مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

شهادةُ إستثنائية لباحثة سويسرية قضت ثلاثة أعوام وسط نساء قرية كوشتيبه الكردية العراقية

غلاف كتاب "لقد إقتادوا رجالنا إلى المجهول" swissinfo.ch

فى عام 1983 أثناء الحرب العراقية الايرانية، قامت القوات العراقية بالقبض على ثمانية آلاف كردى عراقى من رجال مسعود برزانى، زعيم الحزب الديمقراطى الكردستانى. مصير هؤلاء الرجال لازال إلى اليوم مجهولا. لكن قصة النساء اللواتى بقين من بعدهم لم تمت معهم! بل قررت الصحافية السويسرية كريستينا كارير التى عاشت بينهم أن تحكيها للعالم بعد أن عادت لتنشر كتابها" لقد إقتادوا رجالنا إلى المجهول".

“كنت فى غفوة، وأنا فى قطار يشق طريقه من برن إلى زوريخ، عندما إنطلق رنين هاتفى النقال. رفعت السمّاعةإلى إذنى لتنهال على أسماعى كلمات كردية: كريستينا، كيف حالك؟ هل تذكرينى؟ أنا نيبس.. أُحدثك من أنقرة.
نيبس فى أنقرة؟ لم أصدق أذني! نيبس حارسى الشخصى الذى لطالما رفض مجرد الحديث عن إمكانية الهجرة من كردستان العراقية.. أجده اليوم نازحاً بزوجه وأولاده إلى تركيا!! مالذى حدث خلال العامين الماضيين حتى يغير رأيه؟ سألته، وشعورٌ بالشقاء يجتاحنى: لماذا يانيبس، مالذى فعَلتَه؟ رد قائلا: تعرضنا للخطر لاننا كنا نعمل لحسابك. لابد ا، تساعدينا على الانتقال إلى سويسرا.

وعدته أن أتصل به لاحقا، وأقفلت الخط. بيد أنى… وإلى اليوم.. لم أتمكن من دعوة نيبس وعائلته إلى سويسرا. فمن كان مثل نيبس من البشر لامكان له فى سويسرا. لكننى قمت بزيارته وسعيت بالوسائل المتاحة لدى إلى تقديم يد العون له. فمصيره هز ويهز وجدانى. وهو ليس وحده فى مقدرته على النفاذ إلى نفسي والتأثير عليها. فمنذ رن هاتفي النقال أدركت، ربما للمرة الاولى، أن الفترة التى قضيتّها فى كردستان العراقية، أصبحت جزءا لايتجزأ منى… تحولت إلى جلدٍ إلتصق بكياني فأصبح مكن الصعب بعد ذلك إنتزاعه.”

بهذه الكلمات بدأت كريستينا كارير الصحفية السويسرية سطور كتابها:( لقد إقتادوا رجالنا إلى المجهول: النساء والحرب فى كردستان العراقية)، ألصادر فى ألمانيا أواخر عام 1998، وفيه قصت وقائع تجربتها الخاصة التى عايشتها أثناء عملها فى الاعوام بين 1991 و1994 فى شمال العراق بإقليم كردستان كمراسلة وباحثة صحيفة، وحكت فيه قصة قرية اختفى معظمُ رجالها في ظروف غامضة، والحياة اليومية لنساء هؤلاء الرجال.

ولعل من المهم اولا، قبل الاستطراد فى هذا الموضوع، التأكيد بأن هذا الحديث لايهدف إلى مناقشة العلاقة الكردية العراقية، فهو لايأخذ طابعا سياسيا ولايسعى إليه فى الاساس… لكنه قراءة إجتماعية إنسانية لمأساة الحرب وماتسببه من أهوال. ولم يأت إستخدام كلمة “قراءة” إعتباطا. فكريستينا كارير، كما تشير فى حديثها إلى سويس إنفو، لم تهدف من كتابها تدوين حقائق تاريخية من وجهة نظر محايدة. هو قراءة للاحداث التى عايشتها لاسيما المتعلق منها بقرية النساء، كتبت فيه إنطباعاتها الخاصة و ماشعرت به تجاهها. فلنتركها تحكى لنا عن هذه الانطباعات بنفسها.

البداية

“علاقتى بهذه المنطقة بدأت فى مطلع عام 1991 عندما َشاركتُ فى حملةٍ إنسانية نظمتها مؤسسة ٌ سويسرية لصالح الاكراد الاتراك تزامنت مع النزوحِ الجماعى لاكراد العراق إلى تركيا. المصادفةُ وحدها هى التى جعلتنى إذهب إلى هناك. فقد كلفتنى صحيفة سويسرية بكتابةِ موضوعٍ عن وضع الاكراد في تركيا. وهناك إنتهزت الفرصة لزيارة خيام لاجئي أكراد العراق. هذه الزيارة كان لها اثر عميق على نفسي، ربما لأنها مكنتني من رؤية حقيقة كثيراً ماتغيب عنا.
حدثَ ذلك بسبب موقف غريب إلى حد ما. كنت اقف في إحدى هذه المخيمات عندما بدأت عملية توزيع الطعام على اللاجئين، واخذ الناس يتعاركون للحصول على حصتهم منه؛ ووجدت نفسى اتحدث مع رجل عجوز عن رياضة كرة القدم التى يتابعها بشغف. اجل كرة القدم. إندماجه فى الحديث معى جعلنى ارى بوضوح أمرا غاب عنى من قبل. وهى ان اللاجئ ماهو إلا إنسان عادى عاش حياة طبيعية لكن الظروف إنتزعته من بيئته. اثارت هذه الحقيقة فضولى. اردت ان اعرف من أين جاء هؤلاء اللاجئين القادمين من وراء الجبال، وكيف كانت حياتهم. وكان هذا دافعا شخصيا لى للذهاب وراء هذه الجبال لارى بنفسي تلك الحياة.”

قرية النساء..؟

“ذهبتُ إلى شمال العراق، وهناك تناهى إلى سمعي قصة الارامل. الجميع كان يتحدث عن مأساة هؤلاء النساء وقدرهن التعيس. أردت ان أرهن، وتمكنت من الذهاب إليهن. وعرفت أن ألمانيا قررت إقامة قريتين لإيوائهن. ولان عملي كصحافية مستقلة لم يكن كافيا للإيفاء بمتطلبات حياتي هناك، فكرت فى إجراء دراسة حول هذا الموضوع، وهى الدراسة التي شكلت نواة كتابي.”

سؤال

“لماذا لاتسعى إلى معرفة ماحدث لازواجنا ومصيرهم؟ سألتْ المرأة بافيرى، الشخصية الكردية المكلفة من قبل مسعود برزانى، زعيم الحزب الديمقراطى الكردستانى، لاعادة إعمار مناطق القبيلة التى دمرتها الحرب.
حك بافيرى رأسه المعممة، ثم حرك الملعقة فى كوب الشاي الفارغ. رد قائلا: وماحيلتى أنا في هذا الشأن؟؟ لقد سألت مسعود مرات عدة عن هذا الموضوع، لكنه لايعرف. لقد إستسفر هو نفسه من الرئيس صدام حسين عن مصير هؤلاء الرجال ولم يلق جوابا.
ولكن هل تعتقد أنهم لازالوا على قيد الحياة؟؟ إرتعش صوت امينة وهى تسأل. لاتقل لى إنهم ماتوا، فأنا لااصدق هذا…
أطلق بافيرى زفرة حارة وأجاب: أنت تعرفين تماما أننى اتمنى بقاءهم على قيد الحياة، اريد ان اصدق هذا ايضا، لكننى لااستطيع ان اسكن من روعك. لاتسألينى المزيد.”
مقطع من كتاب (لقد إقتادوا رجالنا إلى المجهول: النساء والحرب فى كردستان العراقية)

قصة الرجال

تشير كريستينا كارير الصحافية السويسرية فى كتابها إلى أن ثمانية آلاف كردى إنتزعوا من بيوتهم شمال العراق فى ليلة واحدة. حدث ذلك عام 1983 إبان الحرب العراقية الايرانية … عندما إنتهز مسعود برازنى، زعيم الحزب الديقراطى الكردستانى، أوضاع الحرب بين العراق وجارتها، وإستعان بالقوات الايرانية ليستولى على منطقة حادشى عمران فى شمال العراق. هذه المحاولة باءت بالفشل، وتمكنت القوات العراقية من إستعادة المنطقة من جديد. وكأجراءٍ إنتقامى،أصدر الرئيس صدام حسين أوامره بشن حملة ُقبضَ فيها على رجال قبيلة برازنى فى كوشتيبه. وإختفت اثارهُم بعد تلك الليلة ولم يعرف مصيرُهم منذ ذلك اليوم.

قصة النساء

هذا عن الرجال فماذا حدث لنساءهم من بعد؟
تعيش معظم هؤلاء النساء بصورة أساسية في قريتين. وتشكل نسبة النساء فى إحدى هذه القرى نسبة تسعين فى المئة من السكان. تضم القريتان ايضا أبناء هؤلاء النساء الذين اصبحوا ألان في طور المراهقة والشباب، أما الاطفال فهم الوجه الغائب فيهما. فلم تتمكن من الانجاب سوى بنات الغائبين اللائى تزوجن بعد ان بلغن.

مأساة هؤلاء النساء تتمثل فى صعوبة تحديد وضعيتهن. هل هن ارامل ام زوجات؟ هن لازلن ينتظرن رجوع ازواجهن بالرغم مما حدده الشرع من إمكانية زواجهن بعد سبع سنوات من غياب الزوج. لكن مجرد الحديث عن هذا الامر أصبح اشبه مايكون بالمحرمات. والمشكلة، كما تقول كريستينا كارير، إن القناعة السائدة، هو أن الرجال المعتقلين قد فارقوا الحياة: “الجميع يعرف بشكل او بأخر أن هؤلاء الرجال قد قتلوا، فنحن نتحدث عن ثمانية الاف شخص، ولايمكن إخفاء مثل هذه الجموع او الزج بهم فى السجون دون أن تتسرب أخبار عن مثل هذا الحدث. لكن زوجاتهم يرفضن التصديق بذلك مالم يروا بقايا جثثهم.”

نساء بلارجال

“ماهو محرم بالنسبة لهؤلاء النساء هو القول بوفاة أزواجهن. ففى إعتقادى، وهنا اعود لاذّكر بأننى اتحدث عن تفسيرى الخاص لما شاهدته، اعتقد ان إختفاء الازواج شكل رابطا جمع بين هذه النسوه، وجعل منهن جماعة مستقلة. فهو عامل مشترك، دفعهن للعيش معا فى الاعوام الماضية، يتحدثن عنه ويبكين عليه، وينتظرن معا عودة الغائبين. ومن جانب اخر، فإن القناعة بضرورة عودة الرجال ترتبط ايضا بمسألة الشرف والعار. فهولاء النساء يعشن منذ اكثر من عقد بمفردهن، والقوات العراقية تحيط بالمواقع التى يعشن فيها. الامر الذى أثار أقاويل عن حالات اغتصاب ودعارة. ولذلك فهن يتجنبن القيام بأي خطوة يمكن أن تفسر بمغازي جنسية …هن على قناعة بأنهن يدافعن بذلك عن شرف رجالهن الغائبين. ولذلك فأن أى امرأة تجرؤ على مجرد الحديث عن رجل غريب أو الإشارة إلى إعجابها بها فأنها تعانى على الفور من عزلة جماعية لاتطاق.”

العار

“كنا جماعة من الصحافيين ومن اعضاء بعض المنظمات إلانسانية فى ضيافة سامى عبدالرحمن، السياسى البارز فى الحزب الديمقراطى الكردستانى. سألته تانيا ُمفتى ممثلة منظمة العفو الدولية، عما إذا كان قد تناهى إلى سمعهِ قصة ُ مقتلِ بعضِ النساء فى كوشتيبه.
الاجابة، كما إعتدنا فى مثل هذه الظروف، هو انه لاعلم له بما حدث.
عن نفسى، لم اصدق ما سمعته. سألت تانيا: جرائم قتل فى كوشتيبه؟؟ أىُ جرائمِ قتل؟
اجابتنى: اتحدث عن مقتل عشرين إمراة من الارامل وبناتهن على ايدى اقاربهن وأحيانا قريباتهن. لماذا؟
السبب أنهن تجرأن على أقامة علاقة مع رجال اغراب، واحيانا حملن منهم سِفاحاً.”
مقطع من كتاب (لقد إقتادوا رجالنا إلى المجهول: النساء والحرب فى كردستان العراقية)

والحياة؟

“عندما إلتقيت بهؤلاء الارامل لاول مرة إقتنعت بمقدراتهن وقوتهن. هن أُجبرن على الحياة بمفردهن لاكثر من عشر سنوات، وإضطررن إلى الاعتماد على أنفسهن والخروج إلى المزارع للايفاء بمتطلبات الحياة. لكن مااثار دهشتى بالفعل هو انطباع هؤلاء النساء عن انفسهن. فبالرغم من مقدرتهن المتميزة على الاحتمال تجديهن على قناعة تامة بضعفهن. على سبيل المثال، هن يقلن دائما: اوه حياتى إنتهت، وماالجدوى من حياتى دون زوجى، وكيف يمكننى الاستمرار دون مقدرتى على فعل هذا الامر او غيره. رغم انهن يفعلن ذلك يوميا.. عشن وإحتملن وتمكنوا من الاستمرار. التناقض، كان واضحا، بين قوتهن التى تتجسد فى حياتهن اليومية، وبين إنطباعاتهن وتصورهن الخاص عن انفسهن.”

إلهام مانع

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية