مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

حقا.. هل أصبح اليسار العربي جزءًا من الماضي؟

ناشط إصلاحي يرفع شعارات مناهضة للرئيس مبارك في مظاهرة نظمتها يوم 22 يونيو 2005 في القاهرة "الحملة الشعبية من أجل التغيير" التي تضم عددا كبيرا من النشطاء اليساريين المصريين في صفوفها Keystone

كتب أحد المثقفين المغاربة مقالا قبل بضعة أشهر، تحت عنوان "لماذا ينتصر اليسار في أمريكا اللاتينية ويصعد عندنا الإسلاميون"؟

ويختزل العنوان بشكل دقيق، أزمة الوجود التي يُـعاني اليسار العربي منذ أن بدأ يتراجع دوره وحجمه في المنطقة العربية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي.

فمنذ ذلك التاريخ، واليساريون العرب – أو على الأقل المتشبثون منهم بمرجعياتهم الأيديولوجية وبتراثهم السياسي – يحاولون تجاوز المأزق التاريخي، الذي وجدوا أنفسهم فيه، لكن بدل أن يحققوا نتائج ملموسة، وجدوا أنفسهم عاجزين، حتى عن إيقاف حالة التراجع والانحسار، إلى أن مالَ بعضهم إلى الاقتناع بأنهم ربّـما أصبحوا تحت رحمة “قانون الانقراض” الطبيعي، لكن العديد منهم يرفضون منطِـق الاستسلام وإلقاء السلاح ويتمسّـكون بما وعد به ماركس، حين أكّـد جازما بأن التاريخ يسير حتما نحو انتصار الاشتراكية.

أصدر الفيلسوف الأردني فهمي جدعان كتابا قبل أشهر، تحت عنوان “في الخلاص النهائي”، اعتبر فيه أنه حاليا توجد ثلاث خطابات تطرح على العرب مشاريع “إنقاذ” بالمعنى الطوباوي وحصر أصحاب المشاريع في ثلاث تيارات: هم الإسلاميون والعِـلمانيون والليبراليون، واستثنى من ذلك اليساريين، قائلا بأن الأيديولوجية الجماعية في صِـيغتها الاشتراكية والماركسية والشيوعية “طالها الأفول والتضاؤل والإخفاق”، وبناء عليه “يصح القول بأن هذه المنظومة لم تعُـد اليوم – وعلى المدى المنظور – واحدة من المنظومات الأيديولوجية الحيّـة، التي تعد الفضاءات العربية، بحلول خلاصية ممكنة”، فالإصابة قد “طالت النظام في مجمل حضوره وفعله”.

موت اليسار العربي؟

الذين يبشِّـرون بموت اليسار ينطلقون من ثلاث اعتبارات، لتأكيد صحة “نبوءتهم”، أولها، حالة الضعف والتشرذم الشديد، الذي بلغته أوضاع اليساريين العرب في كل مكان، وهو ما جعل كل محاولات الإنقاذ وإعادة البناء تفشل حتى الآن في أن تعيد الزخم لهذا التيار الفكري والسياسي، الذي كان يتقدم حيوية وعطاء خلال الستينات والسبعينات من القرن العشرين.

أما الاعتبار الثاني، فهو أيديولوجي، وذلك بإثبات أن أهم السيناريوهات الاقتصادية التي توقَّـعها ماركس، لم تتحقق وانهارت أمام قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها وتجاوز مآزقها.

وثالثا، اتساع ظاهرة “الردة الفردية والجماعية”، التي تشهدها أوساط اليسار منذ أكثر من عشرين عاما.

لكن، إذا كانت هذه المعطيات قوية وموثقة، فإنها تبقى غير كافية للحكم بشكل قاطع ونهائي بموت اليسار العربي، والشواهد المضادة تؤكد ذلك.

فعودة اليسار بقوة في ستِّ دول بأمريكا اللاتينية، يدل دلالة واضحة على أن النمط الرأسمالي لم يحسم الأمور نهائيا لصالحه ولم يُـلبِّ حاجيات الشرائح الاجتماعية المتضّررة من السياسات التي فرضها صندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة، كما أن حركات المناهضة للعولمة، التي اجتاحت معظم دول العالم، وبالأخص الغربية منها، أشارت على وجود أزمة أفق مرشحة للتفاقم خلال المرحلة القادمة.

أزمة الفكر الاشتراكي

فالليبرالية الجديدة، التي توصف بالمتوحشة، عمقت الفجوة الطبقية على مختلف الأصعدة، المحلية والدولية، بمعنى آخر، إذا كان الفكر الاشتراكي يعيش أزمة هيكلية، فإن المنظومة الرأسمالية تعيش بدورها حالة من التأزم الداخلي، وهو ما يحاول أن يستغلّـه الاشتراكيون في الدول الصناعية لتحقيق انتصارات انتخابية على أحزاب اليمين.

السؤال المطروح، الذي لا إجابة له من قِـبل اليساريين العرب هو، لماذا استطاعت حركات اليسار في مناطق عديدة من العالم أن تجدد نفسها وتواجه تحديات المرحلة بشكل مكّـنها من الاستمرارية وتهديد موازين القوى من جديد، في حين ظل اليسار العربي عاجزا عن القيام بنفس المحاولة؟

ما يلاحظ، أن قِـوى اليسار لم تختفِ نهائيا من المشهد العربي، وأحيانا تحدث المفاجأة، وهو ما حدث على سبيل المثال في الانتخابات التشريعية الجزائرية الأخيرة. فحزب العمال، الذي تقوده المناضلة لويزا حنون، بالرغم من أنه حزب صغير من أقصى اليسار، إلا أنه حقق نتائج جيدة، مما جعله يحتلّ المرتبة الرابعة في البرلمان، كما أن محاولات متواصلة داخل صفوف اليسار المغربي من أجل تجاوز أخطاء الماضي وتجنّـب حصول انهيار شديد خلال الانتخابات البرلمانية القادمة.

أما اليسار اللبناني، فبالرغم من انقسامه الحاد، غير أنه يحاول أن يكون فاعلا، سواء داخل كُـتلة الموالاة أو في صفوف المعارضة. حتى في تونس، التي تعاني فيها المعارضة بكل أصنافها من ضعف شديد، فإن التعبيرة اليسارية لا تزال أصواتها مرتفعة، رغم حالة التشتّـت التي حوّلتها إلى مجموعات متحاربة أو على الأقل غير متفقة على القضايا الأساسية، كما أن ما تبقّـى من اليسار المصري يحاول من جهته أن يحُـول دون خروجه من الحياة السياسية والذاكرة المصرية، رغم النتائج الهزيلة التي حققها خلال المحطات الانتخابية المتتالية.

الكتلة التاريخية

هناك مصطلح سبق أن صاغه المثقف الإيطالي الماركسي (غرامشي)، لكن بدأ يردِّده البعض في العالم العربي خلال الفترة الأخيرة، ويتعلّـق بالدعوة إلى بناء (كتلة تاريخية) لإنجاز “التغيير والإصلاح”.

ومن أشد الداعين المتحمسين هذه الأيام لإنجاز هذه المهمة، المفكر المغربي محمد عابد الجابري، الذي جمع في مسيرته بين صِـفة المناضل السياسي، حيث كان عضوا في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي كان يُـمثل أقوى حزب يساري في المغرب الأقصى وعلى الساحة العربية، وبين صفة المثقف الذي يسمح لنفسه باتخاذ بعض المسافات تُـجاه الأحداث والمشاغل السياسية اليومية.

وتعود دعوة الجابري إلى بناء الكُـتلة التاريخية إلى سنة 1982، حين نجحت الثورة الإيرانية بسبب قيام هذه الكتلة، وقد أكد في حوار أجرته معه القناة التلفزيونية المغربية الثانية أن “الخطأ الذي ارتكبه القوميون العرب في الخمسينات والستينات، وارتكبه اليساريون العرب في الستينات والسبعينات، هو خطأ إقصاء الآخرين”، كما اعتبر أن “المجتمع العربي والإسلامي المقسم إلى طوائف أو أحزاب، لا يمكن لأي فصيل من فصائله، قبيلة كانت أو حزبا سياسيا أو حركة دينية، أن يقوم بمفرده بالإصلاح المطلوب، يتطلب التغيير المنشود، الجميع وتكتل الجميع”.

أما القوى التي يرشّـحها الجابري لهذه الكتلة، فقد حددها في أربعة، هي “الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والمجموعات المرتبطة بها من نقابات وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية، وثانيا، التنظيمات والتيارات التي تُـعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية، التي يجب أن يفتح أمامها باب العمل السياسي المشروع كغيرها من التنظيمات، وثالثا، القوى الاقتصادية الوطنية، وربعا، جميع العناصر، التي لها فاعلية في المجتمع، بما في ذلك تلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة”.

دعوة الجابري، تفترض وقفة نقدية لتجربة اليسار العربي على الصعيدين، الأيديولوجي والسياسي، فهو لن يقبل فكرة الكتلة التاريخية، إلا إذا اكتشف أسباب القصور التي حالت بينه وبين الجماهير العريضة التي دافع عنها بصدق، وكان يعتقد بأنه ولِـد من أجل إنقاذها وحماية مصالحها، وكانت المشكلة في إحدى جوانبها، أن عموم هذا اليسار – مع استثناءات قليلة – لم يتساءل حول الاستحقاقات المترتبة بالضرورة عن اعتبار هذه الجماهير “عربية مسلمة”، وظن الكثير من اليساريين – وبعضهم لا يزال على حاله – أن التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، يمكن أن يحصل من خارج النسق الثقافي والتاريخي، وكان ذلك أحد الأخطاء القاتلة في حركة اليسار العربي، وهو عامل حلّـله الجابري وغيره من مثقفي اليسار، الذين حاولوا أن يصحِّـحوا الرُّؤية والمسار وأن يُـعيدوا وضع الهرم على قاعدته.

تقاطعات بين اليساريين والإسلاميين

ما يلفت النظر، هو أن شخصيات ومجموعات يسارية أدركت الخلل ولم تكتف بذلك، بل قرّرت أن تُـعالجه من خلال خوض تجارب لم تخضَـع بعدُ للتّـقييم والمراجعة.

والعديد من هذه الشخصيات أو المجموعات، لم تكتف بفتح ملفات التراث ومحاولة الإطلاع على المصدر المعرفي الرئيسي، الذي لا يزال يزوِّد الجماهير ويضخّـها بالمفاهيم والرموز، وإنما قرروا أيضا أن يتجاوزوا صراعاتهم السابقة مع خصومهم “التاريخيين”، وهكذا تعددت التقاطعات بينهم وبين الإسلاميين في أكثر من مكان في السنوات الأخيرة.

حصل ذلك في العراق وفي لبنان، عندما تحالف الإخوان المسلمون مع كتلة الموالاة، التي تضم شقا من اليسار الجديد، في حين وقف شق من الحزب الشيوعي إلى جانب “حزب الله”، وأسست الأحزاب اليمينية، بما في ذلك الحزب الاشتراكي إلى جانب عدوه السابق حزب الإصلاح، جبهة سياسية كادت أن تضع نظام علي عبد الله صالح في مأزق لم يتوقعه، ويمكن إدراج “حركة 18 أكتوبر” التونسية، التي وإن عمّـقت الانقسام داخل صفوف اليسار، إلا أنها كشفت عن إمكانية الالتقاء بين الحزب العمالي الشيوعي التونسي وحركة النهضة المتمسكة بتوجهاتها الدينية، وذلك بعد حرب مفتوحة، استمرت فترة طويلة، وكادت حركتا فتح وحماس أن تؤسسا تجربة تعايش فريدة من نوعها، لولا وقوع “الحمساويين” في فخ نصَـبه لهم من يُـعرفون في الساحة الفلسطينية بتيار “الأسرلة”.

بالرغم من أن هذه التجارب لا تزال في أولها، إلى جانب أنها متعثِّـرة ولم تكتمل ملامحها، لكنها تعكس لدى جزء من اليسار على الأقل، قناعة تترسخ يوما بعد يوم، مفادها أن استمرارية الخيار اليساري مرهونة إلى حدٍّ كبير بإنجاز مراجعات كبرى، أيديولوجية واستراتيجية وتكتيكية.

فاليسار حاجة عربية اجتماعية وسياسية مؤكّـدة، وهو مبثوث في ثنايا النُّـخب وعالم الأفكار والفن والحريات السياسية والاجتماعية، لكنه ليس بالضرورة حاملا ليافطة ماركسية. فاليسار موقف فكري واجتماعي مناهض للاستغلال ومنحاز لعموم المواطنين ومدافع عن قِـيم التقدم. لكن الأكيد، هو أن الواقع العربي لن يعطي فرصة ليسار بلا جذور أو يسار يرفض تغيير نظاراته.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية