مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

القرارات النقدية المصرية ..إصلاح حقيقي أم ُمَسِكن جديد؟

معالجة الوضع في سوق وسعر الصرف في مصر قد تتطلب ضرورة إعادة النظر في سياسة ربط الجنيه المصري بالدولار الأمريكي Keystone

جاءت القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة المصرية بشأن سعر وسوق الصرف المصرية كمحاولة منها للسيطرة على أزمة الاضطراب في سوق الصرف المصرية المتواصلة منذ ما يزيد على عامين والتي تفاقمت بعد أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة.

هذه الاضطرابات أثرت سلبيا على موارد مصر من النقد الأجنبي من خلال تأثيرها السلبي الكبير على قطاع السياحة والطيران وعلى حصيلة مصر من صادرات النفط الذي تراجعت أسعاره بأكثر من الثلث منذ وقوع الأحداث الأمريكية وحتى الآن، وأيضا من خلال تأثيرها السلبي على تحويلات المصريين العاملين في بلدان الخليج النفطية على ضوء تأثر اقتصاداتها سلبيا بسبب تراجع حصيلة صادراتها النفطية.

الحكومة المصرية قررت تخفيض سعر الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي من 4.25 جنيه مصري لكل دولار إلى 4.5 جنيه مصري لكل دولار، مع هامش للحركة يبلغ 3% ارتفاعا وهبوطا عن السعر المركزي الذي يعلنه البنك المركزي المصري يوميا. وترافقت هذه القرارات مع وعد حكومي بضخ 500 مليون دولار في السوق فورا لمواجهة الطلبات المتأخرة على الدولار، على أن يتم ضخ 250 مليون دولار في السوق شهريا حتى منتصف العام القادم بما يعني أنها ستضخ 1.5 مليار دولار خلال الستة أشهر القادمة، ليصبح مجموع ما ستضخه فورا وعلى مدى الشهور الستة القادمة 2 مليار دولار سوف يتم الحصول عليها في صورة منح وقروض من صناديق التنمية العربية والإفريقية والدولية.

وستعاود مصر سياسة الاقتراض من الخارج في حدود ما تسدده من ديونها الخارجية سنويا بحيث لا تتزايد هذه الديون ولا تنخفض أيضا. أي أن الحكومة وفقا لهذا التعهد لن تمس الاحتياطي المصري من العملات الحرة الذي أشارت إلى أنه يبلغ في الوقت الراهن نحو 14.2 مليار دولار. كما أنها لن تمس حرية الاستيراد بعد أن تم ترتيب رفض منظم من قبل المستوردين لأي إجراءات لضبط الاستيراد واقترن به هجوم شديد على الجنيه المصري من خلال تخفيض سعره في السوق السوداء للنقد الأجنبي التي عاودت الظهور في العام الحالي بقوة.

الازمة الامريكية زادت الطين بلة

فهل ستنجح الإجراءات الجديدة في تحقيق الاستقرار في سعر وسوق الصرف المصرية، أم أنها لا تعدو كونها مسكنات، سيعاود السوق الاضطراب بعدها بوقت قصير؟

الحقيقة أن هذه الإجراءات هي محاولة لتنظيم ضخ عملات حرة في السوق المصرية من خلال الحصول على قروض ومنح لمواجهة النقص في النقد الأجنبي في السوق، بعد تراجع إيرادات تصدير النفط وإيرادات السياحة والطيران والنقل البحري وقناة السويس وربما تحويلات العاملين بالخارج بسبب أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية ومجمل تداعياتها.

وهذه الإجراءات تركز على مواجهة الطلب المتزايد على النقد الأجنبي في مصر بالاقتراض أو طلب المنح ثم ضخها في السوق، لكن هذا لا يعالج الاختلال الهيكلي المتمثل في وجود عجز في الموازين الخارجية لمصر وبالأساس في الميزان التجاري الذي بلغ العجز فيه نحو 41.7 مليار دولار في الأعوام الثلاثة الماضية 1998، 1999، 2000 (راجع:IMF, Direction of Trade Statistics Yearbook 2001 ).

هذا العجز يشكل ضغطا مستمرا على الجنيه المصري، بالإضافة إلى الضغط الذي يشكله التهريب السلعي والاستيراد غير الشرعي للمخدرات وتهريب الأموال الناجمة عن نشاطات غير مشروعة أو فساد، وهي العوامل الحقيقية التي تعتبر الأساس الذي تنطلق منه الأزمات المتتالية في سوق الصرف والتي يزيدها اشتعالا عمليات المضاربة التي تتفجر كلما لاحت في الأفق فرصة لإثارة الاضطراب في سوق الصرف المصرية التي يتسم استقرارها بأنه هش بالفعل.

وإضافة إلى هذه العوامل، فإن قرارات الحكومة شهدت اضطرابا في الشهرين الأخيرين حيث غيرت موقفها بشكل سريع من محاولة ضبط الواردات على غرار ما فعلت كوريا الجنوبية وماليزيا أثناء أزماتها، إلى التأكيد على الحرية الكاملة للاستيراد والاقتراض لمواجهة الطلب المتزايد على الدولار بدلا من التصرف في حدود ما لدى مصر من عملات حرة.

وهذا الاضطراب أشاع حالة من عدم الثقة في سوق الصرف، كما جعل المستوردين الذين لا يراعوا الوضع الاقتصادي في البلاد وبالذات بعد تدهور حصيلتها من النقد الأجنبي بعد الأزمة الأمريكية، خارج أي محاولة لضبط الواردات وإصلاح الميزان التجاري المصري الشديد الاختلال، والذي يشكل العامل الرئيسي في اضطراب سعر وسوق الصرف في مصر.

معضلة ربط الجنيه المصري بالدولار الامريكي

ترتيبا على ما سبق فإن معالجة الوضع غير المستقر في سعر وسوق الصرف يتطلب الاعتراف بأن العوامل الهيكلية وليست المضاربة هي المصدر الرئيسي لهذا الوضع رغم أن المضاربات تزيده سوءا، ويتطلب معالجة العوامل الآنية والاستراتيجية المسببة للاضطراب فيهما، وبالذات العجز التجاري المزمن والضخم.

كما تتطلب معالجة الوضع في سوق وسعر الصرف في مصر، ضرورة إعادة النظر في سياسة ربط الجنيه المصري بالدولار الأمريكي التي تسببت في خسائر كبيرة لمصر في الأعوام الأخيرة ،حيث شكلت أحد العوامل المهمة في كبح نمو الصادرات المصرية إلى دول الاتحاد الأوروبي التي تعد الشريك التجاري الأكثر أهمية بالنسبة لمصر، وبالتالي فإن سياسة ربط الجنيه بالدولار ساهمت في زيادة الضغوط على العملة المصرية بتسببها في زيادة الواردات والعجز التجاري مع أوروبا وأيضا مع اليابان ودول شرق وجنوب شرق آسيا التي تعرضت لأزمات اقتصادية وتراجعت أسعار عملاتها مقابل الدولار والجنيه المصري من ورائه.

كذلك فإنه من الضروري تطوير آليات مكافحة الأنشطة غير المشروعة التي تؤدي لتسرب النقد الأجنبي المتاح لمصر إلى الخارج وبالذات تجارة المخدرات وتهريب الأموال الناجمة عن نشاطات غير مشروعة بصفة عامة، والموازنة في السياسية النقدية التي ينبغي أن تتسم بالمرونة، بين متطلبات حفز النمو الاقتصادي ورفع مستوى التشغيل ومتطلبات دعم العملة المحلية ورفع معدل الادخار.

أما المضي في سياسة السباق مع السوق السوداء على تخفيض الجنيه مقابل الدولار والاقتراض من أجل تمويل الواردات، فإنه سيعيد سوق الصرف المصرية لأوضاع مشابهة لوضعها المضطرب في عامي 1990، 1991. فضلا عن أنه سيؤدي في النهاية لتزايد الديون الخارجية، وهي أمور من الضروري وضعها في الاعتبار في اختيار إجراءات معالجة الأزمة في سعر وسوق الصرف في مصر.

كما أن الولايات المتحدة الأمريكية والمؤسسات المالية الدولية يجب أن تكون أكثر إنصافا في تقدير حجم خسائر مصر بسبب الأزمة الأمريكية وتداعياتها، وتعويضها عن ذلك ضمن الدول التي تعرضت لخسائر بسبب هذه الأزمة، خاصة وأن مصر تعاونت بفعالية مع الولايات المتحدة سواء عبر تمرير القوات والقطع الحربية البحرية الغربية عبر قناة السويس، أو عبر تبادل المعلومات بشأن المجموعات التي كانت واشنطن قد دخلت صراعا عسكريا معها، رغم أن واشنطن لم تبد في السابق أي استعداد للتعاون مع مصر في مواجهة الإرهاب الذي استهدف مصر في تسعينات القرن الماضي والذي شنته المجموعات المسماة بـ”الأفغان العرب” والتي كانت وثيقة العلاقات بالمخابرات الأمريكية منذ الحرب ضد السوفيت.

احمد النجار – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية