مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

محاكمة رئيس عربى .. وما وراءها؟!

تثير محاكمة صدام حسين جدلا واسعا بين ما يسمى بالخصوصية العراقية وعموم الظاهرة العربية Keystone

أيا كان الموقف السياسي والقانوني من محاكمة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، فسيظل لها دلالة خاصة في السياسة العربية والعراقية.

وما الجدل الذي أثارته الاتهامات الموجهة له ولأبرز معاونيه إلا قمة جبل الجليد، فهناك تحت السطح مما يمكن استنباطه. وما سيترك أثره على إدراك المواطن العربي العادي.

هذا الجدل يسمح بالنظر إلى تلك المحاكمة كحالة خاصة، ربما لا يمكن تكرارها فى حالات عربية أخرى على النحو الذى جرت به. فتنظيم المحاكمة تم بناء على قرارات من قبل الحاكم المدني الأمريكي الذي يمثل احتلالا أجنبيا، وليس من طرف الحكومة العراقية المؤقتة التى نقلت إليها قانونيا صلاحيات السيادة.

وحتى الحكومة المؤقتة يمكن الطعن في صلاحيتها حين القيام بإجراء قانوني كبير مثل محاكمة رئيس ورموز نظامه على جرائم كبيرة وخطيرة كالتي وجهت إليه وتتعلق بجرائم ضد الإنسانية. فمعنى أنها مؤقتة أي أنها انتقالية وليس لها شرعية شعبية متكاملة تنبع من الناس أنفسهم، بل إن أساسها القانونى نابع أصلا من قوة الاحتلال.

وثمة غياب للنظام القانونى المتكامل الذى تجري على أساسه مثل هذه المحاكمة، وهل تتم بناء على قانون خاص تصدره الحكومة المؤقتة أم استنادا إلى قوانين النظام البعثى الصدامى المنهار؟.

وفى حدود الجلسة الإجرائية فقد غاب الدفاع والمحامون الذين لا يتصور أى محاكمة متكاملة بدون وجودهم بجوار المتهمين، كما غاب الإعلام وتم تعمد تسريب معلومات معينة وتصريحات نسبت للمتهمين جميعهم تم اقتطاعها من سياقها العام.

ناهيك عن الإصرار فى تجسيد معانى الإذلال والإهانة الشخصية للمتهمين من حيث التكبيل بالسلاسل والتعامل الخشن معهم، إرضاء لمشاعر قطاعات من الرأى العام العراقى، وهو ما يمكن النظر إليه باعتباره إجراء جاء على حساب المعاني القانونية النبيلة التي يحملها مبدأ المحاكمة نفسه.

كان الأجدر..

المدافعون عن المحاكمة بكل ما فيها من ثغرات يرون الأمر من زاوية الحالة نفسها، فالرئيس صدام الذى حجب عن مواطنيه العدالة بكل درجاتها إبان حكمه الممتد لاكثر من ثلاثة عقود، وتعامل معهم كأشياء لا اكثر و لا اقل، وأوقع عليهم العقوبات الفردية والجماعية دون حسيب أو رقيب أو مجرد توفير فرصة لاستئناف الحكم كما يحتمه أي قانون بسيط فى أي مجتمع كان، توافرت له هو شخصيا فرصة المساءلة القانونية ولو فى ظل حد أدنى من الضمانات التي غابت كلية عن مواطنيه.

ورغم ما فى ذلك من وجاهة شكلية على الأقل، فربما كان الأجدر أن يقدم النظام العراقى الجديد محاكمة متكاملة الأركان، ولا تشوبها شائبة من أي نوع شخصي أو قانوني أو سياسي، حتى تُعد سابقة عراقية وعربية فى الآن نفسه، وتكشف عن أن نظام الحريات المزمع إقامته فى العراق سيقوم أساسا على توازن دقيق بين الحقوق والواجبات، وبين القانون المشروع والتطبيق المحكم.

الخاص العراقى والعام العربى

هذا الخاص العراقي، بجوانبه المتقابلة سلبا وإيجابا، لا تحجب معنى مطلوبا فى حد ذاته، عراقيا وعربيا معا، وهو انه لا أحد يجب أن يكون فوق المساءلة، أيا كان وضعه السياسي، وانه فى ظل ظروف طبيعية يجب أن يكون هناك نظام متكامل للمحاسبة لكل من ساقته طموحاته أو ظروفه لكي يكون الرجل الأول فى موقعه، رئيسا كان أو وزيرا أو مسؤولا عن قطاع ما يمس مصالح الشعب.

فالمحاكمة القانونية مكتملة الأركان، وكتعبير عن أعلى درجات المحاسبة والالتزام القانوني، بالنسبة لرأس النظام على ما اقترفه من أخطاء وجرائم فى حق شعبه وشعوب أخرى مجاورة، تمثل مبدأ قانونيا مهما يجب التمسك به وترسيخه فى الوجدان العربى، جنبا إلى جنب ترسيخه فى الدساتير والقوانين العربية المعمول بها. وتلك بدورها واحدة من الأمور التى نعرف جميعا أنها غائبة تماما عن واقعنا العربى بفعل النظرة المقدسة بإفراط أحيانا للقائد أو من هو على رأس النظام.

صحيح انه تجرى بين الحين والآخر محاكمات لبعض المسؤولين من المستويات الوسيطة أو حتى وزراء، ممن أساءوا استخدام سلطاتهم أو نتيجة ثبوت فسادهم الشخصي والإساءة إلى مصالح المجتمع، إلا أنها تظل محاكمات ذات طابع فردي ومحدود وعابر، ولا تمثل تيارا للمحاسبة والمراجعة لمن أخطئوا وافسدوا.

وغالبا ما ينظر الرأي العام الى مثل هذه الحالات باعتبارها راجعة إما إلى انقسام وربما صراع فى داخل صفوف النخبة الحاكمة، أو لأن المسئول الذي تمت محاكمته قد رفعت عنه غطاء الحماية لأنه تجاوز خطوطا حمراء معينة، أو لرغبة النظام فى التضحية بكبش فداء للتغطية على أمور أهم واكبر، وربما إلهاء الرأي العام عن قضايا حقيقية، وأيضا لإثبات أن النظام يمكن أن يقدم مسئوليه للمحاكمة إذا ما أخطئوا.

هل من محاسبة للمسئولين؟

وإذا نظرنا في كل البلدان العربية تقريبا، فلن نجد أي قانون خاص بمحاسبة المسئولين من مستوى الوزراء وما فوقهم، بما فى ذلك توفير ضمانات قانونية لهم أثناء هذه المحاكمات تحول دون استخدام تلك المحاكمات لأغراض تصفية حسابات شخصية أو لحسم صراعات بين تيارات النخب الحاكمة، ولذلك يظل الأمر مرتبطا بظروف خاصة لكل حالة. بل إن بعض البلدان العربية لا يتُصور فيها محاسبة المسئولين والوزراء والحكام، نظرا لأنهم في وضع مقدس أو شبه مقدس. وهو أمر يتناقض كلية مع مفهوم المسؤول المناط إليه ومهام محددة بالقانون وبالعرف العام، والتي تمثل إطار عمله وإطار محاسبته في الآن نفسه.

إن استمرار مثل هذا الوضع يعني استمرار غياب المحاسبة القانونية المسئولة، ويعني أيضا توفير حصانة سياسية ومعنوية لكبار المسئولين قد تدفع بالكثيرين منهم إلى إساءة السلطة على نحو يدمر قدرات المجتمع، ويُضيع الحقوق العامة والخاصة على حد السواء.

والمفترض هنا انه لو كان هناك فى العراق نظام سياسي يقوم على مبدأ المحاسبة السياسية والشفافية وإعمال القانون، لما توافرت فرصة أصلا لكل التجاوزات والانتهاكات الجسيمة التى عرفها العراق طوال حكم البعث الصدامي.

مستويات ثلاث للمحاسبة

إن فرصة التعلم من خبرات التاريخ والحاضر معا ليست محسومة لا سلبا ولا إيجابا إلا بالقدر الذي يحرص فيه مجتمع ما على مراجعة نفسه وإصلاح ما يشوبه من قصور، ولعل حديث الإصلاح الشامل الذي يثور الآن في كثير من المجتمعات العربية همسا وتلميحا أو تصريحا وتأكيدا يمثل مدخلا للتفكير جديا في أن يكون هناك نظام متكامل للمحاسبة لكل مسئول رضى لنفسه أن يكون في موقع المسئولية الأولى.

وتلك بدورها لها ثلاث مستويات، تتعلق جميعها بدولة الحريات والقانون التي لا يصلح أي إصلاح بدونها.

المستوى الأول يعكس حالة الحرية في مجال الإعلام ومخاطبة الرأي العام، وهى أداة المتابعة للأمور اليومية ومجال مراقبة المواطنين لمن يحكمونهم، وتوجيه النظر إلى اوجه القصور والأخطاء الصغيرة أو الكبيرة أولا بأول. إنها أداة المحاسبة الشعبية اليومية.

المستوى الثاني يتعلق بالرقابة البرلمانية، أو المحاسبة عن طريق نواب الشعب، وتلك بدورها مرتبطة بنظام ديمقراطى وقوانين تنظيم الانتخابات بلا أدنى تزوير لإرادة الناس، ومن ثم يكون هناك نواب يقومون على خدمة المواطنين ويحرصون على ثقة من أتوا بهم إلى تلك المقاعد، ويقومون بخدمتهم عبر مراقبة السلطة التنفيذية مراقبة صحيحة وفقا للمصلحة العامة.

أما المستوى الثالث فيتعلق بوجود قوانين واضحة وبلا ثغرات لمحاسبة المسئولين أيا كان موقعهم في السلطة، بداية من أعلى رأس النظام ومرورا بالمستويات الوسيطة.

هذه المستويات الثلاث للمحاسبة تتكامل فيما بينها، ولا يمكن تصور إحداها دون الأخرى، وهي بالنسبة للمجتمعات العربية تكاد تكون حلما بعيد المنال. وهذا صحيح طالما غابت الديمقراطية وظلت النخب الحاكمة فاقدة للشرعية في غالب الأحيان وفي معظم المجتمعات.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية