مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الناتو “مُصـلـح” فى بـلاد الـعـرب؟

الرئيس الأمريكي يرد على أسئلة الصحافيين على هامش قمة الحلف الأطلسي الأخيرة في إسطنبول (28 يونيو 2004) Keystone

يتأكّـد يوما بعد يوم أن الخطط الدولية المتعلقة بتغيير المنطقة العربية والتدخل في شؤونها وتحديد أفق معين لمسارات تطورها تحولت إلى قرار لا رجعة فيه.

لكن الخلافات التي تظهر من حين لآخر بين القوى الرئيسية في العالم تتعلق بطريقة إخراج القرار بحيث يكون “مقبولا” وغير مثير لـ “حساسيات” البلدان المعنية.

مع كل قمة دولية يتأكّـد أن الخطط الدولية بتغيير المنطقة العربية والتدخل فى شؤونها وتحديد أفق معين لمسارات تطورها بات قرارا لا رجعة فيه، وأن الخلافات التي تظهر على السطح بين بعض القوى الدولية المؤثرة قبل القمة أو أثناءها أو حتى بعدها، لا يعني أن القرار الجماعي سوف يتم التخلي عنه، أو أنه غير قابل للتطبيق فى مدى زمني مناسب.

ومن يتعمق في معظم الخلافات التي ظهرت قبل القمم الدولية الثلاثة التي عقدت في شهر يونيو المنصرم، كقمة الثمانية الكبار في سى أيلاند بالولايات المتحدة في 8 يونيو، أو “قمة الاتحاد الأوروبي-أمريكا” بأيرلندا يوم 26 يونيو، وأخيرا قمة حلف الناتو في إسطنبول يومي 28 و29 يونيو، يُـدرك أن الأمر برمّـته يتعلق بطريقة إخراج القرار وكيفية تقديمه للبلدان المعنية، وهي كلها عربية، بحيث يكون مقبولا ولا يثير لدى حكوماتها حساسيات كبرى، ولا يلهب الرأي العام العربي الملتهب أصلا لأسباب شتى.

قرار دولي بالتغيير

القرار الدولي الُمتخذ معروف مسبقا، وأُعلن عنه بوضوح كامل، سواء في صيغة “مشروع الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا” التي أقرتها قمة الثمانية الكبار، أو في قرار قمة ايرلندا بما سُـمي بـ “الاستعداد لدعم مساعي وحكومات المنطقة” الرامية إلى تحديث بلدانها والمضي قدما في الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتشجيع حقوق الإنسان فى بلدان عربية من بينها مصر والسعودية وسوريا، وأخيرا ما أقرّته قمة الناتو باسم مبادرة إسطنبول للتعاون، والتي تقوم على عرض حوار مكثف ومعمّـق على بلدان البحر المتوسط والخليج العربي، (وهم الذين يشكلون القسم الأكبر من نطاق عمل مبادرة الشرق الأوسط الموسع) تمهيدا للوصول إلى “شراكة كاملة بين الناتو وبين هذه البلدان على صعيدي الأمن والدفاع ومواجهة الإرهاب، وتعزيز الحوار السياسى والقدرة على التطبيق العملي المشترك”، حسب نص المبادرة نفسها.

وما سبق، يُـمكن اختصاره في أن الدول الفاعلة في النظام الدولي الراهن، توافقت على أن جزءا من أمنها واستقرارها مرتبط أساسا بتغيير المنطقة العربية على نحو يُـقرّبها من النماذج السياسية السائدة فى هذه البلدان الفاعلة دوليا.

ونقطة البداية، حسب هذا الإدراك، تكمُـن في دفع البلدان العربية إلى الانخراط فى نموذج إصلاحي ما، حبّـذا لو يكون من داخلها، وإن لم يكن، فيُـصبح مهمة دولية بدرجة أو بأخرى، يقوم على مبادئ التغيير السلمي للنخب الحاكمة، ومجال أكبر للقطاع الخاص، والانخراط فى المؤسسات الاقتصادية الدولية بعد الالتزام بمعاييرها المعروفة، ومساحة أقل لدور المؤسسات الأمنية المحلية فى تحديد مسار التطور السياسى فى البلد، ناهيك عن الانخراط بصورة لا لُـبس فيها في محاربة ما يُـعرف بظاهرة الإرهاب الدولي وفقا للمعنى الذي صاغته الولايات المتحدة، وتعتبره مقياسا تحدد على أساسه مدى اقتراب الدولة المعنية أو ابتعادها عن أصول التعاون الدولي والالتزام بالسياسات المقبولة أمريكيا بالطبع.

إكراه “معنوي” وآخـر .. “عسكري”!

وليكن واضحا هنا، أن المسألة ليست مجرد إدراك أو قناعات نظرية بضرورة التغيير، وإنما تحول إلى خطة عمل، على الأقل الآن هي تحت الصياغة التفصيلية والدراسة المعمقة بين المؤسسات السياسية أو العسكرية المشتركة التي تجمع بين هذه القوى الدولية الفاعلة.

وحتى لا يكون الأمر أقرب إلى توجيه الإنذارات وفرض تغييرات معينة بكل ما يعنيه ذلك من تكلفة قد تفوق الحدود المقبولة، فقد تم التوافق الدولي على طرح الأمر فى صيغة القيام “بدور مُساعد أو مُحفّـز” لإحداث التغيير المرغوب دوليا في المنطقة العربية.

ولكن هذه الصيغة أيضا لا تخلو من قدر من الإكراه المعنوي في حده الأدنى، والعسكري في حده الأقصى. والإكراه المعنوي هنا له أيضا درجاته بداية من التركيز الإعلامي والسياسي الرسمي وشبه الرسمي على الجمود والتكلس فى بلد عربي معين، وإبراز جوانب الفساد فيه، وحث الحكومة فيه على اتخاذ قرارات جوهرية، مرورا بتقديم مُحفزات اقتصادية أو سياسية لاتخاذ تحركات داخلية معينة، ونهاية بوضع شروط على تقديم المعونات أو توجيه الاستثمارات إلى البلد المعني، ومراقبة ما يجري في الداخل، وفق آليات سياسية وغير حكومية.

أما الإكراه العسكري، فهو أيضا له درجاته بداية من التهديد بمنع البلد من الحصول على قدرات عسكرية معينة، ولو دفاعية، أو التهديد بتوجيه ضربات عسكرية عقابية أو نهاية بعدوان مسلح شامل. وفي كلا الأمرين، المعنوي والسياسي أو العسكري، يتّـضح الدور الجديد الذي يُراد للناتو أن يقوم به في موضوع الإصلاحات والتغيير في المنطقة العربية.

الناتو الجديد.. “مُصلح” سياسي

إن عرض الحوار في حد ذاته لا يمثل جديدا في آليات عمل الناتو تجاه بلدان جنوب المتوسط، فهو مطروح بالفعل منذ عام 1994، وكثير من جولاته تمت في هدوء بين كافة البلدان العربية المتوسطية، عدا ليبيا وسوريا، ولكنها جولات اقتصرت على تبادل الآراء والتعريف بالدور الجديد للحلف في ظل المتغيرات الدولية، وأبرزها امتداده شرقا، وشراكته مع روسيا، والمهام الإنسانية التي أدخلت عليه، وبعض هذه الجولات كانت أقرب إلى عملية شرح من جانب الناتو، وتلقى من الجانب الآخر، أي العربي المتوسطي، والذي ظل على شكوكه العميقة فيما وراء هذا الحوار.

تراكمت بعض هذه الشكوك ووصلت إلى عِـنان السماء حتى قبل أن تطرح كوندوليزا رايس بصراحة شديدة في ديسمبر 2003 أن المطلوب من الناتو أن يشارك فى عمليات التغيير في المنطقة العربية عبر فتح مكاتب له في هذه البلدان تتولى مهام المراقبة والتأكّـد من الإصلاحات المتخذة، وهي صراحة عنت أن الولايات المتحدة تريد للناتو أن يكون وصيا وبصورة مباشرة على عمليات التغيير السياسية والاقتصادية العربية، إذ أنها فكرة لا تروق لكثير من أعضاء الحلف البارزين، كما أن الأعضاء الجدد في الحلف لا يرون أن عليهم أن يقوموا بهذا الدور، وهم الذين لم يستوعبوا بعد التزامات هذه العضوية وامتيازاتها.

ما الذي يراد به من الحوار الجديد إذن، وماذا يعني أنه خطوة من أجل شراكة حقيقية بين الحلف وبين بلدان جنوب المتوسط، وما صلة ذلك ببناء نظام أمني إقليمي جديد في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط ككل؟

أسئلة كبرى تطرحها مبادرة إسطنبول للتعاون، ويصعب أن تكون هناك إجابات حاسمة ونهائية لها، خاصة وأن مثل هذه العمليات التي تجمع بين أطراف مختلفة الإمكانات، والتي تحتاج بعضها البعض لأسباب مختلفة، وحين تبدأ دورة تطبيقها على الأرض تتحول إلى نتائج مختلفة تماما عن أهدافها النظرية البحتة، وهو حوار لن يكون مثاليا بحتا كما تشيع مصادر الناتو عنه، أي مجرد تبادل آراء وأفكار حول هموم مشتركة، أمنية ودفاعية تمس أمن الجميع.

ومن خبرة ذاتية للكاتب، فإن الحوار الذي أداره الناتو في جولات سابقة مع بلد عربي متوسطي كبير تضمن تهديدات مبطنة وعدم الاعتداد برؤية هذا البلد حول ترابط قضايا الأمن الإقليمي، ومن ثم قرر هذا البلد العربي المتوسطي إغلاق أبواب الحوار تماما والاعتذار عن متابعته.

شروط الشفافية

وعلى سبيل الاجتهاد النظري، يمكن القول أن هذا الحوار المطروح بين الناتو وبين بعض بلدان المتوسط، لن يكون متساوي الدرجة في نتائجه، طالما أنه يتم على أسس ثنائية بين الناتو كطرف، وبين بلدان المتوسط كطرف مقابل، وأن تردد البعض في المشاركة في هذا الحوار، كمصر التي ذكرها أمين عام الحلف بالاسم، من شأنه أن يجعل الحلف بحاجة إلى مراجعة جذرية في آلية الحوار المطروح وأهدافه البعيدة، وأن يكون شفافا أكثر، وأن توضع له أهداف مناسبة غير تلك التى يتم ترديدها الآن بشأن القيام بدور مباشر في التغيير السياسي داخل البلاد العربية، وتظل هناك ضرورة أن يتم الكشف عن مستوى الحوار وطبيعته ونتائجه، والذي تم بين إسرائيل والناتو في السنوات الخمس السابقة، وأن يوضح الحلف رؤيته لإسرائيل في أية منظومة إقليمية مرغوب في بنائها مستقبلا، والالتزامات التي يجب أن تلتزم بها، والدور الذي يُـناط للحلف، إذا ما تقاعست إسرائيل عن هذه الالتزامات.

ومثل هذه الأمور التي تدخل في سياق الشفافية بين الحلف وبين الدول المتوسطية عموما، عربية وغير عربية، من شأنها أن تقلل من تردد بعض العرب، وأن توضح أن الحوار المعروض يهدف إلى بناء مصلحة مشتركة للجميع، وليس كآلية للضغط على أطراف بعينهم.

نحو نظرة عربية جديدة للناتو

الشروط الواجب على الحلف أن يُـدركها مسبقا، يقابلها التزام عربي يبدو ضروريا وجديا معا. فالُمدرك عربيا، بمعنى القناعة الشعبية والرسمية السائدة، أن الناتو هو منظمة عسكرية دفاعية بالأساس، وله نطاق عمل جغرافي محدد، وأنه أحد مورثات الحرب الباردة، وفي كل ذلك جانب من الصحة، ولكنها صحة تاريخية إلى حد كبير.

فالناتو الآن، وتحديدا منذ عام 1998، بات منظمة عسكرية سياسية وذات أدوار إنسانية اختلف دورها عما كان عليه طوال خمسين عاما سابقة، ونطاقه الجغرافي امتد حتى حدود روسيا شرقا، وأعضاءه باتوا 26 عضوا يمتدون من غرب الأطلطني إلى أقصى شرق القارة الأوروبية وحتى جنوب المتوسط، فيما يعني أن مسرح عملياته بات كبيرا جدا بالمقاييس الجغرافية البحتة.

أما اهتماماته أو أدواره، فلم تعد دفاعية حسب مفاهيم الأمن الجماعي التقليدي التي تقوم على رد العدوان بعد حدوثه، وإنما صارت مفاهيم دفاعية ذات طابع استباقي يهدف إلى منع حدوث العدوان أصلا، فضلا عن المشاركة في بناء السلام وبناء الأمم معا، كما يحدث في أفغانستان، وحدث قريبا جدا فى البلقان.

نحن إذن أمام منظمة دفاعية سياسية غير مسبوقة في التاريخ، والتعامل معها يتطلب رؤية متكاملة تضع في اعتبارها حال التوازن الدولي من جهة، وطبيعة الصراعات الدولية أو الإقليمية الناشئة من جهة ثانية، وعلاقة ذلك بظاهرة الإرهاب الدولي من جهة ثالثة، وموقع العالم العربي جغرافيا وموضوعيا من اهتمامات الناتو الجديدة من جهة رابعة، ومعنى ذلك، أن العرب جميعهم بحاجة لمراجعة معمّـقة لنظرتهم التقليدية للناتو، وبحاجة أكثر لوضع بدائل غير تقليدية من حيت التفاعل مع العروض المطروحة، سواء تحت مظلة مبادرة إسطنبول للتعاون أو وفقا لمبادرة الشرق الأوسط الموسع.

وحبذا لو أدرك العرب أن بناءهم لمنتدى أمن عربى أول يتبادلون فيه الرأي حول همومهم الأمنية والدفاعية من منطلق الترابط والتضامن قد يُـجنبهم الكثير من الضغوط المتوقعة في الحوار المنفرد مع الناتو.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية