مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

حين ترفض سوريا الغطاء العربي ..

الرئيس السوري بشار الأسد (يمين) أثناء استقباله للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى يوم 21 فبراير 2005 في دمشق Keystone

رفض سوريا لغطاء عربي يسمح لها بالانسحاب المشرف من لبنان يعني ضياع فرصة لتحقيق عدد من المكاسب السياسية والمعنوية.

لعل من أهمها حلول الغطاء محل التزامات القرار 1559، وما فيه من إذعان وتوريط وعقوبات محتملة بقوة، والسماح بإحياء نسبى لدور الجامعة العربية والنظام العربي في حل الأزمات العربيةـالعربية.

ساعات قليلة فصلت بين تصريحات عمرو موسى التي ذكر فيها ما سمعه من الرئيس بشار الأسد في دمشق حول استعداده للانسحاب من لبنان وفق اتفاق الطائف، وبين تصريحات وزير الإعلام السوري التي نفى فيها مضمون ما قاله أمين الجامعة العربية، معتبرا أن المسؤول العربي أساء التعبير عن ما سمعه من الرئيس، مضيفا أن بلاده تعني بالانسحاب وفق اتفاق الطائف “مجرد إعادة انتشار استمرارا لما تم في خمس إعادات انتشار سابقة جرت في السنوات الثلاث الماضية”، وهو ما يعنى البقاء في أراض لبنانية كالبقاع أو غيرها.

وما بين تصريح أمين الجامعة العربية وتصريح المسؤول السوري يظهر ما هو أكثر من مجرد تصحيح. فالانسحاب الذي أوضحه عمرو موسى أثار لدى المستمعين شعورا بأن سوريا تدرك بالفعل حجم الأزمة التي تلوح قسماتها في الأفق، وتدرك أن الأمور قابلة للتطور على نحو سيئ جدا إن لم تحسن التقدير، وأنها سوف تتعامل مع الأزمة من منظور عربي يسمح بانسحاب مشرف من جانب، وبناء علاقات ثنائية مع لبنان قوامها التعاون بين بلدين يتمتعان بالسيادة والاستقلال الحقيقي من جانب أخر.

لكن تصحيح المسؤول السوري أعاد الأمور إلى نقطة البداية مرة أخرى. فدمشق ملتزمة اتفاق الطائف وفقا لتفسيراتها الخاصة التي تعني مجرد تغيير مواقع انتشار الوحدات السورية في داخل الأرض اللبنانية، وربما تقليل عددهم بألف أو ما شابه ذلك من جملة 18 ألف جندي منتشرون في مواقع عديدة، وأنهم ـ أي السوريون ـ لن يتخلوا عن الميزات الأمنية التي يتمتعون بها في سائر لبنان، مع ربط ذلك باعتباره تمسكا بما تم الاتفاق عليه مع الحكومة اللبنانية.

مثل هذا الموقف السوري ليس جديدا في حد ذاته. ولكن الجديد فيه هو الإصرار عليه في ظل رفض نصف اللبنانيين على الأقل لهذا الوجود، والتمسك به كنوع من التحدي للقرار الدولي 1559 الذي يطالب بالانسحاب السوري الكامل، في الوقت الذي تلوح فيه بدايات مواقف دولية أكثر إلزامية لسوريا وتنذر بعقوبات قد تمر بسهولة نسبية في أروقة مجلس الأمن الدولي، ووفقا للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح خيارات عسكرية معروفة.

وإذا ما حدث ذلك، فعندها سوف تتغير قواعد اللعبة جذريا، وما يمكن إدراكه اليوم قد يتحول إلى نوع من الاستحالة غدا، وفى السابقة العراقية الكثير لمن يحسن التعلم وإدراك الأمور على كنهها الحقيقي.

تصورات حسن الظن العربي

لقد تصور البعض أن قمة عربية جزئية قد تعقد على غرار قمة الكويت السداسية (أكتوبر 1977)، والتي وفرت شرعية عربية للوجود العسكري السوري في لبنان آنذاك، يمكن أن تقدم المخرج المناسب لدمشق ولبيروت المناصرة للوجود السوري معا في هذه اللحظة العصيبة.

ومعروف أن قمة الكويت هذه حضرتها ست دول من بينها مصر وسوريا والسعودية ولبنان والكويت، وهى التي قررت إنشاء “القوات العربية في لبنان” على أن يكون قوامها الأكبر القوات السورية بحدود ثلاثين ألفا إلى جانب ألفي جندي من عدة دول عربية.

وربما تصور آخرون أن زيارة عمرو موسى قد تمهد بالتنسيق مع بيروت ودمشق لتحرك عربي يبلور لاحقا قرارا عربيا في قمة الجزائر المقبلة يشكر سوريا على دورها في حماية أمن لبنان في الأعوام الستة والعشرين الماضية، ويعلن انتهاء مهمة القوات السورية في لبنان، ويصدق على خطة سورية لبنانية مشتركة للانسحاب الكامل في ستة أشهر أو عام على الأكثر، ومعتبرا أن اتفاق الطائف قد أنُجز في شقه الخاص بالجانب الأمني، ولكنه ما زال موجودا كإطار عام للتنسيق والتعاون اللبناني السوري المشترك.

وكان التصور الثالث لدور عربي مقترح أن تبادر دمشق نفسها بإعلان خطة الانسحاب، بالتنسيق مع بيروت، على أن توافق عليها قمة الجزائر المقبلة، وتقدم لها المساندة السياسية والمعنوية.

رأى دمشق الآخر

هذه التصورات العربية، طرحت في قنوات غير رسمية، بعضها لجس النبض، والآخر على استحياء في صورة مقترح قابل للتطبيق فورا إذا وجد التأييد من سوريا ولبنان معا. ومما تطلع إليه أصحاب تلك التصورات أن يحاصروا تلك الدعوات الدولية التي تطالب بمعاقبة سوريا واعتبار لبنان أسيرا تجب نصرته من أجل الاستقلال واستعادة السيادة.

لكن دمشق كان لها رأى آخر، فهي لا تعتبر نفسها في مآزق لا الآن ولا مستقبلا. وترى الضغوط عليها مسألة طبيعية، وهي أقل كثيرا مما واجهته من ضغوط قوية في مراحل سابقة، ولكنها تجاوزتها بأقل الخسائر الممكنة، وأن كل ما يمكن عمله الآن هو تفويت حالة الغضب اللبناني الناتجة عن اغتيال الحريري، والتلاعب بالألفاظ حول معنى الانسحاب وإعادة الانتشار والتمسك باتفاق الطائف.

مع العلم هنا أن اتفاق الطائف نفسه للعام 1989 يتحدث عن قيام لجنة سورية لبنانية مشتركة تضع خطة لإعادة الانتشار في غضون عامين، أي بحد أقصى سنة 1992، يفترض أنهما كفيلان بإتمام عملية بناء الجيش وقوات الأمن اللبنانية. وبعدها يصير الانسحاب. أو بمعنى آخر أن الاتفاق نفسه يفرض الآن على سوريا الخروج الفوري نظرا لانتهاء عملية بناء الجيش اللبناني نفسه وقوات الأمن الداخلية على نحو جيد. أما تنظيم العلاقات والتكامل الثنائي فهو مرهون برغبة الشعبين وليس بإرادة طرف وإذعان آخر.

مكاسب الغطاء العربي المرفوض

المهم هنا أن دمشق لم تدرك مغزى ما يمكن أن تقدمه الجامعة العربية لها في تلك اللحظات الحرجة، فوجود غطاء عربي يسمح لسوريا بالانسحاب المشرف من لبنان كان سيعد فرصة لتحقيق أكثر من مكسب سياسي ومعنوي.

منها أن الغطاء العربي سيحل تماما مكان التزامات القرار 1559، وما فيه من إذعان وتوريط وعقوبات محتملة بقوة. وسيسمح بإحياء نسبى لدور الجامعة العربية والنظام العربي في حل الأزمات العربية ـ العربية، وسيبلور حاجزا يحول دون زيادة الضغوط الدولية مستقبلا، وسيسمح لسوريا بالقول إنها خرجت بتوافق الإرادة العربية الجماعية، كما كانت قد دخلت بتوافق الإرادة العربية، فضلا عن أن هذا الغطاء العربي سيحول دون النظر إلى الانسحاب باعتباره حصيلة مباراة صفرية فيها الغالب تماما والخاسر تماما، ناهيك عن أنه سيقدم صيغة تحمى علاقة سوريا الخاصة بلبنان وببعض شرائحه السياسية والطائفية.

مثل هذه المكاسب المتصورة من أي غطاء عربي لن تقتصر على سوريا وحسب، بل ستشمل لبنان أيضا، فمن جانب سيجد في البيت العربي ما يحمى سيادته واستقلاله ويحول دون مواجهة ضغوط دولية عاتية، وسيعيد الاعتبار للوحدة الوطنية اللبنانية، وسيسمح ببناء علاقة صحية مع جار عزيز هو سوريا. وعندها سيمكن القول إن عروبة لبنان تضيف له ولا تخصم منه، وإنه يمكن الاعتماد على النظام العربي عند الملمات.

لكن الظاهر أن أكثر العواصم العربية حديثا عن القومية العربية والتزامات العروبة وحماية النظام العربي والفعل الجماعي لمواجهة التحديات الخارجية، ترى الأمر عمليا من منظور قطري ضيق جدا.

وبما أن فيروس القطرية هو الغالب عربيا، فيبدو الموقف السوري منطقيا مع حالة التردي العربي العام والانفصام السائد بين القول والفعل.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية