروكسل في توقيع اتفاقية مماثلة مع الدول الآسيوية الثلاث إلى أن حجم الثروات المنقولة من بلدان الإتحاد الأوروبي إلى تلك المنطقة ليس لافتا للنظر، ولم يصل إلى حد نزوح ثروات مخيف أو مثير للقلق.

“.. على الطريقة السويسرية..”

في المقابل، يعتقد بعض المراقبين أن استمرار ارتفاع نسبة النمو المسجلة في مجال إدارة الثروات الخاصة في سنغافورة بشكل ثابت منذ عام 1998 بمعدل 10% سنويا (على الرغم من حجم الاستثمارات الضعيف فيها مقارنة مع سويسرا) أمر يدعو إلى أخذ الحيطة والحذر، أو بالأحرى إلى عدم إهماله أو التهاون معه إلى أن يتحول من مجرد ظاهرة إلى “أزمة”.

من ناحيتهم، لم ينتظر الفاعلون في الساحة المالية السويسرية توقيع اتفاقيات أو معاهدات مع سنغافورة أو غيرها من الدول التي يحتمل أن تتحول إلى مراكز استقطاب للثروات والإستثمارات، بل بادروا باتخاذ عدة خطوات من أجل تعزيز حضورهم في تلك المنطقة، بأسلوب يضمن لهم تواجدا متواصلا ومستديما، أي على “الطريقة السويسرية”.

لذلك فمنذ أن برز نجم “جامعة سنغافورة لإدارة الأعمال” SMU ومعها “معهد إدارة الثروات” WMI، حتى بادرت “المدرسة السويسرية للبنوك في زيورخ” بتعزيز التعاون معهما في شكل دورات تدريبية ومحاضرات، لتأهيل متخصصين في هذين المجالين بما يتوافق مع متطلبات الأسواق الآسيوية.

وقد أكسب هذا التعاون المؤسستين التعليميتين شهرة أوسع، فافتتحتا ابتداء من هذا العام سنة دراسية مخصصة للدراسات العليا بلغ عدد المسجلين فيها من سنغافورة والدول المحيطة بها 4050 طالبا، يأملون في الحصول على شهادة “ماجستير في علوم إدارة الثروات”.

والفائدة من هذه الخطوة مزدوجة، حيث تستفيد المؤسستان التعليميتان من الخبرات السويسرية المتميزة في مجالات إدارة الأموال والأعمال ومختلف التعاملات المصرفية، فيما يضع السويسريون من جانبهم موطئ قدم راسخ في هذا المجال، عبر تقديم المعرفة المتميزة وخلق حلقات التواصل مع الساحة المالية السويسرية في الإتجاهين، وهو ما يتيح لهم حضورا لا يقتصر على الأنشطة المصرفية (التي قد تتقلص يوما ما لسبب أو لآخر)، بل يتسع ويتعمق ليشمل ميادين وقطاعات أخرى واعدة.

التعاطي الذكي مع العقلية الآسيوية

على الصعيد المهني العملي، عزز بنك “كريدي سويس” تواجده بشكل أقوى في المنطقة، من خلال تأسيس “المركز العالمي للبنوك الخاصة” Global Private Banking Centre ، الذي قدم للساحة المالية هناك منذ عام 2001 المنتدى الإلكتروني الأول للتعاملات البنكية عن طريق شبكة الإنترنت، إلى جانب الاستشارات الفنية التقنية المتعلقة بهذا المجال.

ويقول خبراء المصارف السويسريون إن أسلوب إدارة الثروات في سنغافورة أو في تلك المنطقة، يختلف عن الفلسفة السويسرية بصفة خاصة والأوروبية بشكل عام، فأصحاب رؤوس الأموال يرغبون في الحصول على أرباح ثابتة من ودائعهم، دون التعرض إلى أية أنواع من المخاطر، عملا بالنمط الشائع من المعاملات في تلك المنطقة.

أما الباقة المتكاملة التي تقدمها المؤسسات المالية السويسرية فهي أشمل وأوسع، وتضم أنواع المخاطر وأشكالها ونسبة الأرباح المرتبطة بها، وتحرص على تقديم أكثر من مجموعة أو حافظة أوراق مالية استثمارية لإرضاء جميع الرغبات وحرصا على الإبقاء على الزبائن لديها.

وفي العادة، يطرح العملاء الآسيويون كما كبيرا من الأسئلة والاستفسارات حول إدارة ثرواتهم والأرباح المتوقعة منها، والمشاريع التي يتم الاستثمار فيها، أو حقائب الأوراق المالية التي يتعاملون من خلالها، وهو ما يتطلب وقتا وجهدا كبيرين، اكثر مما يستغرقه التعامل نظرائهم في أوروبا.

وعلى الرغم من هذا العامل الجديد الذي واجه رجال المصارف السويسريين العاملين هناك، إلا أنهم سرعان ما تعودوا عليه، بل وسخروا الامكانيات البشرية المناسبة التي تتفهم تلك العقلية وتنقل النمط السويسري في التعامل في نفس الوقت.

وما من شك في أن هذا الحضور التمهيدي السويسري على المستويين العلمي والعملي، سيسهل على المؤسسات المالية، بما فيها البنوك الخاصة، مهمة ترسيخ موطئ قدم لها في المنطقة، ليس بسبب جاذبية الإستثمارات الآسيوية المحدودة، ولكن كي تكون مهيئة لتلقف الثروات الأوروبية الباحثة عن ملاذ آمن بعيدا عن مصيدة الضرائب.

ومن المؤكد أن أصحاب الثروات يفضلون وقوعها في أياد ذات خبرة أوربية عريقة في واحة ضريبية نائية على تركها فريسة سهلة بين أنياب النمور الآسيوية.

الأهداف المشتركة تسهل سبل التعاون

وإذا كانت سنغافورة قد وجدت بداية الطريق نحو التعامل مع المتغيرات الاقتصادية إقليميا ودوليا، بشكل يبدو حتى الآن منطقيا وعقلانيا هادئا، فإن الخبرة السويسرية العريقة في تبادل المصالح وتعزيز التواجد في المناخ المناسب لن تضيع هذه الفرصة، بكل ما تتضمنه من منافع مرتقبة على كافة الصعد وفي مختلف المجالات.

فالقواسم المشتركة بين البلدين “الصغيرين” تجعل التعاون بينهما سهلا، كما أن الفائدة ستشمل الطرفين بكل تأكيد. لذلك فان سنغافورة التي تشق طريقها في مسالك العولمة المتشعبة بحثا عن طريق آمن، تحتاج إلى من لديه الخبرة بتلك الدروب والمتاهات مثل سويسرا.. وقديما قيل: “الرفيق قبل الطريق”.

تامر أبو العينين – سويس انفو

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية