مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تـحـديـات مـا بـعـد الإنـتـصــار

الدكتور إبراهيم الجعفري (يمين) وأحمد الجلبي في ندوة صحفية ببغداد بمقر "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" يوم 22 فبراير 2005 swissinfo.ch

تتواصل المفاوضات والمشاورات بين الأحزاب والكيانات السياسية في العراق استعدادا لانعقاد الجلسة الأولى للجمعية الوطنية الإنتقالية في المستقبل القريب.

وتتجه الأنظار الآن إلى ما سيكون عليه أداء أعضاء قائمة “الائتلاف العراقي الموحد” المدعومة من طرف آية الله العظمى علي السيستاني في ظل توقعات ببروز بعض الخلافات في صفوفها.

حسنا فعل آية الله العظمى علي السيستاني حين امتنع عن التدخل فى تسمية مرشح قائمة الائتلاف العراقي الموحد لرئاسة الوزراء، وهو موقف يختلف جذريا عن سلوكه السابق إبان الانتخابات حين وضع ثقله المعنوي والديني وراء القائمة التى تعبر عن القوى السياسية الشيعية، مما ساهم فى فوزها بنسبة 48.7% من جملة الأصوات وحصولها على 140 مقعدا من جملة 275 مقعدا تشكل الجمعية الوطنية الانتقالية.

وفى التبرير المعلن لهذا الامتناع يبرز مبدأ عدم تدخل رجل الدين فى ألاعيب السياسة وتفاصيلها، وهو المبدأ الذى يعتبره السيستانى أساسيا فى جملة أفكاره حول الدور الذى يضطلع به رجل الدين فى شؤون مجتمعه.

فهو مُطالب – حسب تصوره – بأن يكون قوة معنوية وروحية تحافظ على أسس الدين عبر إصدار الأحكام الدينية والفتاوى الملزمة لتابعيه، وفى المقابل، فهو ليس مُطالبا بأن يتدخل فى التفاصيل السياسية أو يكون على رأس حفنة منهم، أو يقود النظام السياسى كما هو الحال فى نظرية ولاية الفقيه التى أسسها الأمام الخمينى، وتمثل جوهر نظام الجمهورية الإسلامية فى إيران المجاورة.

ظل الرجل ونفوذه المعنوي

وما بين موقفي السيستاني: “المؤيد صراحة للقائمة بأكملها إبان الانتخابات”، وهو بالفعل كان موقفا سياسيا بالدرجة الأولى، ولولاه لما تشكلت القائمة أصلا وهى التى تجمع بين اتجاهات عدة متنافرة بطبيعتها الفكرية وخلفياتها السياسية، ثم “الممتنع لاحقا عن تحديد مرشح القائمة لرئاسة الوزراء”، يصبح الائتلاف العراقى أمام تحدي واضح نسبيا، وهو التعامل مع شؤونه السياسية الخاصة بصورة ذاتية، بداية من الحفاظ على أعضائه وتماسكه النسبى، إضافة إلى كسب أعضاء جدد ينضمون إليه لزيادة درجة النفوذ والتأثير فى أعمال الجمعية الوطنية، والتفاهم على توزيع المناصب فيما بين القوى السياسية المُشكلة للائتلاف ومع القوى السياسية الأخرى فى الجمعية الوطنية. فضلا عن التنسيق فى أهم مسألة عراقية، وهى كيف سيكون عليه الدستور العراقي الدائم، وما هى أبرز مبادئه وعناصره، وموقع الدين فى النظام العراقى الجديد.

غير أن مواجهة الائتلاف العراقى الموحد لهذه التحديات ولغيرها لن يكون بعيدا تماما عن التأثير المعنوي والروحي للسيستانى. فظل الرجل وتأثيره وأفكاره ونصائحه لن تفقد بريقها أبدا، وستكون دوما موجودة بين أعضاء الائتلاف، والملاذ الذى يتم اللجوء إليه عند الضرورة لحسم خلافات تبدو مستعصية أو للحصول على مباركة لموقف ما.

وربما يشكل ذلك أحد عوامل التماسك الجوهرية بين الائتلاف فى المرحلة المقبلة، ولكنها بالطبع لن تلغى كل القسمات الأخرى البارزة فيه، وما يمكن أن تلعبه من عوامل جذب عكسية ومضادة.

تنوع هائل وتماسك ملحوظ

فالوصف الأول للائتلاف انه خليط من أحزاب وقوى سياسية شيعية لها حضور مكثف فى الجنوب العراقي وانتشار لا بأس به في مناطق عراقية مختلفة بما في ذلك العاصمة بغداد، إضافة إلى عدد كبير من المستقلين الشيعة المنتشرين فى العراق ككل بما فى ذلك المناطق الشمالية الكردية.

وهذا التنوع يمزج بين السياسي والديني والمناطقي، ومن هنا نجد فى القائمة من هم رموز للإيديولوجية الدينية البارزة كعبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وإبراهيم الجعفرى، رئيس حزب الدعوة الإسلامي الشيعي ـ الذى اختاره الائتلاف كمرشح لرئاسة الوزراء بتوافق الآراء بين الزعامات الرئيسية ـ وأيضا من هم رموز بارزة لمن يسمون بالشيعة العلمانيين كأحمد الجلبى، زعيم المؤتمر الوطني العراقي، والمنسحب من سباق رئاسة الوزراء، والذى انقلب عليه الأمريكيون قبل حوالى العام رغم الدور الكبير الذى لعبه فى التحضيرات الإعلامية والسياسية للغزو الأمريكى للعراق.

هذا التنوع بين الالتزام الإيديولوجي الديني الاسلامي من منظور شيعي، وبين نظرة علمانية تضع الدين فى خانة الفعل والسلوكي الشخصي لأصحابه تكشف عن درجة من التعايش والترابط بين قوى الائتلاف وفق منهجية طائفية بالدرجة الأولى، حيث ترى أن الشيعة بالمطلق بات من حقهم أن يحكموا ويسودوا العملية السياسية بعد إقصاء قسرى دام 35 عاما متصلة.

وهذا البعد الطائفي قد يغطي على الخلافات السياسية فى مواقف معينة، ولكنه لا يلغيها تماما، خاصة وأن شيعة آخرين، أبرزهم أياد علاوي، رئيس الوزراء المؤقت المنتهية ولايته، يقدمون أنفسهم باعتبارهم شيعة وعراقييين ومناضلين، ولديهم نظرة للحكم أكثر تحررا من الاعتبارات الطائفية والدينية البحتة.

تحدي المستقـلين

البعد الطائفي كعامل للتماسك بين عناصر القائمة الائتلافية، يواكبه عنصر آخر قد يدفع فى اتجاه مضاد، وهو كثرة المستقلين الأفراد، وهم الذين فازوا على قائمة الائتلاف بـ 66 مقعدا من جملة 140 مقعدا حصل عليها الائتلاف، أي ما نسبته 42% من جملة الفائزين، وهى نسبة كبيرة بالطبع، وتعنى بالمقابل أن النسبة الباقية، وهى 58% هى للأحزاب الكبرى التى تتشكل منها القائمة. مع ملاحظة أن 23 مستقلا محسوبين بدرجة ما على التيار الصدري بما يجعلهم قوة مهمة.

والأحزاب الكبرى فى القائمة أربعة أساسية، منها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامى وحزب الفضيلة، وهى ذات توجهات دينية واضحة، ولهم صلات قوية بإيران، فيما التيار الصدري يعتبر نفسه ممثلا للشيعة العراقيين العرب الأصلاء الذين تحملوا فى الداخل اضطهاد النظام البعثي.

ومن أبرز ما تتفق عليه هذه القوى الأربع هو أن يكون الدين الإسلامي مصدرا أساسيا للتشريع فى العراق الجديد، ولكنها تختلف فيما بينها حول المدى الذى تصل إليه المبادئ الدينية فى إدارة الدولة والمجتمع والسلوكيات اليومية للمواطنين العراقيين.

أما القوة الخامسة فهى المجلس السياسي الشيعي الذى يتمحور حول المؤتمر الوطني العراقي بزعامة الجلبي وعدد من الشخصيات الشيعية المستقلة. وهؤلاء يوصفون بأنهم علمانيون، يسعون إلى تقليل مساحة التداخل بين الدين والحياة السياسية، ولكن وجودهم داخل قائمة تحظى بدعم المرجعية الشيعية الأعلى يجعلهم قليلي الحيلة عمليا في منع هذا التداخل، أو فى فرض رؤى علمانية بحتة فى الدستور الجديد.

عوامل جذب وأخرى مضادة

ويمكن أن نضيف أيضا عامل الطموحات الشخصية، لاسيما بين الزعامات الرئيسية، والذى لا يمكن تجاهله على أي حال.

فأحمد الجلبى قبل انسحابه من ترشيح نفسه لرئاسة الوزراء سعى لبلورة إيحاء بأن غالبية أعضاء الائتلاف تؤيد تعيينه رئيسا للوزراء، وهو ما ثبت انه غير صحيح، إذ لعبت التوافقات الداخلية بين الزعامات الأكبر داخل الائتلاف الدور الحاسم فى بلورة توازن يميل إلى ترشيح إبراهيم الجعفرى زعيم حزب الدعوة الإسلامى، وذلك كوجه مقبول يعكس التيارات الفكرية السائدة داخل الائتلاف من جانب، ولكونه ذوى صلات بكل الفئات العراقية الأخرى من جانب آخر، فضلا عن كونه منفتحا على دول الجوار بلا حساسيات واضحة قربا أو بعدا، مثل أحمد الجلبى المرفوض أردنيا والمحسوب على إيران استخباريا.

ولكن يبقى على الائتلاف أن يمرر مثل هذا الترشيح الداخلى عبر الجمعية الوطنية، وتلك بدورها قصة أخرى تتعلق بقدرة الائتلاف على جذب مؤيدين آخرين من خلال منحى عملى يمزج بين الأخذ والعطاء، لاسيما مع التكتلات الكبرى كالتكتل الكردى وقائمة أياد علاوى.

من الناحية الحسابية، يكفى أن ينال ترشيح الجعفرى تأييد 184 صوتا، وهو ما يتطلب جذب 44 صوتا جديدا إلى جانب ما تملكه القائمة بالفعل، هذا بفرض استمرار تماسكها على قلب رجل واحد.

مثل هذه التشكيلة تعنى أن “الائتلاف العراقى الموحد” يدخل تجربة الحكم وهو مسلح بعوامل جذب وتكامل ذاتى، وبجوارها عوامل أخرى مضادة، وسيظل للتجربة العملية وبُعد النظر وتأثير مرجعية السيستانى كفة الترجيح لأحدهما على الآخر.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية