مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تغيرت الأزمنة

جنديان سويسريان يحرسان مقر الأمم المتحدة في جنيف. Keystone Archive

مرة أخرى يكتشف السويسريون أن تداعيات العولمة لا تتوقف عند حدود الكونفدرالية حيث اتضح أنها بدأت تهز بشدة مصير إحدى "المقدسات" الأساسية في بلادهم.. جيش الميليشيات!

“خمسون مليون ساعة عمل ناقصة”.. رقم بسيط قد لا يلفت آنتباه أحد في سيل الإحصائيات التي برعت في تجميعها دوائر الإحصاء السويسرية. لكن بعض الوسائل الإعلام سلطت عليه أضواء كاشفة وتوصلت منه لاستنتاجات لم تكن تدور بخلد أحد قبل سنوات قليلة فحسب.

ففي عام ألفين أظهرت الإحصائيات الصادرة عن المكتب الفدرالي للإحصاء أن الحجم الإجمالي لغيابات الرجال عن مواطن عملهم في سويسرا بلغ مائة وثمانية وثمانين مليون ساعة. في الوقت نفسه، قدر عدد الساعات التي خصصت للخدمة العسكرية في عام ألفين بخمسين مليون ساعة. والنتيجة تتمثل في أن نظام التدريب والخدمة المعمول به في جيش الميليشيات السويسري يتسبب في ربع غيابات الرجال عن العمل تقريبا!!

قد لا يستوعب البعض بسهولة مضمون الفقرة الأخيرة. لذا لا بد من التذكير بأن الكونفدرالية لا تتوفر على جيش “تقليدي” مثلما هو موجود في أغلبية بلدان العالم، بل على قوات مسلحة تعتمد على عدد قليل جدا من الكوادر الدائمة وعلى أغلبية ساحقة من الأعضاء في ما يصطلح على تسميته بـ “جيش الميليشيات”.

هذه الأغلبية الساحقة تشمل كل الذكور القادرين على القيام بالواجب العسكري وتدعى لفترات سنوية محددة للتدريب والعمل في مختلف وحدات الجيش السويسري وتخصصاته القتالية والفنية.

فعلى سبيل المثال يقضي الجندي البسيط 300 يوم من عمره في الخدمة تحت العلم، فيما ترتفع الفترة إلى 770 يوما للملازم أول و900 يوم للنقيب و1050 للرائد و1200 يوما للعقيد و 1300 يوما لعقيد في قيادة الأركان!

وبما أن كل هؤلاء الأشخاص يعملون بالتوازي في شتى قطاعات الإقتصاد والإنتاج في سويسرا، فان تغيبهم كل عام عدة أسابيع عن مكاتبهم أو مصانعهم أو مختبراتهم يؤدي حتما إلى إدخال أقدار متفاوتة من الإضطراب والخلل على سير المؤسسات الإقتصادية في البلاد.

لا مفر من الحسم

من جهة أخرى، احتدم الصراع في السنوات الأخيرة بين خيار الترقي في المسار المهني والإحتفاظ بالرتبة العسكرية في جيش الميليشيات التي كانت أشبه شيء بالمفتاح السحري للوصول إلى أعلى درجات المراتب الوظيفية في سوق الشغل.

ففي ظل حمى المنافسة الإقتصادية التي لا ترحم ومع تصاعد البحث عن أقصى معدلات النجاعة، أصبح من المتعذر على الكوادر (الذين يعيّنون في الرتب العسكرية العليا) التوفيق بين ضرورات العمل اليومي التي تتطلب السفر إلى خارج البلاد مثلا وبين التغيب عن الشغل لعدة أسابيع كل عام.

وفي حين كانت الرتب العسكرية قبل خمسة عشر عاما فقط شرطا “شبه ضروري” للوصول إلى أعلى مراتب السلم الوظيفي في القطاعين العام والخاص في سويسرا، تحولت اليوم إلى عائق جدي. ومع استمرار الإعتقاد بأن العمل ضمن جيش الميليشيات واجب وطني إلا أن عدد القادرين على التوفيق بين متطلبات المهنة والمسؤولية العسكرية في تناقص مستمر.

وبما أن منطق النجاعة وتحسين الأداء الإنتاجي أضحى الشغل الشاغل لمسيري الشركات والمصانع، فان مديري شؤون الموظفين (وخاصة في مؤسسات القطاع الخاص) أصبحوا يتعاملون بمنطق جديد مع الراغبين في الإحتفاظ بمواقعهم العسكرية، حيث تتم دعوتهم أكثر فأكثر للإختيار بوضوح بين الأمرين!

هل هو زمن ولى وانقضى؟

هذا المنطق الجديد يعتبر ثورة بالمقاييس السويسرية. فهو يعني أن الأساس الصلب الذي أقيم عليه جيش الميليشيات منذ عشرات السنين قد أضحى مهددا بالنسف من طرف منطق الآلة الإقتصادية الجبارة. فما كان ممكنا في القرن العشرين لم يعد متاحا اليوم بعد أن تطورت أساليب الإدارة والتسيير في مختلف القطاعات.

ولا تبدو الشركات السويسرية اليوم مستعدة للإستمرار في معالجة النقص المتكرر في عدد ساعات العمل وخاصة في صفوف مسؤوليها الكبار. ويذهب جون كلود فالشولا وهو ضابط في جيش البر ويعمل في شركة مختصة في البحث عن الكوادر في جنيف إلى أن المؤسسات الإقتصادية “أصبحت واعية بالتكلفة المالية الناجمة عن نظام العمل في جيش الميليشيات ولم تعد مستعدة لتحملها” مثلما نقلت عنه صحيفة لوتون الصادرة في جنيف.

فهل يعني هذا أن زمن جيش الميليشيات قد ولى وانقضى؟ لا أحد يجازف اليوم بالإجابة بنعم عن هذا السؤال، لكن العديد من المؤشرات الواقعية تفيد بأن الضغوط تشتد على الضباط السامين. فلا أحد يدعوهم صراحة إلى التخلي عن مسؤولياتهم العسكرية، لكنهم يتلقون يوما بعد يوم رسائل مبطنة أو معلنة من أرباب العمل تطالبهم بالعكس!

سويس إنفو

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية