مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بقاء غير ممكن .. وانسحاب غير محتمل

من المنتظر أن تتحول مسألة انسحاب القوات الأجنبية من العراق محور تجاذب واستقطاب بين الساسة العراقيين في المرحلة القادمة Keystone

رفض الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب "حال الأمة" يوم 2 فبراير الماضي الحديث عن أي جدول زمني لانسحاب محتمل للقوات الأمريكية من العراق.

في المقابل، يحتدم الجدل داخل الولايات المتحدة حول ضرورة الإنسحاب في ظل نفوذ متزايد للبنتاغون في دوائر صنع القرار.

عادت العبارة الشهيرة، التي ألقاها الرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور في خطبته الأخيرة في يناير 1960، والتي حذر فيها من سطوة ما أسماه “المجمع الصناعي – العسكري”، وسيطرته على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة، إلى التردد كثيرا في الفترة القصيرة الماضية.

فهناك من يعتقد أن نفوذ البنتاغون يتضخّـم بصورة غير مسبوقة، وأن قرارا بالاستمرار في البقاء في العراق (دون إبداء مرونة حقيقية بهذا الشأن) قد اتخذ هناك، قبل أن تصدر تصريحات تخفف من وطأة تلك المسألة، وذلك في ظل تقديرات دفعت كثيرين إلى إعادة النقاش حول المسألة العراقية برمّـتها، كما تراها الولايات المتحدة.

وكان السبب الرئيسي لانطلاق موجة التحليلات الأخيرة بشأن الإشكاليات المتعلقة ببقاء أو انسحاب القوات الأمريكية المتمركزة في العراق، هو بالتّـأكيد كلمة الرئيس بوش التي حدّد خلالها توجّـهات إدارته خلال فترتها الثانية، والتي قال فيها إن الولايات المتحدة ستبقى إلى أن “تتمكن الحكومة العراقية الجديدة من الدفاع عن نفسها”.

فلم يتم الحديث عن جدوْل زمني للانسحاب، أو خفض للقوات (التي بلغ عددها 150 ألف جندي) أو إعادة انتشار لها، أو تغيير محتمل في مهامها. وتم فهْـم ذلك على أن ما تمّ اعتماده سياسيا، هو بقاء إلى مالا نهاية، أو على الأقل، إلى نهاية السنوات الأربع القادمة.

الرحيل أو البقاء: قضية شائكة!

كان مصدر “الصدمة” التي سبّـبتها تلك التصريحات، هو ما وضح من أن الإدارة الأمريكية لم تغير سياستها السابقة بشأن بقاء القوات، على الرغم من وجود ما يستدعى القيام بذلك، كالانتخابات العراقية أو الفوضى الأمنية، حتى من منظور تيار مؤثر في واشنطن ذاتها، على النحو الذي عبر عنه رد فعل السناتور إدوارد كنيدى، الذي قال مؤخرا: “إن على الولايات المتحدة أن تشرع في الانسحاب، عسكريا وسياسيا، والتأكيد على نيّـة سحب كل القوات في أقرب وقت ممكن من العام المقبل”، مدعوما بمطالبة 24 عضوا ديمقراطيا في مجلس النواب ببدء انسحاب فوري للقوات من العراق.

إن السياسة التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية منذ غزوها للعراق، قامت على أساس عدم البروز بمظهر “المحتل”، من خلال التأكيد على أن قواتها سوف ترحل في وقت ما، ارتبط دائما بتحقيق مهمة غير محددة وليس بمدى زمني، وهي مسألة أعقَـد مما تبدو عليه.

فلم تكن الخطط الأصلية للاحتلال تتضمّـن بقاءا ثقيلا دائما للقوات، لكنها أيضا لم تكن تشير إلى خروج سريع بعد إسقاط النظام، وكان السيناريو المفهوم هو أنه بعد تحقيق المهمة الرئيسية، سوف يتم سحب مُـعظم الوحدات مع إبقاء قوة تُـقدّر بحوالي 60 ألف جندي، بموجب اتفاق مع الحكومة الجديدة، إلى مدى يتم تجديده، على غرار النموذج الياباني، الذي ظلت القوات الأمريكية تعمل في إطاره لمدة 50 سنة، لكن في ظل محددات لا تجعل منها قوة احتلال.

وإذا تم تقييم هذا السيناريو ذاته من منظور أسباب الغزو، يتّـضح أن العراق كان منذ البداية “مسألة إستراتيجية” ترتبط بأهداف كبيرة وليس مجرد مشكلة أمنية تتعلق بأسلحة الدمار الشامل أو العلاقة (المزعومة) بالقاعدة، وهناك نظريات مختلفة بهذا الشأن تبدأ بمُـيول الهيمنة وتنتهي باستعادة الردع، مرورا بالسيطرة على أسعار النفط، أو استهداف الدول المارقة المجاورة، أو حتى إقامة نموذج ديمقراطي، لا فرق.

فالأساس هو أن تلك القوات لم تغزُ العراق لترحل بعد ذلك نهائيا، لكنها يقينا لم تُـخطط أيضا لاحتلال كلاسيكي لأراضيه. المهم أن مسألة البقاء والرحيل تحوّلت إلى قضية بحد ذاتها.

لا انسحاب قبل إنهاء المهمة

لم تأت الرياح بعد الغزو “كما يشتهى السّـفن” مثلما هو معروف، واضطرت وزارة الدفاع الأمريكية إلى الزيادة في عدد القوات من أجل استعادة الاستقرار مقارنة بالحجم الذي دخل العراق أصلا لإسقاط نظام صدام حسين، واختلطت الأمور تماما.

واليوم هناك بين العراقيين في الشمال والجنوب، وبعض القوى السنية المحدودة في الوسط، مَـن يريدون استمرار وجودها، في المقابل هناك غالبية في الوسط وبعض قوى الشمال (مثل تنظيم أنصار السُـنة أو ما تبقى منه) والجنوب (جماعة مقتدى الصدر) من يعملون باستماتة لدفعها إلى الرحيل، أو “دفنها”، حسب تعبيرات الجماعات الدينية العنيفة في العراق.

من جهة أخرى، هناك تقديرات متباينة بشأن تداعيات الرحيل المفاجئ للقوات الأجنبية الذي يُـمكن أن يؤدّي إلى نشوب حرب أهلية، وتبعات البقاء الطويل الذي يقود إلى الولوغ في مستنقع شبيه بفيتنام، أو احتمال بروز حالة عبث سياسية داخل الدولة الجديدة.

وفي ظل استمرار وتصاعد هذه التساؤلات والنقاشات داخل الولايات المتحدة وخارجها، ظلت السياسة الرسمية الأمريكية طوال الوقت على ما هي عليه، وهي أن القوات لن تنسحب إلا بعد أن تُـنهي مهامها.

وداخل البنتاغون، كانت الصورة أعقد قليلا فيما يتعلق بطبيعة المهمة التي يمكن أن ترحل القوات بعد تحقيقها، وكان مفهوما بصفة عامة أن المقصود بالمهمة هو استعادة الاستقرار الأمني، وضمان استمرار النظام الجديد، وأدّى ذلك إلى تقديرات مختلفة تتحدّث عن إمكانية الرحيل في نهاية 2005، ثم في نهاية 2006.

وكان جزء كبير من مهمة الجنرال جاري لاك (موفد البنتاغون) الأخيرة في العراق، يرتبط بتقييم قدرة القوات العراقية، التي تم تكوينها أو التي يُـمكن تدريبها، على تسلّـم المهام الأمنية، على نحو يُـتيح رسم خُـطة لسحب القوات من العراق، في ظل تفاقم الوضع الأمني، لكن في كل الأحوال، ظل التصور القديم سائدا، وهو أنه لن يتم الانسحاب نهائيا من العراق.

الاتجاه المعاكس

لم تكن المشكلة هذه المرة ترتبط فقط بأوضاع أمنية متدهورة أدّت إلى خلق مشكلة حقيقية تتعلق بحماية القوات ذاتها، أو حماية القوات العراقية، ناهيك عن تأمين الدولة ضد هجمات المسلحين الذين تصاعدت تقديرات أعدادهم مرة واحدة إلى 20 ألف عنصر مسلح، لكنها ارتبطت بعنصر سياسي شديد الأهمية.

فقد كانت شروط زعماء السُـنة العرب للمشاركة في الانتخابات، تتضمّـن تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية، وكانت برامج مُـعظم المرشحين الآخرين تُـركّـز على العمل على إنهاء الاحتلال. وبالتالي، ساد لفترةِِ تيارٌ في واشنطن يركّـز على إبداء مُـرونة من نوع ما، لتسهيل العملية وتحسين الصورة، ومنح أمل للعراقيين في جِـدية مرحلة ما بعد الانتخابات، لكن جاءت التصريحات الأخيرة للرئيس بوش في اتجاه معاكس تماما.

لذلك فإن التفسير الرئيسي لِـما حدث، يركّـز على استمرار نفوذ عناصر المحافظين الجدد داخل البنتاغون، واتجاه وزارة الدفاع الأمريكية عموما إلى السيطرة على عملية صُـنع القرار العسكري في مواجهة المؤسسات الأخرى في إدارة تُـسيطر إلى حد كبير على القرار السياسي في مواجهة السلطات الأمريكية الأخرى، حيث لم يفقد معظم هؤلاء مناصبهم، باستثناء دوغلاس فيث.

ويبدو الآن، من خلال ما أثير حول إنشاء فرع جديد داخل الوزارة للعمليات السرية، وما أشار إليه تقرير الكاتب الصحفي سيمور هيرش في صحيفة نيويوركر حول قيام قوات خاصة أمريكية فعليا ببعض العمليات داخل إيران، أن هناك عملية إلتِـفاف حول اختصاصات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، وربما محاولة من جانب دونالد رامسفيلد، لتجنب الإشراف المباشر من قبل الكونغرس على مثل تلك العمليات، وهي تطورات أثارت ضجّـة كبيرة في الولايات المتحدة.

البقاء صعب والانسحاب أصعب

وتشير بعض التقارير الأمريكية إلى طبيعة التقديرات السائدة داخل البنتاغون بشأن معادلة التكلفة، التي لا تزال تعمل لصالح البقاء، والتي تؤكّـد على أن الأوضاع الأمنية لم تخرج بعدُ عن نطاق السيطرة أو على خطورة تحديد جدول زمني للانسحاب.

لكن هناك إشارات أيضا إلى المصالح الخاصة للمؤسسة الدفاعية في استمرار هذا الوضع على نحو ما تُـشير الميزانيات المطلوبة لعام 2006، وإلى ما يبدو أنه سيطرة عسكرية على القرار السياسي.

ومن هنا، بدأت الانتقادات الحادة في الظهور، كما تشير عبارات السيناتور كينيدى التي تدعو إلى ضرورة أن تتوقّـف واشنطن عن التدخّـل سياسيا في العراق، وأن تُـسلّـم سلطة إدارة العراق الكاملة إلى الأمم المتحدة لمساعدة العراقيين على تشكيل حكومة جديدة، إلى جانب مغادرة القوات فورا من أجل “إرسال إشارة أقوى حول نوايانا للتخفيف من الشعور السائد بأننا محتلون”.

ولقد أدّى ذلك إلى تغيير بنسبة 60 درجة على الأقل في تصريحات الرئيس جورج بوش بشأن محدّدات بقاء القوات، وإمكانية سحبها، إذا طلبت الحكومة العراقية ذلك، وسوف تستمر هذه اللّـهجة، على الأرجح، خلال الفترة القادمة، دون ضمان لما إذا كان ذلك سيؤدّي إلى التحرّك عمليا في اتجاه الخروج من العراق أم لا.

لكن المؤكّـد حاليا، أن تلك المسألة ستُـصبح من أهم قضايا فترة ما بعد الانتخابات بالنسبة للسياسيين الجُـدد في العراق، كما كانت بالنسبة للعناصر المسلحة قبل الانتخابات في ظل حقائق مثيرة لا تُـتيح أي قاعدة للتنبُّـؤ بما قد تصل إليه الأمور.

إن المطالبات السياسية (داخل العراق والولايات المتحدة) سوف تستمر لتدفع في اتجاه الخروج، في حين يدفع نفوذ البنتاغون المُـتصاعد في الاتجاه المعاكس، حيث لا يُـوجد تقدير محدد لقُـدرة القوات العراقية على تولّـي مهام الأمن، ناهيك عن الدفاع، ولذلك فإن غياب التقدير، يُـتيح فرصة لمزيد من تسييس الأمور.

أما عمليات العنف المسلح التي ستستمر، فإنها ستظل تدفع كما كانت، في الاتجاهين معا، والنتيجة النهائية، هي غالبا فترة أخرى لمدى زمني ما، من عدم الاستقرار في العراق، لذلم فإن بقاء القوات صعب واتخاذ قرار الانسحاب أصعب.

د. محمد عبد السلام – القاهرة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية