مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مواقف عربية … باردة

فتور الشارع العربي تجاه ما يحدث في المناطق الفلسطينية ظاهرة محيرة فالبعض يعتبرها خطيرة وآخرون يرونها نتيجة متوقعة swissinfo.ch

فى الوقت الذي تتزايد فيه الضغوط العسكرية والسياسية الإسرائيلية والأمريكية على الرئيس عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية، التي تتواصل التلميحات بقرب القضاء عليها باعتبارها سلطة عدوة وداعمة للإرهاب وفقا للمفاهيم الأمريكية المستحدثة والاختراعات الشارونية، تبدو المواقف العربية والإسلامية وكأنها فقدت البوصلة السياسية.

صحيح أن هناك ردود أفعال وبعض تحركات تنبىء بسعى قطرى بناء على طلب فلسطينى الى عقد قمة طارئة إسلامية، وقرار عربى بعقد اجتماع طارىء يوم الاحد المقبل التاسع من ديسمبر الجارى للجنة المتابعة العربية، بيد أن الصحيح أيضا أن هذه التحركات فى حال حدوثها ستكون، الى جانب كونها متأخرة اكثر مما ينبغى، بلا مضمون حقيقى.

فالعدوان على السلطة مستمر ووصل الى حدود جعل السلطة بما فيها الرئيس عرفات وكأنها غير موجودة على الأرض ، ولن نقول قد افاض فى إهانتها وتقليم أظافرها المقلمة أصلا، فى الوقت الذى يطالبها بعمل جبار يفوق طاقتها المحدودة ويفوق طاقة إسرائيل نفسها بكل ما لديها من امكانات استخبارية ومادية وعسكرية هائلة مقارنة بما هو موجود لدى السلطة الوطنية.

وتبدو بيانات الإدانة العربية فى مثل هذه المواقف التى تشهد اعتداءات اسرائيلية على الشعب الفلسطينى مسألة متكررة، ولكن هذه المرة تكاد تغيب تلك البيانات وكأن حجم الاعتداء الاسرائيلى ومراميه القريبة والبعيدة معا غائبة عن الوعى العربى الرسمى، إذ امتنعت بعض الدول عن اى رد فعل واكتفت بالنظر الى المشاهد الواردة فى نشرات الأخبار الفضائية حول دقة القصف الاسرائيلى بالصواريخ الامريكية الموجهة بالليزر والأشعة فوق الحمراء للأهداف الفلسطينية البائسة.

واكتفى البعض الأخر بافتتاحيات صحف محسوبة على الحكومة تندد بالقصف الاسرائيلى الوحشى وتشير الى تشجيع امريكى وراء هذا العمل. وفى سياق التصريحات الرئاسية جاءت دعوة الرئيس اليمنى على عبد الله صالح الى تأمين حماية دولية للشعب الفلسطينى، ودعوة الرئيس مبارك والعاهل الاردنى بعد لقائهما فى القاهرة يوم الاثنين 3 ديسمبر الجارى الى وقف العنف وعمليات الانتقام والعودة الى المفاوضات. أما أحمد ماهر وزير الخارجية المصرى فقد وصف الاعتداءات الإسرائيلية بأنها إجراء غير مقبول على الإطلاق، داعيا نظيره الأمريكى باول الى ان تكثف بلاده جهودها من أجل وقف التدهور والاعتداءات الإسرائيلية.

أما على صعيد التحركات الملموسة فلم تخرج عن مراسم معتادة، من قبيل اجتماع طارىء لمندوبى الدول فى الجامعة العربية تم فيه تدارس الموقف ، وحسب قول الأمين العام عمرو موسى أن المجلس جدد الثقة فى قيادة الرئيس عرفات واعتبر أن محاولات التخلص من قيادته سيكون بمثابة تراجع ضخم وأساسى فى عملية السلام ومسيرتها برمتها. اما مصر من جانبها فقد أرسلت وزير استخباراتها الى اسرائيل للمساعدة فى وقف تدهور الموقف ، وربما المساعدة فى قيام السلطة بأداء بعض ما هو مطلوب منها أمنيا.

وفى الإجمال فإن مثل هذه المواقف ليست خارجة عن المألوف والمعتاد ، والأقرب الى الدقة أنها تبدو أقل كثيرا من طبيعة ما يجرى على الأرض الفلسطينية، ولا تتناسب مع حجم التحدى والتهديد الذى يواجهه الشعب الفلسطينى وسلطته معا.

ومن اليسير القول أن الضغوط الأمريكية المباشرة وغير المباشرة، المرئى منها وغير المرئى، لها فعلها وتأثيرها على مواقف الحكومات العربية سواء التى تراهن على دور أمريكي من أجل العودة الى المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وفقا لخطتى ميتشل وتينيت، أو تلك التى ترى أنها بعيدة عن التأثير فى مسار الأحداث الفلسطينية ومجرى عملية التسوية، وتكتفى أو لا تملك سوى إصدار البيانات الشاجبة أو الرافضة حين الضرورة ومن باب رفع العتب التاريخى ليس الا.

ورغم صحة مثل هذا التفسير فهو وحده لا يُعد كافيا ووافيا فى شرح حالة الهدوء والبرود الذى ران على المواقف العربية إزاء العدوان الاسرائيلى المستمر منذ 14 شهرا. وهنا يبدو البحث عن عوامل أخرى مسألة ضرورية.

من “قضية عربية” إلى “مشكلة فلسطينية”

فالثابت ان حركة العالم العربى إزاء القضية الفلسطينية منذ مطلع التسعينات وحتى الوقت الراهن باتت اقرب الى حالة التعب العام والرغبة فى التوصل الى صيغة تاريخية بأى صورة لإغلاق هذا الملف، والذى يضغط على الحكومات داخليا ويستنزف الكثير من علاقاتها الخارجية لاسيما تجاه الولايات المتحدة.

وتبدو مقولة أن القضية هى بيد الفلسطينيين وليس بيد غيرهم بمثابة المخرج الشكلى الذى وفر للدول العربية نوعا من راحة البال السياسية، والاكتفاء بكلمات الدعم والمساندة، وإجراء بعض التحركات والمناشدات بين الحين والأخر للإدارة الامريكية لكى تراعى الحد الادنى من المصالح الفلسطينية وقدر من الاعتبار لماء الوجه العربى. فى الوقت نفسه مالت جميع الدول العربية تقريبا الى تفريغ القضية الفلسطينية من أى مضمون شعبى عربى ، وسعت ـ وقد نجحت فى ذلك بنسبة عالية جدا ـ بحصر أى تحرك فى الأطر الرسمية القطرية او حتى الجماعية فى إطار الجامعة العربية باعتبارها التحرك المضمون الوحيد المسموح به والذى يراعى المصالح العربية العليا.

ومثل هذه السياسة التى فرقت ووضعت الفواصل بين الشارع العربى وبين القضية الفلسطينية ساهمت بدورها ليس فقط فى إضعاف الضغوط المعنوية التى يمكن أن تمارس على الحكومات العربية من أجل اتخاذ مواقف عملية داعمة للحقوق الفلسطينية ولاسيما الحق المشروع فى المقاومة ، بل أيضا قادت الى نتائج بعيدة المدى ، تمثلت فى إضعاف الموقف الفلسطينى نفسه وعزلته والنظر إليه من قبل أطراف دولية عدة وعلى رأسها الولايات المتحدة باعتباره طرفا ضعيفا قابل للضغط وإعطاء التنازل الواحد تلو الاخر.

وكم ساهمت مثل هذه العزلة العربية على القضية الفلسطينية فى منح مزيد من الزخم للاعتداءات الإسرائيلية وزاد من قوة التيارات اليمينية المتطرفة الراغبة فى التخلص من المضامين القومية والحقوقية للقضية الفلسطينية بأسلوب التصفية السريعة والاعتداءات المتتالية، دون اعتبار لأى رد فعل عربى مناسب يؤثر على المصالح الإسرائيلية.

أما الشعب الفلسطينى فبات بعضه يضرب فى الأرض على غير هدى أحيانا وفى وقت غير ملائم. وكله صار عليه أن يدفع ثمنا غاليا المرة تلو الأخرى، وصار اليأس سمة غالبة على الجميع دون استثناء.

مفاهيم أمريكية … بأصوات عربية

والحق أن مواقف الدول العربية هى أقل كثيرا مما تفترضه روابط الاخوة فى الدين والعروبة ومما تفترضه عوامل المصير المشترك ودواعى المصالح الواحدة او المتقاربة. ولا شك أن حالة السيولة الحالية فى النظام الدولى والتوظيف غير الاخلاقى وغير المنصف لمفهوم الإرهاب والحملة عليه التى تقودها الولايات المتحدة وفق فهم خاص جدا ينطلق من مصالح أمريكية واسرائيلية مباشرة غير مقبولة من باقى العالم، ويتيح لها ممارسة الضغوط على كل الدول تقريبا بدون وجه حق، ودون اعتبار للفوارق بين المجرم والضحية، وبين الحق فى المقاومة ودواعى الانتقام اللا إنسانى واللا مشروع، كلها عوامل سياسية ومعنوية قادت بدورها الى وضع الدول العربية ما بين سندان القابلية للاتهام بدعم الإرهاب ومطرقة الغطرسة الأمريكية.

ولعل تبنى غالبية الدول العربية للمفاهيم التى تستخدمها الولايات المتحدة وإسرائيل فى توصيف الوضع الفلسطينى من قبيل عبارات محايدة مثل العنف والانتقام والانتقام المضاد والدعوة الى ضبط النفس، دون الأخذ فى الاعتبار حقيقة وجود احتلال اسرائيلى وحالة حصار كامل على الشعب الفلسطينى بما فيه من تجويع وإهانة وتدمير منظم للموارد المحددودة جدا ، إضافة الى تجاهل حقيقة الحق المشروع للشعب المحتل فى المقاومة حتى اجلاء الاحتلال ، كلها اعتبارات قادت فى النهاية الى محاصرة هذه الدول العربية بنفسها لنفسها فى إطار المفاهيم الأمريكية ومن ثم عدم قدرتها على إقناع واشنطن بعدم جدوى الانحياز السافر لإسرائيل، وأيضا عدم قدرتها على تبنى مواقف مستقلة تجاه الاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة والتى لا هم ولا هدف لها سوى الإجهاز على رموز الاستقلال الفلسطينى المحدودة وضرب الطموحات القومية فى الصميم.

فى ظل وضع كهذا لا تبدو هناك خيارات جادة أمام العالم العربى. والخيارات الجادة المطلوبة هنا ليست مجرد إصدار بيان أيا كانت قوة كلماته وتعبيراته، بل فى تحديد إجراءات عملية تصب مباشرة فى صمود الشعب الفلسطينى ومقاومته المشروعة حتى وصوله الى حقه الطبيعى فى دولة مستقلة ذات سيادة كاملة وغير منقوصة، وتدفع واشنطن الى إعادة نظر جذرية فى مواقفها المنحازة وغير الاخلاقية معا، وتعطى للعالم إشارة قوية بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد لعبة إسرائيلية، بل لها سند عربى لن يمل ولن يكل أيا كانت الضغوط او سيولة النظام الدولى القائم. والقطع أن الوصول الى هذه الخيارات ليس سهلا، ولكنه ليس مستحيلا.

د. حسن أبو طالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية