مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

وداعا لأسد الصحراء وفارس الرسالة

المخرج السينمائي العالمي الكبير الراحل مصطفى العقاد ÇáãÎÑÌ ÇáÓíäãÇÆí ÇáÚÇáãí ÇáßÈíÑ ÇáÑÇÍá ãÕØÝì ÇáÚÞÇÏ

من كان ليصدق أن حياة المخرج السينمائي العالمي الكبير مصطفى العقاد الذي قدم للعالم قصة ظهور الإسلام في فيلمه الكلاسيكي"الرسالة"، ستنتهي على أيدي حفنة من الإرهابيين يدعون أنهم يدافعون عن الإسلام؟

سويس إنفو التقت في الولايات المتحدة بالمخرج الفقيد قبل رحلته الأخيرة والمأساوية إلى الأردن.

لم أكن أتصور أن المخرج الذي أفنى حياته ليكون جسرا بين الشرق والغرب خدمة لحوار الحضارات، سيكون ضحية لصراع “الجهالات”، وأنه لن يعيش ليقرأ هذه السطور بعد مقابلة أجريتها معه في مكتبه في مدينة لوس آنجلوس، تحدث فيها عن مشوار حياته منذ ترك مدينة حلب السورية عام 1954 متوجها إلى الولايات المتحدة لدراسة الإخراج السينمائي في جامعة كاليفورنيا.

قال رحمه الله: “كانت البداية شاقة، حيث كان ذلك حلما يكاد يرقى إلى مرتبة المستحيل بالنسبة لشاب سوري نشأ في بيئة متواضعة في مدينة حلب، وبعد تجاوز مشكلة تمويل الدراسة عن طريق العمل، كانت المشكلة الأصعب هي عقدة النقص الذي كنت أشعر به كعربي يحلم بأن يجد له مكانا في هوليوود، ولكن نقطة التحول كانت في قاعات الدراسة بجامعة كاليفورنيا، حيث تأكدت من خلال التنافس بين طلاب من ألمانيا وفرنسا وايرلندا واليونان ومن باقي الجنسيات، أن مواهبي الفنية لا تقل أبدا عن أي منهم، وسرعان ما استعدت ثقتي بنفسي كعربي في أمريكا وشعرت بأنه لن يحول حائل دون تحقيق حلمي بالإخراج السينمائي في هوليوود بإذن الله”.

لقد ساهمت عوامل كثيرة في نجاح المخرج الراحل ووصوله إلى مرتبة المخرجين العالميين، منها رؤيته الفنية للإسقاط المعاصر، والربط بين الماضي والحاضر في أفلامه التاريخية، وعزمه الذي لا يلين، ورغبته في العمل الجاد والشاق، وانتهاجه لأسلوب العمل الأمريكي وتحمل المسؤولية، وأيضا قدرته على اختراق المزاج الغربي وتفهمه لحقيقة أن إنتاج الأفلام وتسويقها، صناعة تخضع لعوامل العرض والطلب ومعرفة المشاهد.

مصطفى العقاد: “في كل مرة أنتجت أو أخرجت فيها فيلما، كنت أتعرف على نوعية المشاهدين. ولذلك، عندما قررت إنتاج وإخراج فيلم الرسالة عام 1976، كنت أدرك أنني سأقدم للعالم بأسره قصة الإسلام، ولذلك، اخترت نجوما عالميين مثل أنتوني كوين، وإيرينا باباس، وتمكنت من إثارة فضول المشاهد غير المسلم، حينما استخدمت في الدعاية عن الفيلم مشهد الحوار بين النجاشي، ملك الحبشة والمسلمين الذين بشروه برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف طلب منهم معرفة ما الذي قاله القرآن الكريم عن السيد المسيح وعن أمه مريم العذراء. وبالفعل، كان اختياري لذلك المشهد حافزا دفع الجمهور في أنحاء العالم لمشاهدة الفيلم ومعرفة منزلة السيد المسيح في رسالة الإسلام”.

نحن بحاجة إلى صلاح الدين

كان، رحمه الله، مؤمنا بأن المعالجة السينمائية للمواضيع التاريخية ينبغي أن تظهر إسقاطا معاصرا للتاريخ، يربط بين الماضي والحاضر, لذلك، كان يؤمن بأن العالم العربي المعاصر يحتاج إلى زعامة كاريزماتية مثل صلاح الدين الأيوبي يأتي ليعيد صفحات التاريخ المشرق للإسلام، بأن يصلح البلاد ويطهرها من الأعداء ويعكس الوجه الحقيقي السمح للإسلام.

قال لنا الفقيد: “ما أشبه الليلة بالبارحة، فمثلما كان يحيط بفلسطين في زمن صلاح الدين ولاة لدويلات تعاونوا مع العدو وشاعت بينهم المكائد والحيل وانتشر بينهم الفساد، يتكرر الوضع في عالمنا العربي اليوم، لذلك، رأت بعض الأطراف العربية في حوارات فيلم صلاح الدين، الجاهزة منذ سنين بانتظار التمويل، إشارات إلى أنظمة بعينها في العالم العربي اليوم يجب حذفها”.

ومع أنه لم ينجح لسنوات طوال في إقناع الأثرياء العرب بتمويل الفيلم، فإن مصطفى العقاد لم يكن قد فقد الأمل فقال: إنه لو أطال الله في عمره، فسيختار لبطولة الفيلم ممثلا سينمائيا عالميا يتسم بوجه شرقي قوي يعكس قوة وأخلاقيات صلاح الدين، مثل شون كونري الذي وافق منذ عشرة أعوام على القيام بذلك الدور.

وكشف مصطفي العقاد لسويس إنفو النقاب عن العقبات التي حالت دون تحقيق حلمه بإنتاج فيلم عن صلاح الدين: “لقد التقيت بكل ملك وزعيم عربي، وحظيت بتكريمهم بالميداليات والأوسمة، غير أنني لاحظت عدم اهتمامهم بالمساعدة في تمويل فيلم صلاح الدين، بينما طلب بعضهم إنتاج أفلام تخلدهم كزعماء، ولم أستجب لأي من هذه الطلبات لأنني لم أكن راغبا في التنازل عن حريتي في معالجتي السينمائية للتاريخ والحضارة العربية والإسلامية مقابل الحصول على التمويل، ولم يكن ممكنا الحصول على التمويل من المنتجين في هوليوود لأن اليهود الأمريكيين يتحكمون في تلك الصناعة، ليس من الناحية الفنية أو الإبداعية، ولكن من الناحية المالية. ولذلك، لن يوافق أحد منهم على تمويل إنتاج فيلم يدور حول التاريخ العربي أو الإسلامي ولا عن الإسقاطات التاريخية التي تكشف تكرار المشاهد حول فلسطين التاريخية”.

وحكى مصطفى العقاد عن مفارقة تعكس تكرار الهجمات من الغرب للانقضاض على الأرض العربية فقال: إن الجيش الأمريكي اشترى مائة ألف نسخة من فيلم “أسد الصحراء” قبل أن تقوم القوات الأمريكية بغزو العراق ليتعرف الجنود على طبيعة المقاومة العربية من خلال قصة نضال البطل الوطني الليبي عمر المختار ضد القوات الإيطالية، كما اشترى الجيش الأمريكي مائة ألف نسخة أخرى من فيلم “الرسالة” للتعرف على قصة الإسلام، وقال: “إن الإقبال على اقتناء نسخ من فيلم الرسالة قد بلغ ذروته في أعقاب هجمات سبتمبر الإرهابية، رغبة من الشعب الأمريكي في التعرف على الإسلام الذي ربطته وسائل الإعلام الأمريكية بالإرهاب”.

تغيير الصورة السلبية

كان مصطفى العقاد يفتخر بأنه حافظ خلال خمسين عاما قضاها على الأرض الأمريكية على جذوره العربية والإسلامية، ولم يقبل بتقديم أي تنازل فيما يتعلق بهويته كعربي مسلم، بل ولم يقبل نصيحة من أصدقائه عندما بدأ العمل في هوليوود بتغيير اسمه لتسهيل التعامل في الوسط الفني، وقال “إن الأمريكيين يحترمون اعتزاز المهاجر بجذوره”.

“أنا أعتز بكوني عربي وأمريكي، فالجنسية الأمريكية ليست جنسية قومية، بل هي جنسية دستورية، ولقد أعطتني أمريكا الكثير. فقد تعلمت فيها فن الإخراج السينمائي، وتزوجت وأنجبت ونجحت في تحقيق حلمي الكبير بأن أكون مخرجا ومنتجا في هوليوود، بل إنني أمارس فيها عقيدتي كمسلم وثقافتي كعربي بحرية تفوق ما يتمتع به المواطن في أي بلد عربي أو إسلامي. وفي المقابل، قدمت عطائي الفني للتنوع الثقافي والحضاري لأمريكا التي أراها كشركة مساهمة تشارك في نسيجها شعوب العالم، ومنها الشعوب العربية. لذلك، أعتز بقوميتي العربية التي لا يستطيع أحد أن ينتزعها مني فهي في دمي وفي جذوري”.

لكن مصطفى العقاد، كان مؤمنا أيضا بأن هناك حاجة ماسة إلى جهود عربية وإسلامية لتغيير الصورة السلبية النمطية عن العرب والمسلمين، والتي زادت بشكل مخيف بعد هجمات سبتمبر والحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة على الإرهاب، والذي ربطت وسائل الإعلام الأمريكية بينه وبين الإرهاب:

“سيكون فيلمي القادم عن حضارة المسلمين في الأندلس، فأنا أحاول التركيز على تلك الفترة التي كانت فيها الحضارة الإسلامية منارا ثقافيا لأوروبا حين كان ملوكها يرسلون أبناءهم إلى جامعات قرطبة لدراسة العلوم والكيمياء والجبر والطب والفلك وغيرها. فتلك الفترة مثار فخر لنا كعرب ومسلمين، حينما كنا شعوبا أعطت العالم الكثير، وليس الفتاوى فقط، وهدفي أن أثبت لشعوب العالم أن الإسلام ليس هو طالبان أو أولئك الإرهابيين”.

المفارقة العجيبة هي أنه لم يكن يدُور بذهن المخرج الكبير الأستاذ مصطفى العقاد وهو ينطق بتلك الكلمات في نهاية لقائنا معه، أن نهاية حياته ستكون على أيدي هؤلاء الإرهابيين الذين أساءوا إلى الإسلام باستغلالهم لاسم الدين الحنيف الذي ينهى عن قتل الأبرياء، وظهرت بشاعة إجرامهم حينما حولوا العرس الإسلامي في عمان إلى مأتم، وأراقوا دم الفارس الذي رفع راية الإسلام عاليا ليكتب بدمه المشهد الأخير في حياته.. فوداعا يا أسد الصحراء، وستبقي الرسالة أسمى من أن تلطخها أيادي الجهلاء.

محمد ماضي – واشنطن

العقاد هو المنتج المنفذ الوحيد الذي شارك في جميع أفلام «هالاوين» التي بدأ إنتاجها عام 1978 واستمر حتى عام 2002.
بدأت شهرة العقاد العالمية عام 1976 لما أخرج فيلم “الرسالة”، وهو أول فيلم عربي عالمي عن رسالة الإسلام، يُتوجه به إلى الجمهور الغربي، ويَعرض السيرة النبوية للرسول ـ صلى الله عليه وسلم.
وصدر «الرسالة» بنسختيه، العربية والإنجليزية، وأدى دور البطولة (دور حمزة بن عبد المطلب) في النسخة العربية، الممثل المصري الراحل عبد الله غيث. وأدت الممثلة السورية منى واصف دور هند زوجة أبي سفيان بن حرب.
كما أخرج العقاد فيلم «أسد الصحراء.. عمر المختار» بالإنجليزية، وتناول فيه بطولة الشعب الليبي ضد الاحتلال الإيطالي تحت قيادة القائد عمر المختار الذي ينتهي الفيلم بإعدامه

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية