مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

فضيحة تهريب المخدرات التي هزت موريتانيا

ميناء مدينة نواذيبو الموريتانية التي كان مطارها مسرحا للعملية التي فتحت ملف تهريب المخدرات في البلاد Keystone

خلال الأسابيع الماضية، عاشت موريتانيا على وقع تداعيات الكشف عن فضحية كبرى لتهريب المخدرات، كانت طريقتها والأسلوب الذي اتبع فيها، مثيران للحيرة والشك.

وقد أثارت ملابسات العملية تساؤلات متعددة عما إذا كان الأمر مجرّد حلقة في سلسلة طويلة من النشاطات المشبوهة لا أحد يعرف بدايتها ولا نهايتها..

وقد بدأت تداعيات الفضيحة عندما اقتحمت طائرة ذات محركين مطار مدينة نواذيبو (500 كلم شمال نواكشوط) مطلع شهر مايو الجاري، وألقت على مدرجه كمية من المخدرات تقدر بحوالي 630 كيلوغرام من الكوكايين، ثم أقلعت قبل أن يعثر عليها متوقفة في الصحراء، شمال البلاد، بعد أن غادرها المهربون بسلام.

السلطات الموريتانية التي فوجئت بالحادث، سارعت إلى فتح تحقيق في الموضوع واعتقلت عددا من الأشخاص، أغلبهم يمكن وصفهم بالمتهمين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وكشفت عن أسماء أخرى يُـعتقد أنها مجرد واجهة لأسماء خلف الستار من الوزن الثقيل، وورد في مقدمة قائمة المتهمين المطلوبين للاعتقال، اسم سيدي محمد ولد هيدالة، النجل الأكبر للرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيدالة، فضلا عن اتهام فرنسيين وبلجيكيين بالضلوع في الحادثة.

وقد كشفت المعطيات الأولية، أن الأمر يتعلَّـق بمُـحاولة تهريب روتينية لكمية من المخدرات، قادمة من معاقل زراعة وإنتاج المخدرات في أمريكيا الجنوبية، كانت في طريقها إلى الأراضي الأوروبية عبر موريتانيا، ليكشف النقاب لاحقا عن احتمال أن تكون هناك شحنات أخرى وصلت سابقا، وتمكَّـنت من الإفلات من قبضة السلطات الموريتانية عبر المطارات والموانئ البحرية خلال الفترة الماضية، حيث يتم نقل آلاف الأطنان من السمك يوميا للتصدير إلى مختلف أنحاء العالم، دون الخضوع لمعايير التفتيش والرقابة الصارمة، فضلا عن أن انتشار الفساد والمحسوبية والرشوة في أوساط العاملين في قطاعات الجمارك والشرطة وأجهزة الرقابة الأخرى، بسبب الفساد الإداري وتدني الأجور، إضافة إلى ضعف أداء هذه الأجهزة وهشاشتها واتساع رقعة الأراضي الموريتانية.

كل هذه المعطيات دفعت بالمراقبين إلى الحديث عن عمليات تهريب مكثفة ومتكررة للمخدرات عبر الأراضي الموريتانية، تتم بشكل روتيني، بل تحدّث بعض عمال الموانئ والمطارات عن عمليات تهريب منظمة تتم بشكل يومي، كان في السابق يُـتعقد أنها لمجرد عيِّـنات من الأسماك يُـحظر تصدريها.

أسماء كبيرة

وبدأ الحديث يظهر شيئا فشيئا عن وجود شبكة كبرى لتهريب المخدرات، قد تكون لها أذرع أخطبوطية ضاربة جذورها في أعماق الجهاز الأمني والسياسي والعسكري والمالي الموريتاني، وربما لها امتدادات داخل دول الجوار، وقد ترنح الشارع الموريتاني بين مصدق ومشكك في حقيقة أن الأمر يتعلق بلعبة أكبر حجما من أن تستطيع السلطات الحالية التحقيق فيها بصرامة وشفافية أو مواجهتها على الوجه المطلوب.

وجرى الحديث عن أن بعض المشتبه فيهم من الأجانب، سبق وأن التقوا في الأشهر الماضية بمسؤولين حكوميين وأمنيين بارزين في موريتانيا، وذلك بترتيب من المتهم الرئيسي في القضية سيدي ولد هيدالة، وعادت إلى الذاكرة قضايا سابقة لا تزال الطريقة التي وئدت بها لغزا محيِّـرا يؤرق المتابعين لهذا الملف.

فقبل سنة من الآن، أظهرت مجموعة من الشاب في مدينة نواذيبو شمال البلاد، ترفا غير عادي، وتحول شبان كانوا معروفين بضيق ذات اليد في أوساط المدينة فجأة إلى مليونيرات، يسرفون بشكل منقطع النظر في البذخ والترف، يتجولون في سيارات “هامر” بعضها مصفح، فضلا عن نشاط محموم أظهروه في سوق العقارات وسوق صرف العملات.

وعند أول استجواب، اعترفوا بأنهم شاركوا في عملية تهريب لكمية من الحشيش يبلغ وزنها طنا ونصف الطن عن طريق سفينة صغيرة، تمَّ استيرادها من فنزويلا، وإدخالها إلى أوروبا عبر الأراضي الموريتانية والمغربية، وقد اعتقل عناصر الشبكة وأحيلوا إلى القضاء، لكن أيدٍ نافذة سرعان ما تدخَّـلت فجأة وأسقطت القضاء من اللعبة بالضربة القاضية وخرج المهربون من السجن ليعودوا إلى أموالهم وضياعهم ومخدراتهم، دون أن يسألهم سائل أو يكدر صفوهم محقق.

وبقيت الأسئلة تتردد.. من أفرج عن هؤلاء؟ ومن يملك مثل هذا النفوذ الذي يمكنه بسهولة من انتزاع متَّـهمين اعترفوا بتهريب طن ونصف الطن من المخدرات من أيدي القضاء وتسريحهم بإحسان وتوفير الحماية لهم؟ ولمصلحة من يتم ذلك؟ وجزم الكثيرون حينها بأن الأمر يتعلق بشبكة نافذة في السلطة، لا قبل لأحد بها.

من يحمي المهربين؟

هذه الشبكة هي التي تحدث عنها الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيدالة في رسالة بعث بها إلى الرئيس الحالي سيدي ولد الشيخ عبد الله، يصف فيها مصادرة الشرطة لممتلكات ابنه المتهم في الفضيحة الأخيرة بأنها “ازدواجية في المعايير وتصفية حسابات سياسية وشكك ولد هيدالة – وهو من حكم البلاد سابقا وعلى اطلاع بحقيقة خبايا العمل الإداري في موريتانيا – في احتمال أن تكون الشرطة الموريتانية “تسعى للفت انتباه الرأي العام عن عشرات المتاجرين بالمخدرات، والذين يتجولون في أحدث السيارات في شوارع نواكشوط ونواذيبو، دون أن يكدر صفوهم شيء، وبتواطؤ مع الإدارة”، حسبما ورد في نص رسالته.

وواصل الحاكم العسكري السابق لموريتانيا تعليقه على حادثة اتهام ابنه في فضيحة تهريب المخدرات قائلا: “أذكِّـر السلطات الجديدة بأن كميات كبيرة من المخدرات قد تمَّـت مصادرتها في السابق في نواكشوط وعدد من المدن الداخلية، وأن الاتجار بالمخدرات أصبح واقعا معاشا في المجتمع الموريتاني منذ سنوات… وبما أن المتاجرة بالمخدرات نشاط يدر المال بشكل مذهل، فلا غرو أن تكون بلادنا منارة لهذا النشاط”، بل إن إحدى الصحف المحلية المعارضة سارعت إلى الحديث عن احتمال تورط قادة أمنيين وسياسيين وماليين كبار في الملف، ذكرت أسماء بعضهم دون تقديم دليل على ذلك.

وقد أعادت هذه الحادثة إلى الذاكرة فضيحة أخرى كانت قد هزت قطاعي القضاء والشرطة في موريتانيا سنة 1998، وذلك عندما كشف عن شبكة لتهرب وترويج المخدرات في البلاد، اتهم عدد من كبار ضباط الشرطة وقضاة المحاكم والنيابة بالتواطؤ معها، واعتقل عدد منهم قبل أن تتم تبرئتهم وتصنف القضية على أنها تصفية حسابات داخلية بين النافذين في قطاعي الشرطة والقضاء.

لكن السلطات سارعت هذه المرة إلى التبرؤ من سيرته سلفها وأعلنت على لسان الناطق باسم الحكومة عن عزمها المضي قدما في التحقيق حتى النهاية، وقال رئيس الجمهورية في لقاءات مع بعض قادة المعارضة، إنه لن يكون هناك أحد فوق القانون وأن التحقيق سيبقى مستقلا، حتى يتم التوصل إلى المجرمين الحقيقيين وتقديمهم للعدالة ليأخذوا جزاءهم، وقد سارع قاضي التحقيق في مدينة نواذيبو، التي كانت مسرحا للفضيحة الأخيرة، إلى إصدار قرار بإشراك أحد زملائه في نواكشوط في التحقيق بواسطة مذكرة إنابة قضائية.

لكن العارفين بخبايا الملف يرون أن الطريق الذي يسلكه التحقيق حاليا، لا يناسب حجم القضية ولا الخطورة التي تشكلها عمليات تهريب المخدرات ونشطات المهربين، فضلا عن اتهامات في الكواليس يتراشق بها رجال الدرك والشرطة والقضاء بشأن التساهل في التحقيق وعدم الجدية في ملاحقة المشتبه فيهم أو العجز عن ذلك.

كما أن أسئلة عديدة تطرح نفسها بإلحاح حول ما إذا كان التحقيق في هذه القضية سيكون بمنجاة من الضغوط التي أنهت تحقيقات سابقة، وقتلت ملفات كبيرة تتعلق بتهريب المخدرات في مهدها.

السياسيون يتدخلون

هذه الفضيحة كانت لها تداعياتها السياسية الكبرى، حيث سارع عدد من قادة كبار المعارضة إلى المطالبة بلقاء عاجل مع رئيس الجمهورية، وطلبوا منه توضيحات بشأن الملف وطالب كل من أحمد ولد داداه، زعيم تكتل القوى الديمقراطية، وصالح ولد حننا، رئيس حزب التغيير الموريتاني، ومحمد ولد مولود، رئيس حزب اتحاد قوى التقدم، ومحمد جميل ولد منصور، منسق التيار الإسلامي في موريتانيا، من رئيس الجمهورية الإشراف شخصيا على التحقيق، وسحبه من السلطات الأمنية والقضائية في نواذيبو، ليكون في قبضة السلطات في نواكشوط تحت مراقبة الجميع.

وقال القادة السياسيون الأربعة في تصريحات أدلوا بها، إن السلطات الأمينة في مدينة نواذيبو، لا يمكن أن تكون بمنأى عن التورط في هذا الأمر، فإما أنها متواطئة مع المهربين ومكَّـنتهم من الفرار بعد انكشاف أمرهم أو أنها مفرطة في مسؤولياتها، مما مكَّـن هؤلاء من الوصول إلى البلاد واتِّـخاذها مسرحا لنشاطاتهم الإجرامية، ثم الفرار بأمان من قبضة العدالة.

واعتبر قادة المعارضة وبعض منظمات المجتمع المدني أن هذه القضية تشكل أول اختبار حقيقي تواجهه الحكومة الجديدة، وأنها مطالبة بالجدية والصرامة في تعاطيها مع الملف وكشف الحقائق للرأي العام، دون مواربة أو تمويه.

نجاح مزدوج

ولعل ما يعزز الاتهامات التي أطلقها البعض، حين قال إن موريتانيا تحوّلت إلى معبر كبير لتهريب المخدرات القادمة من أمريكا اللاتينية ومختلف أنحاء العالم والمصدرة إلى السوق الأوروبية، هو ذلك النجاح والاختراق الذي حقَّـقته شبكات تهريب المهاجرين السريين، والتي نجحت في اتخاذ الأراضي الموريتانية معبَـرا لها، وتمكنت عن طريق موريتانيا من إيصال مئات المهاجرين السريِّـين إلى الشواطئ الأوروبية.

إذ من المعلوم أن إمكانيات ووسائل عصابات تهريب المخدرات تفوق بشكل كبير نظيراتها التي تحترف تهريب المهاجرين، وبالتالي، فإن نحاج عصابات تهريب المخدرات قد يكون مزدوجا، بحيث تمكنت خلال السنوات الماضية من تحويل تلك المنطقة إلى معبر آمن لها، دون أن تلفت الانتباه إلى ذلك، بخلاف عصابات تهريب المهاجرين التي اكتُـشف نشاطها منذ فترة وباتت عرضة للملاحقة والمطاردة.

محمد محمود أبو المعالي – نواكشوط

قرر قاضى التحقيق في ملف المخدرات المفتوح حاليا أمام القضاء، السيد لمرابط ولد محمد الأمين يوم الجمعة 18 مايو2007 ، تكليف قاضي التحقيق بالديوان الثالث بولاية نواكشوط، القاضي محمد سالم ولد أماه بمساعدته في ملف المخدرات المفتوح أمام العدالة من خلال إنابة قضائية أصدرها القاضي الممسك بالملف، وفق مصادر قضائية مسؤولة بقصر العدالة في العاصمة الموريتانية..

وقالت مصادر قضائية في العاصمة نواكشوط إن القاضي محمد سالم ولد أماه تلقى يوم الجمعة إنابة قضائية من زميله قاضي التحقيق في انواذيبو، المتعهد في الملف رقم 196/07 المتعلق بقضية المخدرات، التي تشغل الرأي العام الوطني منذ أسابيع، وأنه باشر عمله في الملف.

من جهة ثانية، أدلى مدير الشرطة القضائية والأمن العمومي بالإنابة مدير الأمن السياسي محمد عبد الله ولد الطالب أعبيدى بتصريح لوسائل الإعلام الرسمية حول ملف المخدرات، بعد توليه الملف .

وقال ولد الطالب أعبيد: “إن التحريات في هذا الشأن شملت ثلاثين شخصا تمت إحالة ثمانية أشخاص منهم إلى العدالة، التي أودعت خمسة بالسجن المدني )موريتانيين وفرنسيين ومغربي) وأطلقت سراح آخرين (موريتانيين) بكفالة.

ووجهت إلى هؤلاء الأشخاص المتهمين، حسب البيان، تهم تكوين جمعية أشرار والمتاجرة بالمخدرات ذات الخطر البالغ والتمالؤ من أجل تبييض الأموال والإرهاب.

وحسب مدير الشرطة القضائية، فإن خمسة أشخاص يُـشتبه في أنهم من العناصر الفاعلة في هذه الجريمة، لا يزالون فارين وتتم ملاحقتهم على المستويين الوطني والدولي، وهم ثلاثة موريتانيين وبلجيكيين، متهما البلجيكيين بأنهما معروفان لدى المصالح الأمنية لبلدهم بأنهما من ذوي السوابق في مجال تهريب المخدرات وخيانة الأمانة وتسميم مواد وتكوين جمعية أشرار.

وكشف المدير العام للشرطة القضائية عن تعاون دائم بين المكتب المركزي الوطني (انتربول) والمنظمة الدولية للشرطة الجنائية وجميع الدول التي ينتمي إليها المتهمون، فرنسا وبلجيكا، وقال “إن بعثة من المنظمة الدولية للشرطة الجنائية قامت في هذا الإطار بزيارة لموريتانيا وانتقلت إلى مدينة نواذيبو، حيث “قدمت مساهمة فنية كبيرة للقضاة والمحققين المشرفين على هذا الملف، وكان لهذا الحضور دور مهم في تقدم البحث على المستويين المحلي والدولي”، وأوضح أن كمية الكوكايين المصادرة حوالي (6.300) كيلوغراما “تم إتلافها طبقا لترتيبات القانون، تفاديا لوقوعها بين أيدي مجرمين كما حصل أخيرا في بعض الدول”.

(المصدر: “الأخبار”، وكالة أنباء موريتانية المستقلة بتاريخ 19 مايو 2007)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية