مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

خيارات سوريا الـمُــرّة

الرئيس السوري بشار الأسد Keystone

طيلة عام 2003 الموشك على الانصرام، كان الحكم السوري يواصل التأرجح فوق حبل مشدود بين خيارين، أحلاهما مر.

إذا ما أراد الوقوف في وجه أمريكا، فسيتعّيـن عليه إجراء إصلاحات داخلية واسعة كي يقنع الشعب السوري بالالتفاف حوله، وإذا ما سعى إلى تجّنب المجابهة مع واشنطن، فعليه القبول بكل شروطها الطويلة والصعبة.

حاول الحكم طيلة الأشهر القليلة الماضية شق طريق ثالث ما بين هذين النقيضين. فقد واصل الحوار مع واشنطن، ومد يده إلى أوروبا وبعض الدول الإقليمية النافذة، في الوقت ذاته الذي تمّسك فيه بأوراقه الرئيسية في لبنان والعراق وفلسطين.

بيد أنه طرأ في أواخر عام 2003 تطوران أدّيا إلى سدّ بعض المنافذ أمام هذا الطريق الثالث، ودفعا الحكم إلى المربّـع الأول مجددا.

الأول، كان الغارة الجوية الإسرائيلية على قرية قرب دمشق في أكتوبر (وهي الغارة التي حظيت بتغطية رسمية أمريكية واضحة).

والثاني، إقرار الكونغرس الأمريكي، ومن بعده الرئيس جورج بوش، لـ “قانون محاسبة سوريا، واستعادة سيادة لبنان” الذي يسمح للحكومة الأمريكية بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية على دمشق.

هذان التطوران دفعا بالقيادة السورية سريعا إلى أحضان الخيار الثاني، أي التفاوض مع واشنطن على الشروط الأمريكية، وهذا تمّ من خلال سلسلة المبادرات الحثيثة:

– موافقة الرئيس السوري بشار الأسد على استئناف المفاوضات مع إسرائيل، من النقطة التي انتهت إليها عام 2000.

– إعادة الإمساك بالوضع بقوة على الحدود السورية- العراقية، لمنع تسلل المقاتلين الأصوليين والقوميين لمقاتلة الأمريكيين.

– إبداء الاستعداد لإجراء انسحابات عسكرية جديدة من لبنان (ربما قبل نهاية 2003)، جنبا إلى جنب مع الإيحاء بأنه لن يسمح لحزب الله بإشعال منطقة الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.

– وأخيرا، إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية المعارضة ، واستئناف التعاون التام مع الأجهزة الأمريكية في مسألة المنظمات الإرهابية، واستمالة أنقرة عبر تسليمها كل المشتبه بهم من جانب أجهزتها.

وكما هو متوقّـع، أدى الانحياز لهذا الخيار إلى “فرملة” الإصلاحات الداخلية، وإلى عودة “الحرس القديم” إلى مواقع السلطة التي فقدها خلال “ربيع دمشق”، ذلك الربيع الذي شهد تفتح بعض حريات المجتمع المدني قبل أن تضع السلطات خاتمة له.

صحيح أن السنوات الثلاث الماضية من حكم الرئيس بشار، حقّـقت بعض الإنجازات الانفتاحية، مثل إطلاق حرية التعبير نسبيا، وإدخال الهاتف المنقول والإنترنت (برغم أن الأخيرة مُـسيطر عليها عن كثب)، وإلغاء التدريب العسكري في الجامعات والملابس العسكرية في المدارس، والسّـماح بتأسيس الجامعات والمصارف الخاصة، إلا أن هذه الإصلاحات جاءت أقل بكثير من توقعات المجتمع.

ويقول هنا هيثم المالح، وهو ناشط سوري في مجال حقوق الإنسان: “لا تزال هناك قوة وحيدة في سوريا، وهي أجهزة الاستخبارات. القانون يوجد في الكتب لكن ليس في الحقيقة”.

استمرار المجابهة

هل تستجيب الإدارة الأمريكية في السنة الجديدة 2004 للمبادرات السورية التي قابلتها حتى أواخر 2003 إما بإدارة الظهر، أو بطلب المزيد أو بالرفض؟ لا يبدو أن الأمر كذلك. فالمحافظون الجدد في الإدارة وحولها، يواصلون التمسّـك بمواقعهم “الهجومية” إزاءها.

ويبدو واضحا من حيثيات قانون محاسبة سوريا، الذي كان المحافظون الجدد الروح المحّركة له، أنّ قائمة الاتهامات المتضمنة فيه شبيهة بتلك التي استخدمت ذريعة لغزو العراق.

وفي الوقت الذي يتّـفق معظم المراقبين على أنّ شن حرب أمريكية ضد سوريا، أمر ضعيف الاحتمال في المدى القريب، خصوصا في ظل مخاوف الرئيس بوش من أنّ حربا جديدة في المنطقة، من شأنها أن تجعل التورط الأمريكي في المنطقة أكثر خطورة، وبالتالي، تقلل من حظوظه في الفوز بولاية رئاسية ثانية، إلا أن سماح واشنطن لتل أبيب بالإغارة على العمق السوري كان إشارة ذا دلالة بالغة.

فقد سلّـط رفض الرئيس بوش انتقاد الغارة، أضواء كاشفة على مدى سيطرة المحافظين الجدد على السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى مدى نجاحهم في ربطها بالجناح اليميني المتشدد في الحكومة الإسرائيلية، وهو تقليد دأب عليه هؤلاء منذ أن شكّـل زعيم الليكود مناحيم بيغن حكومته، وصولا إلى زعيم الليكود الحالي، رئيس وزراء إسرائيل.

وفي الواقع، كان المحافظون الجدد هم الذين دافعوا عن الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وعن الحصار الدموي للعاصمة اللبنانية بيروت في العام نفسه. وقتئذ، ظهر الرئيس الأمريكي رونالد ريغن مؤيّـدا لهذا الغزو، برغم أن إدارته لم تدعمه علنا، ثم نأت بنفسها عنه، خصوصا حين اجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت.

والحال أن احتضان الرئيس بوش للغارة الإسرائيلية على سوريا، شكّل منعطفا حادا لعقود من الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط. فقد سبق لواشنطن، على سبيل المثال، أن أدانت الغارة الإسرائيلية على مفاعل “أوزيراك” النووي في العراق في مطلع الثمانينات متضامنة بذلك مع أعضاء آخرين في مجلس الأمن الدولي آنذاك.

والمحافظون الجدد الذين رحّـبوا بالغارة الإسرائيلية على سوريا، إنما ينطلقون في ذلك من قناعة راسخة بأنّ الولايات المتحدة وإسرائيل تواجهان الأعداء أنفسهم وتتقاسمان القيم نفسها، وكلتاهما تتربّـصان الدوائر بسوريا منذ فترة طويلة.

وقد عمد كثير من المحافظين الجدد داخل الإدارة الأمريكية وخارجها إلى ممارسة ضغوط كبيرة لحمل الرئيس الأمريكي على اعتبار سوريا هدفا رئيسيا في الحرب على الإرهاب.

وسبق لهؤلاء مجتمعين أن وقّـعوا تقريرا منذ أربع سنوات، يدعو إلى استخدام القوة العسكرية لإزالة ما زعموا أنّـه أسلحة دمار شامل تمتلكها سوريا، إضافة إلى الحد من الوجود السوري في لبنان.

وكان من بين الأسماء الموقّـعة على التقرير: ريتشارد بيرل، الذي كان يرأس مجلس سياسات الدفاع في وزارة الدفاع الأمريكية، والسفيرة الأمريكية السابقة في الأمم المتحدة، جين كيركباتريك، ورئيس المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، ديفيد ستاينمان، وسواهم. وباستثناء كيركباتريك، فقد ساهم موقّـعوا التقرير من خارج الإدارة في تأدية أدوار خطيرة أسفرت عن حث الرئيس بوش على اجتياح العراق.

تضمن هذا التقرير ما يُـفيد بأنّ الوجود السوري في لبنان يتعارض مباشرة مع “المُـثل” الأمريكية. كما يوصي باتباع سياسة مواجهة ضد سوريا تبدأ بفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية، انتهاء باستخدام القوة العسكرية ضدها.

وأثناء حرب العراق، شّدد عدد من واضعي التقرير وزملاء لهم في الإدارة، مثل نائب وزير الدفاع الأمريكي، بول ولفوفيتز، على أنّ سوريا تشّكل تهديدا خطيرا للولايات المتحدة ولوحداتها العسكرية في العراق، إضافة إلى الزعم بأنّ دمشق تأوي عددا من أبرز القيادات العراقية، ناهيك عن أسلحة الدمار الشامل التي يزعم التقرير وجودها في سوريا.

ومهما يكن من أمر، فإنّ تأييد الرئيس بوش للغارة الإسرائيلية على سوريا، ومحاولته تبريرها على نحو علني بأنّها ضرب من الدفاع عن النفس، أمر يؤكّـد بأنّه ينظر إلى العلاقة الاستراتيجية الأمريكية – الإسرائيلية، بالطريقة عينها التي دأب المحافظون الجدد على أن تكون أحد مرتكزات الرؤساء الأمريكيين من دون استثناء.

رهــانات .. وتــراقـص

بالطبع، القيادة السورية تعرف تماما نوايا المحافظين الجدد إزاءها. لذا، فهي، إضافة إلى الهجوم الدبلوماسي المشار إليه، تراهن على أمرين آخرين:

الاول، أن تقنع الأطراف المعتدلة في وزارة الخارجية الأمريكية، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بعدم تركها وحيدة في مجابهة متطرفي البنتاغون من المحافظين الجدد.

والثاني، إحتمال حصولها على دعم ما من الاتحاد الأوروبي.

الرهان الأول في محله بالتأكيد. بيد أنه ليس واضحا بعد ما إذا كان بمستطاع وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات عام 2004 استعادة شيء من نفوذهما في البيت الأبيض، خاصة بعد أن عزّز المحافظون الجدد مواقعهم على إثر اعتقال الرئيس العراقي صدام حسين.

وكذا الأمر بالنسبة للرهان الثاني، إذ برغم أن الاتحاد الأوروبي منحاز إلى مبدأ الحوار البّناء مع سوريا كوسيلة لحملها على تغيير سياساتها، إلا أنه قد يتعرّض إلى ضغوط أمريكية لوقف هذا الحوار، إذا ما بدا أن الحكومة السورية تعرقل، إما بروز عراق جديد، أو انطلاق خريطة الطريق الفلسطينية – الإسرائيلية، وحينها، سيكون لوقف الدعم الاقتصادي والدبلوماسي الأوروبي لسوريا وقع خطير عليها، على عكس العقوبات الاقتصادية الأمريكية بسبب ضـآلة حجم التبادل التجاري السوري – الأمريكي.

والحصيلة؟ إنها بسيطة. سيشهد العام الجديد استمرار تراقص العلاقات السورية – الأمريكية على شفير الهاوية. وفي مثل هذه اللعبة، سيكون المحافظون الأمريكيون الجدد في مواجهة مباشرة مع الحرس السوري القديم.

قد يبقى هذا التراقص في إطار الحرب الباردة، وقد لا ينفجر إلى حرب ساخنة. لكن احتمال فوز المحافظين الجدد بالانتخابات التشريعية والرئاسية في أواخر 2004، ربما يضع حطبا ملتهبا تحت وعاء تلك الحرب الباردة.

الحسابات الإقليمية

ولكن ماذا عن التوقّـعات في العام الجديد إزاء علاقات سوريا الإقليمية؟

في لبنان، سيكون الانتظار هو سيد الموقف. فبرغم أن دمشق تميل بقوة إلى فكرة تمديد ولاية الرئيس اللبناني إميل لحود لثلاث سنوات أخرى، إلا أن هذا سيعتمد على طبيعة موازين القوى بين سوريا وأمريكا عشية انتخابات الرئاسة اللبنانية في أواخر عام 2004.

وكما هو معروف، ما يسمّـى في لبنان بـ “الناخبين الكبار”، (أي القوى الدولية والإقليمية المهيمنة) هم الذين يختارون بشكل مشترك الرئيس اللبناني الجديد. وفي حال عدم قدرتهم على الاتفاق، سيقع لبنان في الفراغ الدستوري كما حدث عام ثمانية وثمانين.

وفي الأردن، يتوقع أن يستمر التوتر بين دمشق وعمان، ولسبب واضح: التنافس التاريخي على النفوذ في العراق.

أما في بلاد الرافدين نفسها، فقد بات واضحا عام 2003 أن العلاقات السورية – العراقية أصبح لها معبر إجباري جديد هو واشنطن. صحيح أن سوريا تمتلك شبكة علاقات ضخمة مع كل أطياف التيارات السياسية العراقية، إلا أن الصحيح أيضا أن الأولوية بالنسبة لهذه التيارات باتت كامنة في الداخل العراقي لا خارجه. وفي هذا الداخل، هناك الآن (وحتى إشعار آخر) قوة واحدة مهيمنة، هي الولايات المتحدة.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية