مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مـكاسب السلطة وتشرذم المعارضة

استثمار رسمي متواصل لتداعيات 11 سبتمبر مقابل تراجع في أداء المعارضة بمختلف تياراتها swissinfo.ch

يمكن القول إن الحكم في تونس قد حقق خلال هذا العام عدة نقاط لصالحه، رغم استمرار خصامه مع منظمات حقوق الإنسان في الداخل والخارج.

من ناحيتها، واصلت مختلف أجهزة الحكم ترسيخ البرنامج السياسي الذي ركز على تحقيق الاستمرارية من خلال التمديد للرئيس زين العابدين بن علي لأكثر من ولاية أخرى.

يُمكن القول إن سنة 2003 شكلت امتدادا لسابقتها، حيث استمرت مختلف الأجهزة السياسية منها والحزبية في ترسيخ برنامج السلطة الذي ارتكز منذ مطلع الألفية الجديدة على تحقيق الاستمرارية من خلال التمديد للرئيس زين العابدين بن علي لأكثر من ولاية.

وفيما اهتمّـت المرحلة الأولى من هذا البرنامج بالتهيئة النفسية والسياسية عن طريق الحملات الحزبية والدعائية، شهدت المرحلة الثانية كسر الحاجز الدستوري من خلال استفتاء 26 مايو 2002، الذي مكّـن الحكم من سحب البساط من تحت أرجل المعارضين، وكسب المعركة الانتخابية الرئاسية قبل بدايتها بعام ونصف.

أما المرحلة الثالثة التي انطلقت قبل بضعة أشهر والتي سوف تستمر طيلة عام 2004، فإنها ترمي إلى تكريس الأمر الواقع والإعداد الفني أو العملي للاستحقاق الانتخابي للخريف المقبل.

أما على الصعيد الاقتصادي، فبالرغم من بعض الصعوبات والمؤشرات السلبية، إلا أن البلاد لم تشهد اضطرابا اجتماعيا، وبقيت مؤسسات التمويل الدولي الرئيسية تنظر بعين الرضى إلى الأداء العام للاقتصاد التونسي.

وإذ تعددت الاعتصامات التي لجأ إليها عمال بعض المؤسسات والمصانع، وهي ظاهرة قد تهدّد بتفاقم المشكلات الاجتماعية الناجمة عن سياسات التخصيص واستمرار التفويت في مؤسسات القطاع العام، إلى جانب استمرار البطالة كملف مزمن، وغلاء المعيشة، إلا أن الحكومة ظلّـت قادرة على التحكم في مؤشرات الأزمة إلى حدّ بعيد.

أحزاب في مهبّ الريــح

في مقابل ذلك، لم تكن هذه السنة في صالح جميع أطراف المعارضة والمجتمع المدني، حتى الأحزاب التي ارتبط مسارها ومصيرها بمسار السلطة عاشت أحداثا غير سارة.

فحزب الوحدة الشعبية فوجئ بإعلان عدد من أعضائه عن انسحابهم بشكل جماعي “احتجاجا على أسلوب إدارة القيادة للحياة الداخلية للحزب”، وهو ما أنكرته هذه القيادة وشككت في الهوية الحزبية للمنسحبين.

أما الاتحاد الوحدوي الديمقراطي، فقد تلقى ضربة قاسية لم يتوقعها أحد، عندما تعرض رئيسه إلى الاعتداء بالعنف ليجد نفسه بعد ذلك بين عشية وضحاها ينتقل من رجل الثقة المقرب جدا إلى سجين مجاور للإسلاميين ينتظر حكم القضاء بتهمة سوء التصرف.

وبالنسبة لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، فقد مضى عام آخر من دون أن تتحقق المصالحة أو لـمّ الشمل، حيث استمرت الخصومات السياسية والشخصية بين أبناء المدرسة الواحدة، رغم قرار السيد محمد مواعدة، الرئيس السابق للحركة، طي صفحة الماضي والقبول بشرعية القيادة الحالية.

كما استمرت، من جهة أخرى، حالة النزيف التي يعاني منها “الحزب الاجتماعي التحرري” الذي كلما خرج من انقسام، عاد بسرعة عجيبة ليشهد انقساما جديدا داخل مكاتبه السياسية.

الحد الأدني.. المفقود

أما بالنسبة لأحوال المعارضة الاحتجاجية، فهي، وإن حافظت على مواقفها ومنهجها الاستقلالي عن السلطة، إلا أنها فشلت في إعادة ربط حلقاتها، ولم تتوصل إلى إرساء أرضية مشتركة وبناء تحالف سياسي قادر على الاستمرار والتأثير. فقد اصطدمت آخر محاولات تقريب وجهات النظر بتباين الرؤى حول أهم الملفات، وفي مقدمتها توحيد الموقف من الانتخابات الرئاسية القادمة، والعلاقة مع الإسلاميين.

هذا الوضع السلبي لم يحل دون مواصلة جهود كل فصيل على حدة من أجل المحافظة على البقاء ودعم الصفوف قدر الإمكان. فحركة التجديد مستمرة في لملمة أوضاعها الداخلية منذ أن قررت مراجعة علاقاتها بالسلطة، وقد أصدرت وثيقة لم تثر كثيرا من الاهتمام.

أما الحزب الديمقراطي التقدمي، فقد استمر في تكثيف نشاطه السياسي والثقافي دون أن يحقق النقلة النوعية التي يأملها. كما كشفت الأزمة الصحية التي تعرض لها الأمين العام للحزب، وقرار هذا الأخير بالتخفف من أعباء الأمانة العامة لاعتبارات تتعلّـق بالاستحقاق الانتخابي القادم عن حالة من استواء الرؤوس كادت أن تفجر أزمة داخلية لولا تغلب الروح الوفاقية، والتوصل إلى صيغة القيادة الجماعية.

بالنسبة للحزب العمالي الشيوعي التونسي الذي نجح في إطلاق سراح زعيمه السيد (حمة الهمامي) ومن تبقى من رفاقه، إلا أن ذلك لم يحسن كثيرا من الأداء السياسي للحزب، ولم يوسع من دائرة تأثيره. أما بالنسبة لحزب التكتل الذي تم الاعتراف به في مطلع هذه السنة، فقد كان أداءه أقل من التوقعات، حيث اتجه نشاطه بشكل رئيسي نحو استقطاب الكادر السياسي القادر على إنجاز مؤتمر تأسيسي.

من جهتها، لم تظفر حركة النهضة هذا العام بأي مكسب سياسي، فالسلطة لم تغير موقفها من الحركة قيد أنملة، وبقيت الدعوة إلى المصالحة التي أطلقها بعض أعضائها دون أي صدى داخل أجهزة الحكم. ورغم صيحات الفزع التي أطلقتها أطراف عديدة، ومطلب العفو التشريعي العام الذي اخترق مرة أخرى قاعة البرلمان من خلال مداخلات عدد من النواب المعارضين. فقد استمر وضع مئات المساجين السياسيين على حاله دون أي تغيير يذكر.

مجتمع مدني.. متصدّع

إن وضع الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني خلال العام لم يختلف حالها كثيرا عن حال الأحزاب السياسية. فبالرغم من صمود الحركة الحقوقية، إلا أنها بقيت تشكو من سياسة “سد المنافذ والتعتيم والتهميش”، وبدل أن يشكل ذلك حافزا لها على التوحد وتعميق قيم التضامن والتنسيق بين مختلف مكوناتها، أصبحت عرضة لخطر الانتكاس والتناحر والتورط في لغة التجريح والتخوين.

من جهة أخرى، وبعد تعاون قصير المدى بين الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض الجمعيات المستقلة، صدرت التعليمات بوقف التنسيق الجماعي ليبقى المجتمع المدني يعاني من تداعيات انفصال الحركة النقابية عن الحركة الحقوقية والاجتماعية.

كما بقي الطلاب معزولين عن الشأن العام بسبب استمرار “حرب داحس والغبراء” القائمة منذ سنوات عديدة بين مجموعات طلابية صغيرة تتنازع السلطة على بقايا “الاتحاد العام لطلبة تونس”.

هذا الوضع المتصدع دفع بالمعارض المنصف المرزوقي إلى الحديث عن “إفلاس المجتمع المدني”، مشخصا الداء في “تجزئة المجزأ وتفكيك المفكك، وصراع النرجسيات المريضة على سلطة وهمية وشهرة زائلة”، على حد تعبيره.

أوضاع حقوق الإنسان.. كما هي

بالنسبة لأوضاع حقوق الإنسان، يتفق المراقبون حول القول بأنه لم يطرأ عليها أي تغيير نوعي، فلا تزال تقارير وبيانات المنظمات الحقوقية تشير إلى استمرار ظاهرة اكتظاظ السجون، وتكرر لجوء المعتقلين السياسيين وغيرهم إلى أسلوب الإضراب عن الطعام لفترات طويلة.

وتتكثف الشكوك حول احتمال أن تتمكن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من عقد مؤتمرها السادس في ظروف عادية بعد أن تراكمت الأحكام القضائية ضد عدد من فروعها.

وبينما توقع النشطاء بعض الانفراج على إثر إسعاف الشاب “زهير اليحياوي” بالسراح الشرطي، توجّـت هذه السنة بثلاث أحداث زادت من إثارة القلق والمخاوف.

تمثلت الحادثة الأولى في الحكم المفاجئ على النشطة السياسية والحقوقية “أم زياد” مع إسعافها بتأجيل التنفيذ بتهمة “تهريب العملة”، في حين اعتبر محاموها وكل المنظمات الحقوقية أن الأمر يتعلق بقضية سياسية.

أما الحادثة الثانية، فقد شدت اهتمام أوساط واسعة داخل البلاد وخارجها، وتمثلت في الإضراب عن الطعام الذي شنّـته المحامية المعروفة بوقوفها إلى جانب سجناء الرأي، الأستاذة راضية النصراوي لمدة 54 يوما.

وبالرغم من الضجة الإعلامية والسياسية التي صاحبت هذا الإضراب، على الصعيدين المحلي والدولي، خاصة وأنه تزامن مع قمة 5+5، إلا أن السلطة تعاملت مع الحدث بكثير من التجاهل والإصرار.

أما الحدث الأخير، فقد كان مصادقة مجلس النواب على القانون الجديد لمكافحة الإرهاب، الذي فاجأت فصوله الأوساط الحقوقية ودفعها إلى التساؤل حول خلفياته وتداعياته المستقبلية.

مكاسب.. واختلال

على المستوى الوطني كان عام 2003 بحقّ عام الحراك الدبلوماسي الذي جعل من تونس قبلة لكبار المسؤولين السياسيين والاقتصاديين في العديد من الدول الأوروبية والغربية.

وقد تُـوجّـت تلك السلسلة من الزيارات الرسمية بجولة كولن باول الخاطفة، وزيارة الدولة للرئيس الفرنسي جاك شيراك، والتئام قمة 5+5 التي شارك فيها أربعة من قادة دول الاتحاد المغاربي وزعماء 5 دول أوروبية.

ولعل أهم ما ميّـز تلك الزيارات، الدعم السياسي القوي للنظام، وبروز ظاهرة التنافس الدولي المتزايد على تونس بشكل خاص، ومنطقة المغرب العربي بشكل عام.

هكذا بدت حصيلة السنة المنقضية في تونس: استثمار متواصل على الصعيد الرسمي لتداعيات 11 سبتمبر، والحرب على الإرهاب، يقابله تراجع في أداء المعارضة بمختلف أصنافها، ومزيد من اختلال موازين القوى بين السلطة والمجتمع.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية