مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

قراءة في الدستور السوداني الجديد

الرئيس عمر حسن البشير يتسلم نسخة من مسودة الدستور الإنتقالي من عبد الله إدريس وأبيل ألير في الخرطوم يوم 26 يونيو 2005 Keystone

مع التوقيع على الدستور السوداني الجديد المبني على اتفاقيات نيفاشا للسلام بين الشمال والجنوب، يدخل السودان حِـقبة جديدة بكل المقاييس.

فالتوازنات القديمة أفسحت الطريق لمعادلات وقِـيم وأشكال تتلاءم مع الاتفاقيات من جانب، ومع الدستور الجديد من جانب آخر.

الدستور كما يوصف، هو أبو القوانين، ويأتي دائما وِفقا للمعتاد من قِـبل جمعية وطنية تُـمثل كل الأطياف في المجتمع، وتضعه تعبيرا عن عقد اجتماعي يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويُـحدد شكل النظام السياسي، ويُـحدد المسؤوليات على كل الأطراف، ويضع الفواصل بين السلطات وهكذا.

وفي الحالة السودانية، وبالرغم من أن مفوضية الدستور قد شارك فيها ممثلون عن قوى سياسية مختلفة، أمكنها أن تُـعيد صياغة بعض فقرات في ديباجة الدستور، وغابت عنها أيضا قوى سياسية أخرى، لكن الدستور الجديد في جوهره، يظل تعبيرا حقيقيا عن محتوى ومضمون اتفاقيات نيفاشا للسلام، بل أن هذه الاتفاقيات نفسها صارت قيدا مفروضا على الأحزاب التي تنشأ في ظل الدستور الجديد.

إذ يترتب، كما ورد في المادة 40، على أي حزب ينشأ بعد ذلك أن يكون مؤيّـدا لهذه الاتفاقيات، وبالتالي، لا يجوز له أن تتعارض أفكاره وآراؤه مع ما ورد فيها. كما أن حريات التعبير والصحافة لم تُـترك كمبدأ عام، بل اشترط لها أن تحصل على الترخيص وفق القانون.

الأولوية للاتفاقيات

يبدو التأثر بالاتفاقيات في كل المواد تقريبا، بداية من البسملة، التي نالت حيّـزا من المناقشات البيزنطية، وانتهى الأمر إلى وضع صيغة تمزج بين بسم الله وبسم الوطن، ومرورا بتحديد تطبيق الشريعة الإسلامية على ولايات الشمال، وترك كريم الأعراف والمعتقدات هو السائد في الجنوب، ونهاية بتحديد شكل النظام السياسي الذي يعكس خليطا بين الفدرالية والكنفدرالية والمركزية المقيّـدة على نحو عجيب، يبشر بنموذج جديد في الحكم، ينبغي ملاحظة آليات عمله وتطبيقه لاحقا، ولكن مع ميل إلى كنفدرالية للولايات الجنوبية.

ومثل هذا التداخل بين نظم الحكم المختلفة بطبيعتها، من شأنه أن يخلق حالة من اللاتوازن بين السلطات والمسؤوليات والعوائد والاختصاصات، وهو ما يُـمكن ملاحظته في عدة أمور سيجري إلقاء الضوء عليها.

فالرئيس، حسب المادة 48 له نائبان، أولهما، جنوبي سيشغله جون غارانغ، والثاني، شمالي سيشغله علي عثمان طه. وتلك سمة جديدة غير معروفة من قبل، لأن اختصاصات الأول أكثر شمولا من اختصاصات الثاني الذي سيظل نائبا على مستوى ولايات الشمال، فيما النائب الأول له اختصاصات على مستوى السودان ككل، وفي الوقت نفسه يشغل رئيس الحكومة الجنوبية، والتي نائبها جنوبي.

وبينما يكون على الرئيس استشارة نائبه الجنوبي فى شؤون السودان ككل، والحصول على موافقته في بعض المسائل، كإعلان الحرب وتطبيق قانون الطوارئ، وتمرير الموازنة العامة، وتحديد المستشارين والوزراء في الحكومة الفدرالية، وتعيين الوزراء في الحكومة القومية، لا يكون للنائب الثاني نفس المسؤوليات.

تقاسم حكومة الوحدة الوطنية

وبالرغم من أن المادتين 79 و80 تُـشيران إلى الحكومة في الفترة الانتقالية باعتبارها حكومة وحدة وطنية، يُـصبح من العسير قبول هذا التوصيف لأن الأمر لا يعكس سوى اتفاق طرفين (وهما حكومة الخرطوم والحركة الشعبية) على تقسيم الوزارات في هذه الحكومة، بنسبة 52% للمؤتمر الوطني الحاكم، و28% للحركة الشعبية، والأحزاب السياسية الشمالية 14%، وتبقى نسبة 6% للأحزاب السياسية الجنوبية، وهو نوع من التقاسم يعكس الاتفاق، وليس رضا الناس عبر الانتخابات.

وربما يقال هنا أن هذه حكومة انتقالية مدّتها ثلاثة أعوام ونصف لا أكثر، والهدف منها تسيير الأمور والإعداد لانتخابات حرة يشارك فيها الجميع، ومع ذلك، فمن العسير اعتبارها حكومة وِحدة وطنية بالمعنى المتعارف عليه لهذه الحكومة، لاسيما وأن هذه التشكيلة تعكس احتكارا للسلطة من قِـبل طرفين على حساب باقي الأطراف الذين كانوا مُـستبعَـدين عند صياغة اتفاقيات السلام، وباتوا أيضا مستَـبعدين عمليا عند تشكيل الحكومة الانتقالية.

الشكل العام لنظام الحكم

النظام السياسي، حسب الدستور، يتشكّـل من حكومة قومية تقرر السيادة القومية، وحكومة جنوبية ذات سلطان على الولايات المشكّـلة للجنوب، وتتشكّـل السلطات القومية من غرفتين للتشريع، الأولى، المجلس الوطني، والثانية، مجلس الولايات.

والتشريعات المؤثرة على صالح الولايات يجب إقرارها بنسبة الثلثين من مجلس الولايات، ولا يعدل الدستور إلا بموافقة الأغلبية بنسبة 75%، وهو ما يعطي للجنوب حق الفيتو عمليا. أما السلطات التنفيذية، فهي لرئاسة الجمهورية ونائبيه، ومجلس الوزراء والقوات المشتركة. وتتمثل السلطة القضائية القومية في محكمة دستورية، ومحكمة عليا قومية، ومحكمة استئناف قومية.

التعيين والتقاسم

وما ينطبق على الحكومة الانتقالية ينطبق بالتمام والكمال على المجلس الوطني الانتقالي، فهو بالتعيين ووفقا للتقسيم الثنائي بالنسب ذاتها، بل أن وظائفه تقلّـصت قياسا للدستور السابق، فليس له تشريع يخالف الاتفاقيات من جانب، وليس له سلطان على تعيين القيادات المختلفة في بعض المؤسسات، كمفوضية الانتخابات، والمحكمة الدستورية، وديوان المظالم، وليس له سلطان أيضا على تدابير الطوارئ، إذا أقرها الرئيس ونائبه. ولما كان الأمر كذلك، أي بالتعيين والقسمة الثنائية، فقد ألغيت نسبة 25% التي كانت مُـخصّـصة للنساء في الانتخابات المؤدّية لتشكيل المجلس الوطني.

وهنا نلحظ أن التعيين هو الأساس. فهناك تعيين للمفوضية العليا للانتخابات من قبل الرئيس ونائبه الأول، وكذلك تعيين رئيس المحكمة الدستورية ونائبه. كما أن إدارة العاصمة القومية ثنائية بين الطرفين الموقّـعين على اتفاقيات نيفاشا، ولا شأن للقوى السياسية الأخرى بذلك.

كما أن تعيين وُلاة الولايات متروك للمشاورات بين الرئيس ونائبه، وكذلك تعيين أعضاء مفوضية الأراضى القومية، وتعيين مجلس إدارة البنك المركزى. وبالطبع، فإن حكومة جنوب البلاد لن تخرج عن آليتي التعيين والتقسيم. فهى ثنائية، وفقا لنِـسب مختلفة نسبيا عما هو معمول به على النطاق الوطني ككل. فللحركة الشعبية 70% من أعضاء الحكومة، وللمؤتمر الوطنى 15% وباقي القوى السياسية الجنوبية أو الشمالية التي لها قواعد وحضور سياسي في الجنوب، تتشارك في نسبة 15% الباقية.

تداخل وتمايز

وفي إطار التداخل بين الفدرالية والكنفدرالية، تظهر الاختصاصات المتفاوتة بين ولايات الجنوب وولايات الشمال. فولايات الجنوب لها الحق في التواصل مع الخارج دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في الخرطوم، ولها حق الحصول على معُـونات تنموية وتوقيع الاتفاقيات، وهو ما لا يجوز لولايات الشمال التي عليها الالتزام بما تَـمليه الحكومة المركزية في الخرطوم. والمعروف أن من له حق توقيع الاتفاقيات والحصول على معُـونات خارجية يكون ذو سمات استقلالية بارزة، وكأن الجنوب سيكون أقرب إلى الكنفدرالية، والشمال مطبقا للفدرالية، وتلك ازدواجية غريبة في نُـظم الحكم.

وفي السياق ذاته، نلاحظ أن المادة 205 التي حدّدت دور المراجع العامة للموزانة ستكون لها مراجعة الأمور القومية وما يخص الشمال، وليس لها حق مراجعة ما يجري ماليا فى الولايات الجنوبية. كما أن مفوضية الأراضي القومية سيقتصِـر عملها على ولايات الشمال، أما في الجنوب، فهناك مفوضية أراضى جنوبية، وبما يعني أن سلطات أراضي الجنوب خارجة عن سلطان الحكم الاتحادي.

أما المفوضية القومية للنفط، فليست أفضل حالا، فهي في الحقيقة مناصفة بين حكومة الجنوب والولاية صاحبة النفط، وفي حين، للولاية 2% من دخل النفط المستخرج منها، فإن الباقي سيوزَّع مناصفة بين الحكومة القومية وحكومة الجنوب، وفي حين يكون للجنوب موارده الخاصة التي لا سلطان للحكومة الفدرالية عليها، فإن الجنوب، إلى جانب ما يحصل عليه من نسبة النصف في هذا العائد النفطي، يحصُـل أيضا على نسبة أخرى منه، باعتباره دخلا قوميا عاما، فيما يحرم ذلك ولايات الشمال من جزء مُـهم من الموارد النفطية. وفي كل، فللجنوب بنك مركزس خاص به، وحكم إقليمي مستقل، ونظام مصرفي خاص، بما يشكل بذور كيّـان مستقل.

وصحيح أن هناك توافق من حيث المبدأ على جعل الوحدة السودانية هدفا جاذبا لمواطني الجنوب، لكن الممارسات، ومبادئ الدستور الانتقالي، توفّـر أسبابا كثيرة لنتيجة مختلفة.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية