مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هــل سيتنحـــى؟

لم يصدر حتى الآن عن الرئيس العراقي أي مؤشر على استعداده للتخلي عن السلطة Keystone

مع تواتر الحشود العسكرية حول العراق تمهيدا لهجوم عسكري محتمل، تتواصل المساعي السياسية للحيلولة دون وقوع الحرب.

وتعتبر أوساط غربية وعربية أن تنحّـي الرئيس العراقي طواعية قد يكون الحل الأفضل لمنع نشوب الحرب.

حتى اللحظة، لا يوجد ما يمكن وصفه بخطة دولية أو إقليمية معينة لاحتواء احتمال الحرب. بيد أن المراقب يمكن أن يربط بين تحركات إقليمية، وآخرها جولة رئيس وزراء تركيا عبد الله غول في بعض الدول العربية الأساسية وتلميحه إلى إمكانية زيارته لبغداد قريبا، وتصريحات منسوبة لمسؤولين كبار عرب في صيغة نفي مطلق، وأخرى منسوبة لمصادر أمريكية مجهولة الهوية، ولكنها تكررت كثيرا في الآونة الأخيرة، فضلا عن أخبار مجهولة المصدر حول بناء عدد من القصور في بلد شرق أوسطي لم يحدد بالاسم، استعدادا لإقامة أسرة حاكمة كبيرة.

وربما يقود هذا إلى استنتاج أول، هو أن هناك فكرة سيناريو تبدو هائمة في الأفق، تربط بين تغيير النظام العراقي وتحديدا إقصاء قمته بالوسائل السلمية، وبين وقف عمل الآلة العسكرية الأمريكية. وربما يدعم من هذا الخيار نسبيا، ما أكده الرئيس بوش أخيرا، من أن قرار الحرب لم يُتخذ بعد، وأنه آخر الخيارات التي سوف يلجأ إليها لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، بافتراض وجودها بالطبع.

ناهيك عن تصريح دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي في 7 يناير، الذي اعتبر فيه أن الحرب ليست حتمية، وأن ثمة فرصة بأن يتم تسوية الوضع العراقي سلميا إذا ما فضّـل صدام حسين التخلي عن السلطة طوعا.

مجرد فكرة أم خطة محددة؟

هذه الفكرة الهائمة الخاصة بدعوة صدام إلى المنفى الاختياري، يصعب وصفها بأنها تعبير عن خطة محددة المعالم. وحتى اللحظة، لا يوجد من يدعي أنه صاحبها أو يعمل على تسويقها وإيجاد المخارج العملية لتطبيقها.

وربما أمكن القول، إنها مجرد بالون اختبار سربته الإدارة الأمريكية لتحقق به عدة أهداف في آن واحد، كالتأثير النفسي على صانع القرار العراقي، وأيضا على الشعب العراقي نفسه، وطرح خيارات أمام المنادين بوقف عجلة الحرب، ولكنها تحقق عمليا الهدف الأمريكي الرئيسي، المتمثل في اختفاء نظام الرئيس صدام حسين، وإيجاد نظام بديل أكثر صلة بالسياسات الأمريكية، ولكن بكلفة أقل من كلفة العمليات العسكرية.

كما أن هذه الفكرة من شأنها تبرير الحشود العسكرية الأمريكية من خلال إظهار تعنُّـت الرئيس صدام حسين وعدم تجاوبه مع جهود منع الحرب، وإظهاره كقائد لا يهتم إلا بنفسه ومصيره ولا يهتم بمصير شعبه أو بلده. وفي كل الأحوال، سيبدو الأمر أمريكيا وقد حقق أهدافه، سواء تجاوب الرئيس صدام مع مسعى النفي الاختياري، أو تمسك بالحكم، وليكن ما يكون. فعلى الأقل سيمكن للأمريكيين القول إنهم سعوا إلى وقف الحرب وتجاوبوا مع من طالبوا بعدم وقوعها، ولكن الرفض جاء من صدام نفسه.

وكون هذه الفكرة هائمة وغير محددة المعالم يفتح الباب واسعا أمام اجتهادات كبرى حول العناصر الرئيسية التي يمكن الاستناد إليها لكي تتحول من مجرد فكرة أو بالون اختبار إلى خطة جادة لوقف الحرب فعلا.

ومن الناحية النظرية البحتة، هناك ثلاثة مجموعات من العناصر لا غنى عنها لإحداث مثل هذا التحول.

الأولى، عناصر تخص العالم العربي نفسه ومدى قبوله سياسيا بمثل هذا المخرج.

والثانية، تتعلق بكيفية التطبيق والضمانات الحقيقية التي تجعل المقايضة بين رحيل الرئيس صدام اختياريا، وبين وقف الحرب مسألة لا شك فيها، فضلا عن ضمانات خاصة بعدم الملاحقة القضائية والجنائية لأسرة الرئيس صدام، ومن سيلحق بها من كبار المسؤولين.

والثالثة، تتعلق بالقيادة العراقية نفسها ومدى قبولها مثل هذا المخرج.

العناصر العربية .. استحالة القبول

من الواضح أن استجابة العالم العربي لمثل هذه الأفكار تبدو غير مؤكدة لاعتبارات بنيوية تتعلق بالعلاقات العربية نفسها. فمبدأ التدخل في شؤون الغير يبدو مبدأ بغيضا للغاية. أما مسألة الطلب من قيادة عربية للخروج من السلطة طواعية، فهي اكثر صعوبة، بل تبدو مستحيلة على الذهن السياسي العربي.

فكل الدول العربية تعتبر نفسها حصنا منيعا أمام أي تدخل عربي في شأن من شؤونها، حتى لو كان هذا الشأن الداخلي شكلا يمس بعمق المصالح العربية الجماعية مضمونا، كما هو الحال الآن بالنسبة للحالة العراقية.

وفى كل الأحوال، وحسب خبرة العقود الخمسة الماضية، فإن الدول العربية جميعا وبدون استثناء، تفضل أدوارا خارجية عن أي دور عربي يتعلق بالمساهمة في حل معضلة داخلية لديها، والحالة الجزائرية طوال العقد المنصرم خير دليل على ذلك.

وحين تقبل أي دولة عربية دورا عربيا آخر في شأن داخلي، فهو أمر يتم على مضض ووفقا لقاعدة الاستثناء غير القابل للتكرار، وعادة ما يتم الالتفاف على هذا الدور العربي لاحقا.

ولا توجد عربيا سابقة قامت فيها دولة عربية أو مجموعة من الدول بتبني خطة لتغيير نظام حكم لدى دولة عربية أخرى. فهذه السابقة تُـعـد من المحرمات في الفكر والثقافة والممارسة السياسية العربية، ولأنها كما في الحالة العراقية الراهنة ستعد من وجهة نظر كثيرين بمثابة هزيمة مسبقة وقبولا بالمطالب الأمريكية.

وربما جاز القول، أن التدخل العربي المرفوض في الشؤون الداخلية لبلد عربي آخر لا ينطبق على الحالة العراقية الراهنة. فهذه الحالة تمس الأمن العربي الجماعي، وتفتح أبواب الفوضى والانكشاف الأمني والاقتصادي للعرب جميعا على نحو غير مسبوق، ومن ثم فإن أي تحرك عربي جماعي لوقف مثل هذه التداعيات الخطيرة المتوقعة، هو أمر مشروع تماما، حتى ولو تضمن الأمر التخلي التام عن أحد المحددات التقليدية الحاكمة للعلاقات العربية البينية.

بعبارة أخرى، إن الظروف القائمة تستدعى سياسة عربية جماعية مختلفة، بما في ذلك التحرك نحو حماية شعب شقيق من مصير كارثي بكل معنى الكلمة، وفقا لتحرك استباقي من قبيل المساهمة في تغيير طوعي سلمي لنظام الحكم القائم، مع ضمان أن يكون هذا التحرك مانعا للحرب وحاميا للعراق ومقدرته، وحاجزا حقيقيا امام التدخلات الخارجية غير المرغوبة.

ضمانات التطبيق

من الصعب القول ان سيناريو تخلي الرئيس صدام الطوعي عن السلطة يمكن أن يحدث، لو لم يكن هناك ضمانات حقيقية وإغراءات بأن الخروج إلى بلد آخر سيكون بمثابة إغلاق لكل الملفات المرتبطة بالمسؤوليات الجنائية وجرائم الحرب التي يُتصور فتحها على مصراعيها في حال غزو عسكري أمريكي ينال من المسؤولين الحكوميين العراقيين، ويحكم قبضته عليهم.

فالمسألة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل تتعلق بمستقبل أفراد الأسرة المباشرين، وعناصر عديدة ومتشعبة في الحزب والدولة والأجهزة الأمنية والجيش على السواء.

ومن الأمور الغامضة حتى اللحظة، طبيعة العرض الذي يمكن تقديمه للرئيس صدام حسين، وهل سيقتصر عليه وعلى أفراد معدودين ومقربين منه، أم سيشمل عدة مئات وربما آلاف إلى جانبه. وليس واضحا أيضا علاقة ذلك باستمرار النظام الحاكم، أي تشكيلة الحزب والجيش والأجهزة الأمنية.

والمرجّـح هنا أن الاكتفاء بالرحيل الطوعي للرئيس وعدد محدود من أفراد أسرته والمقربين له، سيعنى استمرار النظام في مجمله وهيكله العام، مع فتح الباب نظريا أمام تغييرات مبرمجة مستقبلا تجاه الانفتاح السياسي داخليا وخارجيا، وهذا لا يتحقق إلا من خلال ضمانات بعدم ملاحقة الذين سيبقون في مناصبهم أو سيتم التخلي عنهم بصورة سلمية لاحقا.

وهنا، فقد يتحقق الرحيل الطوعي للقائد، ولكن تظل مشكلة آلاف من المتورطين في جرائم الحكم، مما يفتح الباب أمام عمليات تصفية وثأر وفوضى لا قِـبل للنظام القديم الجديد بها.

مسألة تغيير رأس النظام وبقاء هيكله العام، تعني أن النظام الجديد سيكون نظاما قديما ولكنه منقح، وتعني أيضا أن التصورات الخاصة بقيام نظام بديل وجديد تماما في هيكله وفي شخوصه تحت قيادة عناصر المعارضة العراقية حسب ما انتهى إليه مؤتمر لندن في ديسمبر الماضي، لن يتحقق لها فرصة الوجود.

وقد يكون النظام القديم المُنقَّـح مجرد مرحلة انتقالية لضمان غياب الرأس القائد، ثم بعد ذلك يتم تغيير هيكل النظام بصورة كلية عبر إدماج عناصر المعارضة فيه وفق تخطيط جديد تماما.

لكن المؤكد هنا، أن المعارضة العراقية لن تكون راضية عن استمرار هيمنة حزب البعث أو عدم محاسبة المسؤولين السابقين عن الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب العراقي في العقدين الماضيين.

والمؤكد أيضا، أن الإدارة الأمريكية، مع افتراض أنها وراء تسريب خطة الرحيل الطوعي للرئيس صدام، لم تستشر أيا من فصائل المعارضة العراقية، التي سيكون عليها التعامل مع أي طارئ وفقا لحسابات جديدة تماما، الكثير منها ليس في الحسبان الآن.

وفى إطار الضمانات المتصورة لنجاح مثل هذا السيناريو، أن يكون البلد المضيف قادرا على حماية وضبط حركة القيادة العراقية، وله مصداقية في مواجهة الضغوط الأمريكية التي يمكن تصورها لاحقا، وكذلك أن تكون له صلات قوية مع القيادة العراقية نفسها.

وبمراجعة الدول ذات الصلة القوية بالعراق حاليا، يتضح أنها محدودة للغاية، وتأتى روسيا في مقدمتها. ومع ذلك، فمن المرجح ألا تعمد روسيا إلى التورط في مثل هذا الأمر إلا إذا كان هناك تنسيق وتعاون كامل مع الولايات المتحدة، وهو ما لا تتوافر عليه أي مؤشرات جدية حتى اللحظة.

العوامل العراقية .. وحدة المصير بين القائد والبلد!

ومع افتراض أن هناك سيناريو متكاملا ينطوي على رحيل طوعي ومخطط ذي ضمانات لرأس النظام العراقي، ومجموعة من المقربين منه، فإن التعامل معه وتطبيقه سيكون مرهونا بقرار الرئيس صدام نفسه، وليس بقرار أي جهاز أو مؤسسة عراقية أخرى.

وهنا، فإن الطريقة التي يفكر بها الرئيس صدام تعد العامل المِحك أو الأساس للتكهن برد الفعل المرجح. والشائع، أن القناعة الراسخة لدى صدام حسين هي من قبيل الشعور الجارف بالتوحد السياسي والمصيري بين الذات وبين البلد ككل.

كما أن لدى الرئيس العراقي رؤية غالبة مفادها أن المعركة التي تلوح في الأفق هي معركة الباطل الذي تمثله الولايات المتحدة ومن يمشى في ركبها ضد الحق الذي يمثله ومن ورائه العراق ككل. وهو مقتنع، على الأقل في ما يظهر منه، بأن النصر محقق حتى في ظل هذه الحالة الواضحة من الخلل في ميزان القوى المادية بين الطرفين. والمعروف أيضا أن شقا من قوة الرئيس صدام تكمن في إقدامه على تطبيق سياسات غير متوقعة لمؤيديه وخصومه على السواء.

ومثل هذه الزعامات تفضل المواجهة في كل الأحيان. فالهروب ليس منكرا فحسب، بل لا وجود له في تفكيرها. وإذا كانت منازلة، فليكن الثمن موزعا على الجميع، والمهم أن يظل القائد موجودا ولو في الخفاء بعيدا عن الأعين، ويظل قائدا شجاعا ـ وفقا لتصوره الذاتي ـ حتى ولو مات بعيدا عن الأعين جميعا.

إن السمات الذهنية والشعورية والسياسية للرئيس صدام حسين هي أبعد ما تكون عن التعاطي مع فكرة الرحيل الطوعي عن قمة الحكم وسدة السياسة. ثم من هو الشخص أو الأشخاص الذين يمكنهم مفاتحة صدام بشأن الرحيل الطوعي، والتحول من “قائد عظيم يدير منازلة كبرى بين الحق والباطل”، إلى قائد هارب يخشى النزال ويبحث عن حياة آمنة، تاركا خلفه شعبه للمجهول؟

إن إدراك مقدرات البلد وحق الشعب في الحياة، والتضحية بالذات من أجل مستقبل الأجيال الجديدة والحرص على استقرار المنطقة، كلها مفردات لا تعني شيئا لقائد مثل صدام حسين، الذي يركز بالأساس، ومن وجهة نظره الشخصية البحتة على كتابة تاريخ الأمة.

إن تفاعل العناصر السابقة معا من حيث غموض المطلوب وعدم وضوح ضماناته والافتقار إلى وسيلة تطبيق ناجحة، وسطوة الأفكار الكاريزمية، تجعل مشهد الرحيل الطوعي مستبعدا إلى حد كبير.

وما لم تتغير طبيعة المعادلة العراقية نفسها، خاصة الأفكار الحاكمة للرئيس صدام حسين والنخبة الصغيرة حوله، فالأمر لن يتجاوز حدود الضغوط النفسية والتلاعب بالأعصاب المرافقة لأي عمل عسكري ضخم مثل الذي تعده واشنطن للعراق وللمنطقة العربية بأسرها.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

صدام حسين:
ولد في تكريت في 28 أبريل 1937
انضم الى حزب البعث عام 1956
حكم عليه بالاعدام عام 1960 بتهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وفر الى سوريا
عاد إلى العراق عام 1963
شارك في انقلاب 17 يوليو 1968 واصبح نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة عام 1969
تولى رئاسة الجمهورية عام 1979 بعد انقلاب أبيض على الرئيس احمد حسن البكر
بدأت الحرب العراقية الإيرانية يوم 19 سبتمبر 1980
اجتاحت القوات العراقية الكويت في 2 اغسطس 1990

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية