العراق .. ماذا بعد الفلوجة وكيف؟
كيف يمكن تقييم الأوضاع الحالية في العراق واستقراء مستقبله، فيما لا تزال النار مشتعلة في الفلوجة ومنذرة بحريق أكبر يَـطال مدنا أخرى في أنحاء متفرقة من العراق؟
التقرير التالي يستعرض بعض جوانب تأثيرات مجازر الفلوجة على مستقبل العراق وقضاياه السياسية والأمنية.
ما من شك في أن الأجواء السائدة في العراق الآن تثير أمام المراقب قدراً كبيراً من الغموض والضبابية واختلاط الأوراق، إلا أنه من المؤكد في الوقت ذاته أن بوصلة العقلاء في العراق، وهم بعد كُثر، لم تفقد اتجاهها ولم يفقدهم دخان المعارك رشدهم واتزانهم.
ففيما تدّعي حكومة إياد علاوي المؤقتة أنها بصدد التحضير لإجراء الانتخابات المقبلة في العراق، وأنها تهدف من اجتياح المدن العراقية، الواحدة تلو الأخرى، إلى بسط الأمن وفرض النظام والقانون لضمان سيرٍ سلسٍ للعملية السياسية، وعدم حصول ما يعكر “صفوها”، وأن المجزرة المتواصلة حاليا في الفلوجة ليست إلا مقدمة أولى على هذا الطريق، تشير التطورات الأخيرة إلى أن الأمور قد تسير باتجاه آخر مغاير تماما.
لقد خلقت معارك الفلوجة وضعاً جديداً مختلفاً بالكل. ففيما كان مفترضاً أن تسعى حكومة علاوي إلى تطمين مخاوف المتخوفين، وتبديد شكوك المشككين، وكسب مزيد من الأنصار والمؤيدين، عمدت إلى خلط الأوراق وتسميم الأجواء تلبية لمصالح الطرف الأمريكي المتحالفة معه إلى حد الانصهار.
ولنا هنا تأشير إعلان هيئة علماء المسلمين ذات المكانة المرموقة داخل العراق وخارجه مقاطعتها الكلية للانتخابات، وإعلان التيار الصدري تعليق مشاركته فيها، وانسحاب الحزب الإسلامي العراقي من حكومة علاوي وإعلانه أنه يفكر مقاطعة أية عملية سياسية في العراق بعد أن تأكّـدت قيادة الحزب، على ما يبدو، أنه ليس ثمة جُـهد سياسي حقيقي لحل مشاكل العراق المختلفة، وأن كل ما يجري الحديث عنه ليس إلا محاولة لتخدير الداخل وذر الرماد في الخارج، فضلا عن لجم أفواه المعترضين ومناهضي الاحتلال.
وبرغم أنه لا يمكن القطع منذ الآن بعدم حصول الانتخابات في العراق، إلا أن الشكوك بدأت تحيط بمشروعية أية عملية سياسية مزمعة بعد أن اتضح أنها “ملوّثة بدم العراقيين” مثلما يصرح كثيرون، وبعد أن بات بحكم المؤكّـد أن المزيد من العراقيين لا ينوون المشاركة فيها، بل لا يترددون في إعلان رفضهم لها على الملأ.
لذلك، فإنه من المتوقع ألا يسفر مؤتمر شرم الشيخ المرتقب (في حال انعقاده في موفى نوفمبر) عن أي شيء ملموس بعد أن بات واضحا للجميع أن القوة هي اللغة الوحيدة الممكنة والمستعملة في العراق.
مستقبل المقاومة
على صعيد آخر، يتساءل كثيرون، داخل العراق وخارجه، فيما إذا كانت العمليات العسكرية في الفلوجة حاليا ستقضي على عمليات المقاومة المسلحة، أم أنها ستزيد أوارها ويُـوسّـع رُقعة انتشارها ويحسِّن أداءها؟
ويمكن من خلال عدد من المعطيات المتوفرة تحديد بعض الإجابات على أهم هذه التساؤلات، حيث يجزم مراقبون بأن العمليات المسلحة ستزداد تباعا، ويؤكدون أنها ستنتشر على رُقعة جغرافية أوسع من خارطة العراق، خلافا للإعلانات الأمريكية من أن العملية “ستنتهي بنجاح، وأن الفلوجة لن تعود مقرا للإرهابيين والمخربين”، حسب قول وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد وأن “أهداف المعركة أنجزت”، كما يقول مستشار الأمن العراقي قاسم داوود.
وبعيدا عن تصريحات رامسفيلد وتمنيات داوود، لا يتردد مطلعون على الشأن الداخلي العراقي في القول بأن العملية العسكرية المتواصلة منذ يوم 8 نوفمبر في الفلوجة فشلت في تحقيق أهدافها على المدى الاستراتيجي. فبرغم أن عشرات آلاف المدافع الثقيلة والمتوسطة والرشاشة تفغر أفواهها بوحشية انعدم نظيرها، إلا أنها سمحت، من حيث لا تريد، بانتشار المقاومة إلى مدن أخرى حيث يتجه الأمريكيون وحكومة علاوي إلى فقدان زمام السيطرة على مدن أخرى بدلا من إحكام السيطرة على الفلوجة.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى العمليات التي شهدتها مدن الرمادي، وهيت، والقائم، والموصل، وبيجي، والصينية، وبعقوبة، والتاجي، والمشاهدة، والحويجة، وكركوك، وبغداد، وبابل، وكربلاء، وأبو غريب، والمسيب واللطيفية، والبصرة، وبلد وسواها، بل إن مدينة كربلاء شهدت، وللمرة الأولى، عمليات ضد قوات الحرس التي تشارك أعداد كبيرة منها في معركة الفلوجة، وهو مؤشر لا يمكن تجاهل أهميته، فضلا عن إعلان الحكومة المؤقتة حالة الطوارئ في مدن عديدة، وإغلاق مطار بغداد والحدود العراقية مع العالم الخارجي لعدة أيام.
يقول الدكتور أحمد عبد الغفور السامرائي، العضو القيادي في هيئة علماء المسلمين في العراق، “إن جميع مدن البلاد تغلي غضبا على القوات الأمريكية” بسبب هجومها الذي يصفه بالوحشي على الفلوجة.
ويخشى كثيرون في العراق، من أن يعني إعلان القوات الأمريكية وحكومة علاوي خروج قيادات المقاومة من الفلوجة، انتقال مسلسل الدم إلى محطات عراقية أخرى واستمرار عمليات التدمير والتنكيل والقتل الجماعي وانتهاك مفردات القانون الإنساني الدولي.
ويؤكد محللون ومراقبون في بغداد أن حكومة علاوي أخطأت كثيرا باللجوء إلى القوة المفرطة للغاية في التعاطي مع المقاومة العراقية في الفلوجة، وكان من الأجدى لها، وهي مجرد حكومة تصريف أعمال، أن تجعل الخيار السلمي استهلالا عمليا لديمقراطية يقطع كثيرون أنها وُلدت ميّـتة، وسط مزاعم متداولة بأن أطرافا كثيرة تتمنى استمرار نزيف الدم في هذا البلد.
ومن بين غبار معركة الفلوجة، برزت حقيقة السقوط المريع لحكومة إياد علاوي المؤقتة. فبصرف النظر عن الموقف الأخلاقي منها ومن كونها منصَّـبة على يد الاحتلال، وأنها فاقدة لكل معاني الشرعية مثلما ترى ذلك غالبية من العراقيين، فقد سمحت معارك الفلوجة، كما النجف من ذي قبل، بتعرية هذه الحكومة بعد أن كشفت أوراقها باعتبارها حكومة “تعتزم تنفيذ برنامجها باغتيال وتصفية كل القوى السياسية المناهضة للاحتلال”، وهو ما حولها في رأي كثيرين إلى مجرد امتداد للإحتلال ليس إلا.
من جهة أخرى، برزت على نحو واضح معارضة قوية لحكومة إياد علاوي من معظم الفصائل السياسية والقوى الوطنية، فيما بات موقف المشاركين في الحكومة المؤقتة أكثر من مًُـحرج. ويمكن القول بيقين عال، أن ما يحصل الآن أدَّى إلى تراجع خطير في معدلات الثقة بالحكومة المؤقتة وخطواتها المقبلة، برغم محدوديتها سلفا.
سكوت المراجع وبوادر فتنة
برغم الثقة بعدم إمكان نشوب صراع طائفي (سُـني – شيعي) في العراق لأسباب عديدة ليس لذكرها مجال الآن، إلا أن السكوت المُـريب للمراجع الشيعية البارزة يؤشر خللا خطيرا، ويلمح إلى بوادر فتنة قد يشعلها الجاهلون والضالعون والصائدون في المياه العكرة.
وتعكس مناشدات القيادات السنية للمرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني شعورا عميقا بعدم الرضا على هذه المواقف، ولا تُـخفي تلك القيادات عتبها على السيستاني وسواه لموقفهم الغريب إزاء ما يجري في الفلوجة، معربين عن عميق دهشتهم لذلك، ويقولون إنه فيما تنادى علماء الدين السنة لدعم صمود أهل النجف في معركتهم ضد القوات الأمريكية والحكومية، وقدموا لذلك رجالا وأموالا، ينكفئ رجال الدين الشيعة اليوم بصمت مثير للحيرة، فيما اشير إلى مشاركة عناصر تابعة لميليشيات شيعية وكردية في الهجوم على الفلوجة.
لكن مجزرة الفلوجة المتواصلة كشفت حقيقة سبق تأكيدها، وهي أن القوى الشيعية المناهضة للاحتلال لن تغيّـر موقفها حتى وإن لجأت بين الفينة والأخرى إلى مناورات سياسية من نوع ما. فقد أعلن التيار الصدري تحريم مشاركة العراقيين في قوات الحرس الوطني لمهاجمة الفلوجة، وتعليق مشاركته في العملية السياسية والانتخابات المزمعة، فضلا عن إعلان تضامنه مع أهالي الفلوجة عِـرفانا بتضامن الفلوجيين مع النجفيين أثناء معارك أغسطس الماضي.
وبمواجهة الصمت المطبق والسلوك المريب للمراجع الشيعة الكبار، والتأييد العلني والخفي للأحزاب الشيعية المشاركة في حكومة علاوي، والمنضوية فيما يسمى بـ “البيت الشيعي” لما يجري في الفلوجة، برزت على الساحة أصوات شيعية عاقلة تدعو إلى نُـصرة أهالي المدينة المنكوبة ورفض المشاركة في الانتخابات.
ماذا يخبئ المستقبل؟
لا يمكن إلا الجزم بأن ما حصل ويحصل في الفلوجة سيشعل مزيدا من الحرائق في كل العراق، ذلك أن المتحكمين في الشأن العراقي اليوم لم يفهموا الحقيقة القائلة بأن الحل لا يمكن أن يكون عسكريا أبدا، إذ يمكن للنار أن تهلك الضرع والنسل، وتُـبيد المدن والقرى، لكنها لا يمكن إلا أن تزيد أوار روح مقاومة العدوان والاحتلال اشتعالا عند العراقيين المتضررين بشكل أو بآخر لتحشد المقاومة المسلحة بمختلف تياراتها وتوجهاتها مزيدا من الأنصار والمؤيدين.
ولا يتردد البعض في الإعلان منذ الآن بأن ما يجري في العراق سيسمح بنشوء فكر تكفيري منغلق، وانتشار جماعات متطرفة هنا وهناك، بل يذهبون إلى أن التطرف بمختلف أشكاله سيكون شعار المرحلة القادمة في العراق الجديد، وأن نيران الانتقام والثأر ستحرق كثيرين من عناصر هذا العهد، خصوصا أولئك الذين يشعر العراقيون أنهم خذلوهم أو ساهموا في قتلهم.
واليوم، تتساءل الغالبية العظمى من العراقيين عما يخبؤه المستقبل لهم ولأطفالهم. فهل بعد أنهار دماء الفلوجيين سيحِـل السلام في ربوع العراق؟، وهل من شأن كل ما حصل أن يخدم العملية السياسية ويسهم في حل الأزمات المتناسلة في العراق، أم انه سيخلط الأوراق ويعمّـق المآسي أكثر فأكثر؟
الكثيرون هنا يعتقدون أن الإجابة واضحة. فالكتاب يُـقرأ من عنوانه كما يقولون، ويخشى الكثيرون من أن يسري على المشهد العراقي المثل القائل “ما ابتدأ بالدم، لا يمكن أن يختتم إلا بالدم”.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.