مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

موريتانيا على أبواب مرحلة جديدة ؟

(من اليمين إلى اليسار): أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير ومحمد خونا ولد هيداله في صورة من الأرشيف. (نواكشوط - 6 نوفمبر 2003) swissinfo.ch

بعد شهرين ونيف من الجلسات المتواصلة، ووسط إجراءات أمنية مشددة في قاعدة "واد الناقة" العسكرية، أسدِل الستار على أطول وأهم محاكمة في تاريخ موريتانيا الحديث.

ولم يكن عدم صدور أحكام الإعدام وحده ما دفع الأغلبية إلى تنفس الصعداء، بل إن قائمة من برّأت المحكمة ساحتهم كانت مثار ارتياح لدى الكثيرين.

رغم أن المراقبين حبسوا أنفاسهم طيلة جلسات المحاكمة انتظارا لأحكام قاسية مهدت لها النيابة العامة بطلبها إنزال عقوبة الإعدام بما مجموعه 17 متهما، والحكم بالسجن مع الأعمال الشاقة لأزيد من 120 آخرين، إلا أن المحكمة فاجأت الجميع، عندما أعرضت صفحا عن أحكام الإعدام، مكتفية بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة كبديل عنها، وذلك في حق أربعة متهمين فقط هم: زعيم الانقلابيين الرائد صالح ولد حننا، والنقيب عبد الرحمن ولد ميني اللذين اعتقلا في شهر أكتوبر الماضي، إضافة إلى الزعيم الحالي لتنظيم “فرسان التغيير” في المنفى الرائد محمد ولد شيخنا، ورفيقه في المنفى النقيب محمد ولد السالك، وهما موجودان حاليا في حالة فرار.

ولم يكن تجنب أحكام الإعدام وحده ما دفع الكثيرين إلى تنفس الصعداء ارتياحا، بل إن قائمة من برّأت المحكمة ساحتهم، أو أفرجت عنهم بسبب انقضاء المهلة المحكوم عليهم بها، كانت هي الأخرى مثار ارتياح لدى الكثيرين.

فمن أصل 176 متهما، هم عدد المعتقلين الذين مثلوا أمام المحكمة، لم يبق داخل السجن إلا 32 سجينا، تراوحت الأحكام الصادرة بحقهم بين السجن لمدة 3 سنوات، والسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة، وهو ما يعني أن المحكمة أطلقت سراح 144 متهما (95 براءة، 1 عقوبة موقوفة التنفيذ، و48 انتهت فترة عقوبتهم.

هذه الأحكام التي وصفها بعض السياسيين المعارضين بالمخففة، جاءت لتضع حدا لحالة توتر واحتقان كانت سائدة في الشارع السياسي الموريتاني، وبلغت تلك الحالة الاستثنائية أوجها مع تقديم النائب العام لطلباته، والتي وصفها المحامي إبراهيم ولد ابتي بأنها “محاولة لتنفيذ مذبحة جماعية تحت يافطة القضاء”. وبالفعل، تمكّـن القاضي حين أعلن أحكامه النهائية، من نزع فتيل أزمة كانت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار والدفع بالبلاد إلى أتُـون المجهول.

المعارضة تثمن الأحكام وتدعو للحوار

لقد قرأ المراقبون جانبا آخرا إيجابيا في الأحكام، وهو أنها وضعت حدا لمحاولة النظام الخلط بين المعارضة السياسة السلمية ممثلة في قادة أحزابها، وبين المعارضة المسلحة ممثلة في “تنظيم فرسان” التغيير بقيادة الرائد السابق في الجيش الموريتاني صالح ولد حننا.

وبلغ تصعيد النظام ذِروته ضد المعارضة السياسية عندما قدمت السلطات ثلاثة من أبرز قادة هذه المعارضة للمحاكمة بتهمة دعم الانقلابين ومد يد المساعدة لهم، وهم الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله، وزعيم حزب تكتل القوى الديمقراطية أحمد ولد داداه، ورئيس حزب الملتقى الديمقراطي الشيخ ولد حرمه، وألقت بهم في السجن. لكن المحكمة برّأتهم وخلَـت سبيلهم، واضعة حدا لجدل حول جدوى العمل السياسي السلمي المعارض داخل البلد في الوقت الراهن.

وقد اعتبر زعيم المعارضة أحمد ولد داداه (أحد المبرئين)، الأحكام إيجابية وقال معلقا عليها: “كانت إيجابية في جانب منها لأنها خلت من أحكام الإعدام، وتلك تُـعتبر نقطة ضوء في نهاية النفق المظلم، وسنعمل من أجل استمرار ذلك لمصلحة البلد، ومن أجل الاستقرار الحقيقي”.

ودعا ولد داداه النظام إلى قطع خطوات أخرى على طريق الانفتاح السياسي قائلا: “إذا أردنا الخروج بالبلد من الأزمة الحالية، فعلينا أن نفتح حوارا من أجل التوصل إلى إجماع يخدم جميع الموريتانيين، وإذا تحقق ذلك، فإن المستقبل سيكون في صالحنا جميعا”.

وعلى غرار زعيم تكتل القوى الديمقراطية أحمد ولد داداه، فإن باقي أحزاب المعارضة تضم صوتها إلى هرج دعاة الانفتاح السياسي في موريتانيا، واستغلال فرصة الأحكام الصادر عن “محكمة الانقلابيين”، وما نالته من رضى وارتياح لدى الشارع الموريتاني ولدى شركاء موريتانيا في التنمية، من أجل فتح صفحة جديدة.

ودعا حزب “الجبهة الشعبية” المعارض، الذي أفرج عن رئيسه محمد الأمين الشبيه ولد الشيخ ماء العينين قبل أزيد من عام بعد سنتين ونصف من السجن، النظام إلى اتخاذ قرار سياسي يعزز ما مضى إليه القضاء من تغليب روح التهدئة والعقلانية، وناشد الحزب رئيس الجمهورية إصدار مرسوم بالعفو عن جميع المُـدانين في تلك المحاكمة بمن فيهم قادة الانقلابيين، معتبرا ذلك أمرا قد يسهم إلى حد كبير في نشر روح التسامح وتعزيز الوحدة الوطنية.

أما حزب “الصواب” المعارض فسجل مكتبه السياسي “باهتمام بالغ تجنب بعض الأحكام الهدامة التي طالبت بها النيابة العامة، ويأمل أن يؤسس ذلك لمرحلة جديدة من التفاهم الوطني، تزيح عن البلد كابوس الأزمات التي يترنح فيها منذ زمن طويل”. وحدد حزب “الصواب” في بيان قيادته الطُّـرق المُـثلى للتفاهم الوطني المنشود قائلا: “هذا التفاهم لا يمكن أن يتم إلا بالدخول في عهد جديد من الانفتاح والتشاور حول سبل تقويم الأوضاع، وجعل ديمقراطيتنا ديمقراطية صحيحة”.

الإسلاميون يريدون المزيد..

ولم يكن زعماء أحزاب المعارضة السياسية وحدهم من أبدوا ارتياحا للأحكام الصادرة في نهاية محاكمة المتهمين بالتورط في ثلاث محاولات انقلابية فاشلة شهدتها البلاد خلال السبعة عشر شهرا الماضية.

فالإسلاميون الذين دخلوا في مواجهة ساخنة مع النظام خلال السنوات الأخيرة واعتقل قادتهم السياسيون والروحيون، وزج بهم في غيابات السجون، يرون أيضا أن نهاية تلك المحاكمة حملت في ثناياها بذور أمل في انفتاح سياسي جديد.

لكن القيادي الإسلامي البارز محمد جميل ولد منصور، الذي استفاد قبل أسبوعين من حرية مؤقتة، يرى أن ما تم حتى الآن لا يُـعتبر مؤشرا كافيا يمكن أن يدفع إلى الجزم بأن النظام ماضٍ بشكل جادّ في طريق الانفتاح السياسي.

وحدد ولد منصور موقفهم مما حدث قائلا: “لا أخفيك أننا من عامة الناس الذين شعروا بشيء من الارتياح التلقائي حينما سمعوا بنتائج المحاكمة، رغم أننا، بعد التأمل والتمحيص، تبيّـن لنا أن هناك أحكاما كانت قاسية ولا تتماشى مع مستوى ما قُـدِّم من أدلة أمام المحكمة… ولكن مع ذلك هناك ارتياح عام لنتيجة الحكم، لأنه تجنب بعض الأمور الخطيرة، كما أن هناك ارتياح للرسالة التطمينية أو التهديئية التي أرسلها هذا الحكم، ومع ذلك نُـدرك حقيقة أنه لا الحكم الصادر عن تلك المحكمة، ولا تبرئة قادة المعارضة السياسية، ولا إطلاق سراحنا نحن كقادة للتيار الإسلامي – وإن كان بحرية مؤقتة – كلها خطوات لا تكفي للحديث عن انفراج سياسي جديد من النظام، وإن كان بالإمكان القول أنها قد تكون ممهّـدة لذلك الانفتاح. لكن الأمر يستلزم خطوات أخرى من طرف النظام أكثر فعالية وأكثر صلة بعملية الإصلاح السياسي وإقامة حوار حقيقي بين مختلف الفرقاء السياسيين، وإعادة المصداقية لأجهزة الدولة والانفتاح على المعارضة السياسية، والقطيعة مع كل أشكال وطرق التسيير السيئة التي تسود في أجهزة الدولة”.

وهذا الرأي الذي عبّـر عنه أحد قادة التيار الإسلامي، أوضحه بتفصيل أكثر بيان صدر باسم الإسلاميين في موريتانيا قائلا: “.. ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشيد بعدم استجابة المحكمة لبعض الطلبات المتطرقة للنيابة العامة بحق المتهمين، وأن نهنئ أولئك المتهمين الذين استعادوا حريتهم، كما نرجو أن تكون المحاكمة بداية لاستخلاص الجميع – نظاما وجيشا ومعارضة ونخبا مثقفة – لدروس الماضي والاستجابة لنداء المصالحة الوطنية الشاملة، وحل الخلافات بالتي هي أحسن”.

ومضى الإسلاميون في بيانهم داعين النظام إلى مزيد من الانفتاح على القوى السياسية المعارضة، والإقلاع عن عادته في انتهاج الحلول الأمنية البوليسية مع خصومه السياسيين.

وبكلمة واحدة دعوا إلى جعل نتائج هذه المحاكمة جِـسرا للعبور إلى المستقبل، وطي صفحة الماضي الكئيب من خلال مصارحة تعقبها مصالحة، وتفضي إلى إغلاق السجون وإطلاق سراح من فيها من سجناء الملفات السياسية السابقة، وتنظيم انتخابات حرة وشفافة، وفتح الباب واسعا لحرية الكلمة. فهذا السبيل وحده، هو الكفيل بخروج البلاد من الورطة التي تتخبط فيها وقيادتها إلى برِّ الأمان”.

أسئلة معلّـقة

هذه الآراء الصادرة عن مختلف أقطاب المعارضة السياسية في موريتانيا، تصب كلها في اتجاه واحد، وهو أن القضاء الموريتاني قد جنّـب البلاد ما كان النظام السياسي سيدفعها إليه من توتر، قد يؤول إلى عواقب وخيمة على مسار بلد ما يزال يُـعتبر حتى الآن، رغم مؤشرات النفط الواعدة، من أفقر بلدان العالم، ويتّـسم بتعدُّدية عرقية وثقافية قد تُـسهم إلى حد كبير في تأجيج الأحقاد إذا ما انفجرت أزمة سياسية، ربما تخرج عن سيطرة الحاكمين وشركائهم السياسيين.

ويُـجمع العارفون بالشأن السياسي الموريتاني على أن هذه الأحكام قد فتحت أمام السياسيين بابا طالما سدّته التشنّـجات والمصالح السياسية الضيقة، وأن الفرصة باتت اليوم مُـتاحة أمامهم لتجاوز مرحلة الصراعات التي دفعت البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، وأسفرت عن ثلاث محاولات لقلب نظام الحكم بالقوة أدّت إلى قتل 15 شخصا وإصابة ما يربوا على السبعين بجروح.

ولئن كان أنصار النظام يرون أن الكرة باتت الآن في مرمى المعارضة السياسية، وأن النظام الحاكم قد أردف خطوات القضاء الإيجابية بخطوات أظهر من خلالها مزيدا من حسن النية، وذلك حينما أفرج عن قادة الإسلاميين، وأن على المعارضة أن تقدم أولى خطواتها إلى الأمام، وتعترف بشرعية الهيئات الدستورية الحاكمة في البلد، بدءا برئيس الجمهورية، الذي يقول معارضوه إنه فاز في انتخابات نوفمبر الماضي والتي شابها تزوير فاضح، ووصفوا ما حدث يومها بأنه “انقلاب انتخابي”، إلا أن زعماء المعارضة يُـجمعون على أن مواقفهم من تلك الانتخابات ليست أمرا مقدسا، وأنهم على استعداد لتجاوزها إذا ما أبدى النظام استعدادا للدخول معهم في حوار جاد وغير مشروط، غير أنهم ما زالوا ينتظرون من النظام أن “يقدم خطوات يستطيعون دفع مواقفهم تلك ثمنا لها”.

وبين هذا وذاك، يبقى الوضع السياسي في موريتانيا معلّـقا يتأرجح بين مدّ أزمة سياسية يتحمل جميع الأطراف مسؤوليتها، وجزر مواقف الفرقاء السياسيين التي تطبعها الارتجالية وتغليب نظرة المصالح الآنية الضيقة، وتبقى أسئلة عديدة تطرح نفسها في انتظار أجوبة عملية.

فهل سيدفع تعنّـت السياسيين، نظاما ومعارضة، بالبلاد إلى العودة إلى مرحلة ما قبل المحاكمة كخطوة أولى على طريق المجهول؟ أم أن الأحكام ستكون فرصة يغتنمها الجميع لخلخلة الوضع السياسي المتأزم في البلد، واستغلال فرصة ارتياح الرأي العام لتلك الأحكام للاستفادة منها في دفع البلاد نحو مزيد من الانفتاح السياسي، خصوصا وأنها تقف، حسب الخبراء الاقتصاديين، على عَـتبة مرحلة نفطية جديدة قد تكون فاتحة عهد من الرخاء والنماء، لو أراد لها الشركاء السياسيون ذلك، وقد تكون زيتا يُـصبُّ على نار الأزمات السياسية المتلاحقة في انتظار “الانفجار الكبير”.

محمد محمود أبو المعالي – نواكشوط

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية