مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

ربع الساعة الأخير في دمشق؟

تشييع جنازة الجنرال غازي كنعان وزير الداخلية السوري في بلدة بحمرا شمال سوريا يوم 13 أكتوبر 2005 Keystone

بعد غياب وزير الداخلية اللواء غازي كنعان عن المشهد السوري والشرق أوسطي، تكثر التساؤلات والتخمينات حول مستقبل الأوضاع في سوريا.

فهل يمكن أن ينجح الرئيس السوري بشار الأسد مثلا في عقد صفقة مع الأمريكيين في ربع الساعة الأخير، يرضخ فيها لكل شروط هؤلاء..؟

المفاجأة الأولى في سوريا هذه الأيام، هي أن يكون انتحار (أو نحر) اللواء غازي كنعان هي المفاجأة الأخيرة.

لماذا؟ لأن كل الدلائل تؤكد أن “الموت غير السعيد” لجنرال حَـكم لبنان منذ 20 عاماً، ويُـعتبر الرجل الثالث الأقوى في ترتيب النظام التوتاليتاري السوري، سيكون بداية تداعي أحجار الدومينو في عاصمة الأمويين لا نهايتها، إلا في حالة يتيمة: نجاح الرئيس السوري بشار الأسد في عقد صفقة مع الأمريكيين في ربع الساعة الأخير، يرضخ فيها لكل شروط هؤلاء.

لكن، هل هذا وارد، أو بالأحرى، هل الرئيس الأسد قوي إلى درجة تجعله يستسلم لحقيقة ضُـعفه أمام الرئيس جورج بوش؟

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة أولاً أمام المستنقع الأمريكي الخطير الذي يسبح فيه الأسد الآن.

المستنقع

بدا مؤكّـداً خلال الأسابيع القليلة التي سبقت “استنحار” اللواء كنعان، والذي سبق بدوره تقرير المحقق الدولي دتليف ميليس بأيام، أن هذا المستنقع يعجّ بكل أنواع الكوابيس والمخاطر على الأسد ونظامه.

فقد كشفت “نيوزويك” مطلع هذا الشهر (أكتوبر)، أن كبار المسؤولين الأمريكيين من مجلس الأمن القومي و”السي.أي.إي” والاستخبارات العسكرية التابعة للبنتاغون، عقدوا اجتماعا مُـشتركاً حضرته كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية للبحث فيما يجب عمله مع سوريا.

آنذاك، كادت وجهة النظر التي طرحها المحافظون الجدد، والداعية، كما قالت “نيوزويك”، إلى توجيه “ضربات جوية جراحية “للقواعد والمنشآت العسكرية السورية على الحدود مع العراق، وفي العمق السوري ذاته، أن تنجح لولا تدخّـل رايس في اللحظة الأخيرة.

لم تطالب الوزيرة بتجنب هذه الضربات بشكل نهائي، بل دعت فقط لتأجيلها إلى ما بعد صدور تقرير المحقق الدولي دتليف ميليس. لماذا؟ لأنها تعتقد أن هذا التقرير سيؤدّي من تلقاء نفسه إلى تحقيق الأهداف المرتجاة من الضربات العسكرية، وهي تغيير سلوكيات النظام السوري أو (في حال فشل ذلك)، تغيير رؤوس هذا النظام.

وبعد تقرير “نيوزويك” بعشرة أيام، خرجت “نيويورك تايمز” بتقرير أخطر، نسبت فيه إلى مسؤولين مدنيين وعسكريين أمريكيين قولهم أن القوات الخاصة الأمريكية بدأت بالفعل منذ الصيف الماضي عمليات عسكرية سورية في العمق السوري، كما على الحدود السورية – العراقية، وان إحدى هذه العمليات شهدت “تبادل نيران عنيف سقط خلالها العديد من الجنود السوريين بين قتيل وجريح”.

هذا الجانب العسكري غير المُـعلن من الصراع السوري – الأمريكي له مدلول معلن واحد: ثمة على ما يبدو قرار اتخذ على أعلى مستويات الإدارة الأمريكية لتغيير طبيعة النظام السوري وتوجهاته، عبر تحميله مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وأيضا مسؤولية تعثر المشروع الأمريكي في العراق.

“كبش فداء”؟؟

برزت آثار أقدام هذا القرار بوضوح في اللامبالاة والتجاهل اللذين قابلت بهما الإدارة، الرسائل التي أطلقها الرئيس السوري الأسبوع الماضي عبر محطة “السي. أن. آن”، فهم (الأمريكيون) لم يجدوا جديداً في استعداد الأسد للتعاون الإقليمي أكثر معهم، سواء عبر “دعم النظام السياسي” العراقي كما قال، أو تشديد الرقابة على الحدود السورية – العراقية أو السلام مع إسرائيل أو حتى في إبداء الاستعداد لإرسال أي مسؤول سوري متّـهم بالتورط في اغتيال رفيق الحريري إلى محكمة دولية.

وهم (الأمريكيون) رشّـوا ملح التهكّـم فوق جرح التجاهل، حين سخروا أيضاً من كل المحاولات التي تقوم بها دمشق لاسترضائهم، بما في ذلك بيان السفارة السورية في واشنطن، والذي وصف أمريكا للمرة الأولى في تاريخ الدبلوماسية السورية بأنها “دولة عظمى تقف وراء الإبداعات والتنمية”، فيما كانت أمريكا في السابق “إمبريالية واستعمارا جديداً” في عيون سوريا.

لماذا تتخذ إدارة بوش مثل هذا الموقف العنيف من الأسد؟ لسبب وحيد على الأرجح: إنها تريد تحويل الأسد وسوريا إلى “كبش فداء” لتحسين الوضع الاستراتيجي الأمريكي العام في الشرق الأوسط عبر توسيع بيكار الصراع من العراق إلى باقي بلاد الهلال الخصيب العربي.

مثل هذا التوجّـه ليس جديداً في التاريخ العسكري- السياسي الأمريكي. ففي حقبة الستينات، وحين عجزت أمريكا عن حسم الأمور في فيتنام، عمدت إلى غزو كمبوديا واحتلال لاوس بدعوى ضرب قواعد المتمردين الفيتناميين فيهما. وحتى حين تأكّـدت واشنطن في منتصف السبعينات من أنها خسرت كل الحرب في الهند الصينية، قررت نقل الصراع إلى كل شرق آسيا، ونفّـذت آنذاك انقلابها التاريخي الكبير عبر التحالف مع الصين لاحتواء فيتنام الصاعدة، ومن ورائها الاتحاد السوفييتي.

الآن يتكرر المشهد التاريخي ذاته في الشرق الأوسط، حيث العراق هو فيتنام، وسوريا هي كمبوديا، والشرق الأوسط الكبير هو شرق آسيا. الفارق الوحيد الآن هو عدم وجود قوة دولية فاعلة يمكن أن تمنع واشنطن من إعادة خلط الأوراق كما تريد في الشرق الأوسط: لا روسيا قادرة على ذلك، ولا الصين مستعدة له، ولا بالطبع أوروبا الخائفة من الأصولية والفوضى الأوسطيين في وارد ممارسة لعبة الحصيلة صفر معها.

درب النجاة

الآن، وطالما أن وضعية المستنقع الأمريكي على هذا النحو، ماذا في وسع الأسد أن يفعل للسباحة بنجاح فيه نحو برّ الأمان؟

“التغييرات الشكلية أو التجميلية أو المؤقتة”، كما قال مسؤول أمريكي رفيع، لم تعد كافية. يتعّين على الأسد، إذا ما أراد سلوك درب النجاة، ليس فقط التخلي عن كل الأدوار الإقليمية لسوريا في العراق ولبنان وفلسطين، إضافة إلى إحداث تغييرات ليبرالية في الداخل متوافقة مع شروط العولمة بطبعتها الأمريكية، بل عليه أولاً وأساساً القبول بلعب دور الداعم والمساند للمشروع الأمريكي في العراق، وباقي أنحاء الشرق الأوسط الكبير.

الحسابات الأمريكية هنا واضحة: سقوط الثمرة السورية في الحضن الأمريكي، يمكن برأي واشنطن أن يغيّـر كل لوحة الصراع في منطقة الهلال الخصيب وما بعدها، ناهيك عن أن بروز نظام سوري مؤيد لاحتلال أمريكا للعراق، سيوفّـر دعماً هائلاً للجهود التي تبذلها هي وحلفاؤها في بغداد لمحاصرة المقاومة العراقية، ومحاولة القضاء عليها أو على الأقل الحد من قوتها ومدى انتشارها.

وتشير هنا مصادر لبنانية مقرّبة من دمشق إلى أنه حين أبلغ الأسد الوفود المصرية والسعودية التي تحاول الآن التوسط بينه وبين واشنطن، بأن هذه الشروط تعجيزية، وتهدّد بنسف كل شرعية نظامه، ردّت الإدارة الأمريكية عليه بنقطتين:

الأولى، أن شرعية النظام السوري الحقيقية، كانت ولا تزال، تستند إلى القمع وحُـكم الأجهزة الأمنية، ولم تكُـن طيلة العقود الثلاثة الماضية مهتمّـة بما يريده الشارع السوري.

والثانية، أن والد بشار، الرئيس الراحل حافظ الأٍسد لم يتردّد في إرسال قوات سورية للقتال إلى جانب الأمريكيين ضد قوات عربية أخرى تحمل العقيدة البعثية العربية ذاتها التي يحملها النظام السوري. كما أن الأسد الأب، وحين نشبت الأزمة مع تركيا قبل وفاته بقليل، قبِـل بكل الشروط التركية كاملة (12 شرطاً)، حين شعُـر بأن مصير نظامه في خطر.

وبالتالي، على الأسد الابن الآن أن يحذو حذو الأسد الأب، إذا ما أراد الاستمرار في الحياة السياسية، وربما غير السياسية. لكن هل الرئيس بشار مستعد لذلك أو قادر عليه؟

موت اللواء كنعان، الذي أوحت “فاينانشال تايمز” أنه كان “الشخصية العسكرية العلوية القوية” التي راهنت عليها واشنطن لخلافة بشار، دل على أن جناح الأسد في السلطة (الذي يستند إلى شقيقه ماهر، قائد الحرس الجمهوري وإلى واصف شوكت مدير المخابرات العسكرية) لا يزال قوياً وقادراً على الاحتفاظ بالسلطة.

لكن القوة في هذا الداخل السوري لم تعد تكفي، إذ يجب أن تترجم نفسها أيضاً في كيفية التعاطي مع شروط واشنطن، التي تقول شائعات بيروت إن اللواء كنعان قبلها كلها قبل “استنحاره”، بل تزعم أنه كان يعد لانقلاب عسكري لتنفيذها.

هذه الشائعات لا تزال شائعات. لكن، حتى لو بقيت كذلك أو حتى لو تبيّـن أن كنعان انتحر ولم يُـنحر، فإن هذا لن يغيّـر من واقع الأمر شيئاً: البحث الأمريكي سيتواصل عن “شخصية عسكرية قوية” تحل مكان الرئيس الأسد، ما لم يحل الأسد مكان نفسه وسريعاً، وهذه “السريعاً” باتت الآن، ومع اقتراب موعد نشر تقرير ميليس، مسألة أيام ليس إلا!

سعد محيو- بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية