مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

لماذا يحتاج الحاكم العربي إلى الإجماع؟

لا زال الإجماع المصطنع يميز نتائج الإقتراعات العربية على الرغم من التغيير الواسع الذي شهدته الممارسة السياسية في معظم دول العالم swissinfo.ch

تتعدد أشكال التصويت في البلدان العربية بين استفتاءات رئاسية أو دستورية، واقتراعات برلمانية وبلدية، لكن النتائج لا تغادر خانة الرقم السحري العربي "99،..%" الذي يظل صامدا لا يتزحزح رغم ما يموج به العالم من تطورات خطيرة..

مرة أخرى، تعلن وزارة داخلية عاصمة عربية أن كل الناخبين تقريبا وافقوا بالإجماع على ما عرض عليهم في مناسبة انتخابية. ومرة أخرى يتساءل المراقبون لما يسمى اصطلاحا بـ”السياسة” في العالم العربي: لماذا تتواصل ثقافة الإجماع والقائد الأوحد في هذا الجزء من العالم؟

فعلى الرغم من أهمية أول جولة للرئيس الأمريكي في القارة الأوروبية وبالرغم من خطورة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية والمخاوف القائمة من اندلاع حرب لا تبقي ولا تذر بين الهند وباكستان، أثار الإستفتاء حول التحويرات المقترح إدخالها على حوالي نصف فصول الدستور التونسي بعض اهتمام وسائل إعلام عربية ودولية.

فتونس التي تحرص نخبها المدنية على إبراز توجهاتها الحداثية، دولة صغيرة لا تلعب دورا مهما في السياسات الإقليمية أو الدولية. لكن لجوءها لأول مرة في تاريخها المعاصر لممارسة الإستفتاء من أجل اعتماد تنقيحات هامة في دستورها تلغي التحديد الذي كان قائما أمام تجديد الترشح لمنصب رئيس الدولة وتقر حصانة قضائية لرئيس الدولة أثناء ممارسته للحكم وبعده، أثار بعض الفضول.

في المقابل، جاءت النتائج الرسمية التي أعلنت عنها السلطات لتعيد للواجهة تلك العلامة المميزة لما يسمى بـ “الإنتخابات” و”الإستفتاءات” في البلدان العربية. فقد أعلن هادي مهني وزير الداخلية التونسي أن 99،52 في المائة من الناخبين قد صوتوا بنعم وأن نسبة المشاركة بلغت 95،59 في المائة في حين لم يتجاوز عدد الذين صوتوا بالرفض ستة عشر ألف وستة مائة واثنين وأربعين شخصا فحسب.

تغيير قواعد اللعبة

هذه النتائج “الإجماعية” القادمة من الجمهورية التونسية، لا تختلف في الواقع عن مثيلاتها في معظم الدول العربية. لكنها تأتي بعد مرور اثني عشر عاما على انهيار جدار برلين الذي فتح الباب على مصراعيه لتحول أنظمة أوروبا الشرقية إلى الممارسة الديموقراطية، وبعد انقضاء سنوات قليلة على رحيل ملكي المغرب والأردن ورئيس سوريا وأمير البحرين وتولي قيادات شابة تصور البعض أنها ستطلق بعض رياح التغيير في المنطقة العربية.

لكن وبعد انقضاء أيام قليلة على تداول سلمي “مثالي” على السلطة في جمهورية مالي الإفريقية أعاد رئيسا سابقا إلى الحكم عبر صناديق الإقتراع، جاءت نتائج الإستفتاء التونسي لتثير التساؤل مجددا حول الأسباب الكامنة وراء استمرار حرص النخب الحاكمة في العالم العربي الشديد على إحاطة قراراتها واختياراتها بهالة من الإجماع الظاهري المطلق الذي تجاوزه الزمن منذ فترة.

المفكر العربي محمد عابد الجابري قال لسويس إنفو إنه يرفض مجرد الخوض في الموضوع ويرى أن الحديث عن الإجماع في العالم العربي أكذوبة كبرى. في المقابل، لفت النظر إلى أنه يجب معالجة الوضع في كل بلد على حدة نظرا للفوارق العديدة القائمة ولخصوصيات كل حالة.

هذا الرفض لا يلغي وجود الظاهرة بل يثير المزيد من الإنشغال نظرا لتفاقمها في الآونة الأخيرة. فعلى إثر التحوير “البرقي” للدستور الذي أنجزه مجلس الشعب السوري لتمكين نجل الرئيس الراحل حافظ الأسد من استلام السلطة في عام ألفين، وبعد تداول وسائل الإعلام لمعلومات تشي باستعدادات في القاهرة وصنعاء وطرابلس الغرب لتوريث السلطة بشكل أو بآخر لبعض الأنجال، كثر الحديث عن “الملكيات الجمهورية” في العالم العربي.

تعويم التناقض والإختلاف

فقد أكدت هذه الأساليب ما وصفه البعض بظاهرة “تكلس” الجمهوريات في العالم العربي. إذ أن إلغاء كل المنافذ القانونية والسلمية للتداول على السلطة حتى في ظل غياب انتخابات سليمة ينذر بمستقبل مظلم.

وهو ما دفع معارضا مسالما من طراز الدكتور منصف المرزوقي الذي يترأس حزبا غير معترف به في تونس إلى الدعوة يوم الجمعة الماضي إلى إنشاء محكمة دستورية دولية تمكن المجموعة الدولية من حق إلغاء نتائج أي انتخابات تجري في ظل ظروف تفتقد إلى الشروط الدنيا من الشفافية والنزاهة وعدم الإعتراف بالرئيس أو السلطات التي تترتب عنها.

وفي ظل انتشار هذه الظواهر بدرجات متفاوتة في البلدان العربية، يرى الصحافي محمود معروف عضو المؤتمر القومي العربي أن الحاكم العربي يلجأ إلى هذه الأساليب “لثقته في أنه لا يملك أغلبية ولأن الآخرين في الداخل والخارج يعرفون ومتأكدون من أنه لا يملك الأغلبية”. لذا، يحاول النظام العربي “خلق نوع من الإجماع من أجل التغطية أيضا على عدم حصوله على أغلبية شرعية” حسب رأي السيد معروف.

ولا شك في أن وهم تحقيق الإجماع ليس أمرا طارئا ولا مستحدثا في في تاريخ الممارسة السياسية العربية. فمن جهة يتيح هذا الأسلوب لجميع المستفيدين من النظام القائم الإستمرار في جني الفوائد المترتبة عن الوقوف في المكان “السليم”، كما يعوّم كل التناقضات العميقة القائمة بين مختلف مكونات السلطة والمجتمع إلى أجل غير مسمى وراء واجهة من “الإلتفاف حول شخص الزعيم الملهم”.

إجماع لا أغلبية!

من جهة أخرى، لا يبدو العالم العربي – على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على استقلال معظم دوله – قادرا على ممارسة عقلانية للحكم (أو لأية درجة من درجات السلطة) تتقبل أي اقتسام للمسؤوليات الفعلية مع مكونات الطيف السياسي والإجتماعي مهما كان هذا الإقتسام محدودا وضيقا أو متدرجا.

ويذهب البعض إلى الربط بين الحرص على النسب الخيالية القريبة من مائة في المائة وبين ما يشعر به الحاكم العربي – بوعي أو بغير وعي – من أنه يستمد سلطته من الله مباشرة. وبما أن الأمور على هذه الشاكلة فلا يجب أن تكون هناك مجرد “أغلبية” حول الحاكم بل “إجماع” .. وهذا الإجماع لا يمكن أن ترمز إليه إلا النسب القريبة جدا من مائة في المائة!

فهل يعني هذا أن العالم العربي الذي تعيش نخبه المتعلمة انفصاما خطيرا متفاقما محكوم عليه بالبقاء خارج الزمن والتاريخ؟ الأرقام التي تنشرها السلطات العربية والممارسات التي لا زالت تلتجئ إليها في بداية الألفية الثالثة تفيد بأن الإجابة ستكون بنعم.

على الضفة الأخرى تؤكد القوى الصاعدة في المجتمعات العربية والمعارضون بمختلف توجهاتهم على العكس وذلك بالرغم من تجنب الغالبية الساحقة من المواطنين العاديين مجرد الإقتراب من “السياسة” ومن صمت حكومات ديموقراطيات العالم الموصوف بالحر .. المريب.

كمال الضيف

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية