مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

كركوك… سياسات التعريب والتكريد

هل تتحول مدينة كركوك إلى بؤرة أخرى من بؤر الصراع والنزاع وعدم الإستقرار في العراق؟ swissinfo.ch

يبدو أن كركوك، مدينة النفط والقوميات والأديان المتعددة في العراق، تستعد لموجة جديدة من الاضطرابات والعنف على خلفية صراعات دينية وطائفية وقومية.

فهل تشهد الأيام المقبلة موجة جديدة من الحرائق في “مدينة النار الأزلية”، أم ان سياسة التعقُّل والحكمة يمكن ان تؤدي إلى نتائج مرجوة تطفئ ما يعتمل في صدور البعض من أبنائها؟

في إطار السباق المحموم على الامتيازات والمكاسب الدينية والمذهبية والقومية في عراق ما بعد صدام حسين، يتنافس العرب والأكراد والتركمان والمسلمون السنة والشيعة، والمسيحيون الكلدوآشوريون على هذه المدينة، وهناك أوجه عديدة ومختلفة لذلك الصراع الخفي تارة، والمعلن تارة أخرى.

ويلاحظ في هذا الصدد نشاط كردي واضح لا يُخفي العرب والتركمان والكلدوآشوريون استياءهم منه وخشيتهم من أن يفتح الطريق أمام مزيد من الصراع والاحتراب في مدينة لا تحتمل – لفرط تنوع انتماءات أبنائها – مزيدا من أسباب التنافر والفرقة.

أما قادة الحزبين الكرديين الرئيسيين (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني)، فهم يصرون على إعادة من يصفونهم بالمرحلين من الاكراد إلى هذه المدينة التي ظلَّت عائداتها المتأرجحة بين بغداد والإقليم الكردي واحدة من محاور الخلاف الرئيسية بين نظام الحكم العراقي السابق والفصيلين الكرديين الرئيسيين خلال جولات عديدة من المفاوضات شهدها عقد التسعينات المنصرم، لتطوير قانون الحكم الذاتي المعلن من قبل الرئيس صدام حسين عام 1973 وتم بموجبه منح أكراد العراق قدرا كبيرا من الاستقلالية في إدارة شؤون إقليمهم.

لكل فصيل ومجموعة .. مطالب

يقول جلال جوهر مسؤول تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني في كركوك إن اختيار أي قوة لتولي مهام حفظ الأمن والنظام في المحافظة يعدُّ من مسؤولية القوات متعددة الجنسية (الأمريكية تحديدا)، إلا انه يشدد على الدور الكردي في المدينة، الأمر الذي يثير مشاعر متناقضة.

ويقول مناهضون للتفرد الكردي في المدينة إنه من الطبيعي تماما أن يستند الأكراد إلى القوة الأمريكية ليس لعمق العلاقات والاتصالات بين الجانبين فحسب، بل لأن القوات الأمريكية – ولعدة أسباب – منحت الطرف الكردي مكانة أكبر من تلك التي يتيحها له حجمه الحقيقي في كركوك.

ومن بين أسباب التناحر ظاهرة رفع الأعلام الخاصة بكل فئة باعتبارها وجها للصراع على السلطة بين مختلف التيارات السياسية والتوزعات الدينية والطائفية والعرقية التي تكتنف المدينة وريفها.

ويرفض فصيل البارزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني) رفع العلم العراقي بدعوى ان الأكراد في كركوك يرفضون إنزال أعلامهم ورفع العلم العراقي المركزي، في الوقت الذي تطالب فيه الفئات الأخرى بذلك، بمعنى ان يتم إنزال تلك الأعلام ويرفع – عوضا عنها – العلم العراقي المعتمد منذ مطلع العام 1991 والذي يحتوي على عبارة (الله اكبر).

ويطالب العرب المقيمون في المدينة بعدم إعطاء امتيازات لفئة قومية دون فئة أخرى في كافة التشكيلات الإدارية والأمنية، وهو ما اكده كل من غسان مزهر العاصي، احد ابرز شيوخ قبيلة العبيد إحدى أكبر العشائر العربية في العراق الذي يترأس “التجمع العربي في كركوك”، والمحامي يحيى عاصي الحديدي.

كما يطالبون بإزالة جميع التجاوزات التي تثير الفتن ومنها الاستيلاء على الأراضي والممتلكات العربية والسكن الكيفي ورفع الأعلام الكردية والسيطرة على المؤسسات الحكومية من قبل الأكراد بشكل خاص، مما يلغي هوية الأطراف الأخرى المتعايشة في المنطقة. ويؤكد العاصي ان “أبناء هذه المدينة وريفها من كافة القوميات والأديان والمذاهب مستعدون لحمايتها والحفاظ على وحدتها”.

ولا ينحصر الأمر بالصراع المشار إليه بين العرب والأكراد والتركمان فحسب، إذ تدخل الآن على الخط عناصر جديدة، تتعلق بمحاولات بسط النفوذ الشيعي ايضا. وفي هذا الصدد، يقول عبد الفتاح الموسوي الذي يدير مكتب مقتدى الصدر في المدينة: “إن لدى شيعة كركوك مطالب لا يجوز إغفالها أو القفز عليها”.

ولا ينسى الموسوي أن يتحدث (ضمانا لحشد مزيد من الأنصار حسبما يبدو) باسم أتباع المذهب الشيعي من العرب الذين يبلغ عددهم نحو 400 ألف شخص والتركمان الذين تصل أعدادهم إلى نحو 250 ألف شخص يتوزعون في قضائي طوز خورماتو وداقوق بشكل خاص، دون ان يعني ذلك بالضرورة انه يمثلهم فعلا.

دعوات للانفصال

واستمرارا لما تصفه بعض القوى السياسية والقومية في كركوك بـ “المنهج الاستفزازي الكردي”، شهدت أكبر الساحات وسط مدينة كركوك اخيرا تنظيم تظاهرات أقامتها حركة الاستفتاء العام في كردستان العراق لتحديد مطالب الأكراد ورفعها الى الحكومة العراقية المؤقتة والامم المتحدة والادارة الامريكية.

وتتصدر هذه المطالب “انفصال اقليم كردستان كليا عن الحكومة المركزية العراقية واتخاذ كركوك عاصمة لدولة كردية مستقلة”.

وأكدت المحامية الماز فاضل المشرفة على التجمع أن أبرز مطلب كردي هو إقامة دولة مستقلة تكون عاصمتها كركوك، قائلة: “نحن جهة مستقلة تعمل على تحقيق اماني وطموحات الشعب الكردي في اقامة دولته الكبرى واعتبار كركوك عاصمة لكردستان”، متهمة حكومة اياد علاوي بـ “إبداء اللامبالاة ازاء مطالب الاكراد”. وقالت في هذا الصدد: “نؤكد سخطنا وانزعاجنا من سياسة الحكومة التي لم تحقق أي شيء حتى الآن للأكراد”.

أما سيف الدين البرزنجي، أحد منظمي الاستفتاء فقال: “إننا نعمل من أجل بناء عراق ديمقراطي فدرالي تعددي يضمن حقوق الجميع واعادة رسم حدود كركوك والعمل على اعادة المرحلين الاكراد الى مناطقهم الاصلية”، مضيفا: “ان هذا الاستفتاء يأتي بعد عدم حصول الأكراد على حقوقهم في اختيار الحكومة والنظام الذي يحكمهم في العراق الجديد وعدم ضم كركوك الى اقليم كردستان وجعلها عاصمة له”.

من جهته، قال حسيب روزبياني، مساعد محافظ كركوك والمسؤول عن ملف التوطين والتهجير فيها: “إن المتظاهرين طالبوا بضمان عودة المرحلين واتهموا الادارة المحلية بانها تعرقل عودة الالاف منهم”، موضحا أن عدد المرحلين الاكراد الذين عادوا الى المدينة تجاوز 16 الف عائلة كردية.

كما طالب روزبياني الحكومة العراقية والامم المتحدة بالتدخل لإعادة اكثر من 35 الف عائلة كردية الى كركوك، فيما هددت جماعة كردية تطلق على نفسها اسم “الثأر” بطرد العرب مما وصفتها بـ “المدن الكردية” في العراق.

العرب والتركمان يرفضون…

وبموازاة هذا الجهد الكردي، عقد في مدينة تكريت المجاورة المؤتمر الخاص بمحافظة كركوك بمشاركة اكثر من 350 شخصية عربية وتركمانية من كركوك والوجهاء وشيوخ العشائر في محافظات صلاح الدين وديالى والموصل والانبار وبغداد.

واستنادا الى الشعار المرفوع في المؤتمر، فإنه يهدف الى “جعل كركوك لكل العراقيين” والتشديد على ضرورة بقائها مدينة عراقية وليست كردية، فيما يوصف بأنه “رسالة موجهة ضد سياسة الاستحواذ والسيطرة الكردية” على المدينة.

وقال علي غالب رئيس المجلس المحلي في تكريت: “إن هذا المؤتمر عقد بعد تلقي المجلس عشرات الطلبات من شيوخ العشائر العربية والتركمانية والاحزاب السياسية لمعالجة الظروف العصيبة التي تعيشها كركوك من اجل بناء الوطن الواحد وخدمة الشعب العراقي”.

من جانبه، اتهم الشيخ غسان العاصي الاكراد بقتل الديمقراطية كونهم اعتمدوا على الفوضى والمليشيات المسلحة واضطهاد العرب والتركمان وهي السياسة التي “حملوها مع الاحتلال الامريكي في العراق” حسب تعبيره، مضيفا ان الاحزاب الكردية أساءت للقانون ولوحدة العراق باتباعهم سياسة التكريد واجبار الاكراد على الانتقال من مدن الشمال والدول المجاورة الى كركوك، مشيرا الى أن “عدد الاكراد الذين تم استقدامهم من اماكن اخرى بضمنها سوريا وايران تجاوز 110 الف شخص” حسب قوله.

وأشار الشيخ العاصي الى ظاهرة استحواذ الاكراد على الاملاك العامة واراضي المواطنين العرب والتركمان في كركوك وقال: “إن هذه السياسة المنظمة أجبرت الالاف من التركمان والعرب على الرحيل من كركوك”.

كما أشار الى امتلاك الاكراد 21 محطة تلفزيونية واذاعية موجهة الى سكان كركوك، مؤكدا ان القوات الامريكية اسهمت في دعم هذه السياسة بسبب انحيازها للأطراف الكردية، معربا عن اسفه لأن “الجانب الامريكي لا يسمع الا الصوت الكردي” حسب قوله

وطالب العاصي المسؤولين في الحكومة العراقية بإيقاف الزحف الكردي على كركوك واعادة العوائل العربية التي هُجِّرت منها وخلق توازن بين القوميات في ادارة المؤسسات الحكومية، واعتبار واقع كركوك قبل التاسع من أبريل من العام الماضي شرطا أساسيا لاجراء الاحصاء السكاني، الى جانب عدم البت في نزاعات الملكية حتى يتسنى للحكومة العراقية المنتخبة اصدار تشريع بهذا الشأن.

ودعا المؤتمرون الى إفشال ما وصفوه “مخططات الانفصال الذي تزمع الاحزاب الكردية تنفيذها”، كما طالبوا الجميع بوضع مصلحة الوطن ووحدته اساسا للعمل واعتبار كركوك “رمزا للوحدة الوطنية”.

من جانبه، أكد اسعد رشيد القيادي في الجبهة التركمانية على أن التركمان عامل استقرار وتوازن في كركوك وأن الاكراد يسعون للسيطرة عليها لأغراض انفصالية بسبب احتياطيات النفط الضخمة فيها، متحديا الجانب الكردي تقديم أية وثيقة تؤكد كردستانية كركوك.

كما دعا ممثل الجبهة التركمانية الى وقف عمليات نقل الاكراد من أماكن عديدة الى كركوك ووقف عمليات تسجيل المواليد الجدد من المحافظات الاخرى في كركوك.

“النار الأزلية” هل تخمد؟

وكان المشاركون في الإجتماع قد فوجئوا بقرار رئيس الوزراء المؤقت إياد علاوي بإلغاء المؤتمر مما جعل الدكتور مجبل الشيخ عيسى، رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر يوجه اتهاما لحكومة علاوي بانها “دمَّرت الديمقراطية في العراق وعملت على خدمة الاكراد وتجاوزت مهامها التي حددت لها من خلال ضبط الامن والاعداد للانتخابات”، حسب قوله.

في المقابل، أشار إلى الاستمرار في عقد المؤتمر باعتبار الحاضرين جزءا من الشعب لا الحكومة المؤقتة خصوصا وأن علاوي “لا يستطيع ان يقول للاكراد ارموا سلاحكم وحلّوا ميليشياتكم”، حسب تعبيره.

وخارج قاعة المؤتمر كانت الاراء أقل دبلوماسية وأكثر وضوحا باتجاه الحسم عسكريا لموضوع السيطرة العسكرية الكردية على كركوك، خاصة بعد ان اكد السيد مسعود البارزاني لعدد من اعضاء حزبه استعداد الأكراد لخوض حرب من اجل المحافظة على كردستانية كركوك وانهم لن يتنازلوا ولن يساوموا على هويتها الكردية، معتبرا كركوك قلب كردستان، مشيرا الى ان رضى الاكراد بالادارة المشتركة مع العرب والتركمان في كركوك لا يعني التنازل عن هويتها الكردية، وأنهم على استعداد للتضحية بالدم من أجل المكتسبات التي حصلوا عليها في العراق بعد الحرب.

وقال حمود الجبوري احد شيوخ عشيرة الجبور (التي تعد من اكبر العشائر العربية في كركوك): “أعتقد انه لا يوجد اي حل لموضوع كركوك لأن الاكراد أغلقوا الباب امام كل الحلول واستغلوا ضعف الحكومة المركزية والدعم الامريكي من اجل تكريد كركوك”، مضيفا ان العرب قادرون على طرد الاكراد من كركوك بالقوة ولكنهم يحاولون العمل سلميا لتجنيب الشعب المزيد من الكوارث.

ويظل التساؤل قائما هل يمكن أن تشهد الأيام المقبلة موجة جديدة من الحرائق في هذه المدينة التي يطلق عليها العراقيون تسمية “مدينة النار الأزلية”، أم ان سياسة التعقُّل والحكمة يمكن ان تطفئ ما يعتمل في صدور البعض من أبنائها؟

مصطفى كامل – بغداد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية