
صواب أم خطأ؟ حقائق وأوهام حول “أبيرتوس” النموذج السويسري للذكاء الاصطناعي

أطلق المعهدان التقنيان الفيدراليان في سويسرا مؤخرًا نموذجًا لغويا ضخما وواسع النطاق في مجال الذكاء الاصطناعي يسمى"أبيرتوس. وقد جاءت ردود الفعل حياله متباينة: ترحيب من بعض الدوائر التقنية والأكاديمية، وانتقادات وتحفّظات من أخرى.
في هذا المقال نستعرض أبرز الادعاءات المتداولة حول هذه التقنية الجديدة، لنكشف ما هو صحيح منها، وما هو مبالغ فيه أو مضلّل.
بعد أسابيع من الترقّب، كشف كلٌّ من المعهد التقني الفدرالي في زيورخ (ETH) والمعهد التقني الفدرالي في لوزان (EPFL )، عن نموذج ”أبيرتوس”. وهو نموذج لغوي وطني واسع النطاق(LLM). ووصفته الجهة المطوِّرة بأنه مفتوح المصدر، بالمعنى الكامل للكلمة، أي إنّ جميع مكوّناته متاحة علنًا للجمهور، وبأنه “محطّة فارقة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، من حيث الانفتاح المعرفي والتنوّع اللغوي”. لكن شهد الوسط التقني نقاشًا واسعًا حول ما يمكن لهذا النموذج إنجازه، وما يعجز عنه. فما الصحيح؟ وما المبالغ فيه؟
اختبرت سويس إنفو (Swissinfo.ch) النموذج الجديد. واستطلعت آراء الفريق المطوِّر، إلى جانب عدد من الخبراء في ميدان الذكاء الاصطناعي، لترسم حدّا فاصلا بين الحقائق والأوهام، وتسلّط الضوء على أبرز نقاط القوة والضعف.
>>بالنسبة لكلوديا فاكاروني، “أبيرتوس”، نموذج الذكاء الاصطناعي الذي طوّرته سويسرا، يعكس تحيّزات عمرها آلاف السنين:

المزيد
“أبيرتوس” السويسري والتحيّز اللغوي في الذكاء الاصطناعي
“أبيرتوس” هو “تشات جي بي تي” سويسري: خطأ
لم يُصمَّم ”أبيرتوس” للاستخدام الشخصي على غرار “تشات جي بي تي” (ChatGPT)، الذي طورته شركة “أوبن إيه أي” (OpenAI). بل هو نموذج أساسي (Foundation Model). أي منظومة مرجعية ضخمة تُدرَّب على نطاق واسع لتكون قاعدة يمكن تكييفها لبناء تطبيقات وخدمات مختلفة، ولا سيما في مجالي الأعمال والبحث العلمي. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدامه في تشغيل منصات التجارة الإلكترونية، أو في استخراج معلومات طبية دقيقة من مصادر مكتوبة بلغات متعددة، بما يتيح للباحثين.ات والأطباء والطبيبات الاستفادة من محتوى عالمي متنوّع.
ويؤكد إيمانويل شلاغ، الباحث في المعهد التقني الفدرالي في زيورخ والمشرف على التطوير التقني لـ”أبيرتوس”، قائلًا: “نحن لا نعتبر الجمهور الواسع جمهورنا المستهدف”. ولهذا السبب، لم يُطرح النموذج مزوّدًا بواجهات سهلة الاستخدام، ولا بتطبيق خاص للهواتف الذكية.
أما ماريا غراتسيا جيوفريدا، نائبة مدير المركز السويسري للحوسبة العلمية في لوغانو، حيث يعمل الحاسوب الفائق عالي الأداء المخصّص لتشغيل النموذج وإدارة عملياته المعقّدة، فتوضح قائلة: “لم تكن غايتنا قط تطوير نسخة سويسرية من “تشات جي بي تي”.
ومع ذلك، ولإتاحة الفرصة أمام الجمهور لتجربة هذا النموذج الأساسي، وفّرت منظمة “بابليك آي” (Public AI) غير الحكومية، بعض الخصائص المتيحة للمستخدمين.ات التفاعل مع الذكاء الاصطناعي بطريقة مباشرة وسهلة عبر واجهة دردشة على موقعها الإلكترونيرابط خارجي.
اقرأ.ي جميع الأخبار الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي في سويسرا:

المزيد
الذكاء الاصطناعي في سويسرا … ما الذي يخبئه عام 2025؟
يستطيع “أبيرتوس” منافسة أضخم النماذج اللغوية: صحيح
يُعدّ “أبيرتوس” وفق المتوفِّر من معلومات حتى الآن، أقوى نموذج لغوي واسع النطاق ومفتوح المصدر بالكامل. أي إنّ شيفرته، وبياناته، وطرائق تدريبه متاحة علنًا للجميع بلا قيود ملكية أو تراخيص مغلقة، إذ يمكن للباحثين والباحثات والجهات المختلفة الاطلاع عليها، واستخدامها، وتطويرها بحرية. ويضم النموذج في نسخته الكبرى نحو 70 مليار مُعامِل. وهي قيم رقمية تحدد قدرته على التعلّم. ومع ذلك، لا يرقى أداؤه إلى مستوى النماذج المملوكة لشركات عملاقة، مثل “جي بي تي – 4″ (GPT-4)، و”جيميني” (Gemini )، و”كلود” (Claude) المعتمدة على مجموعات بيانات أوسع بكثير، وطاقات حوسبية هائلة. وللمقارنة، بلغ حجم “جي بي تي – 3” (GPT-3) نحو 175 مليار مُعامِل، بينما لم تُكشف تفاصيل الإصدارات الأحدث للعامة بعدُ.
ويشبّه المهدي المحمدي، الأستاذ في مدرسة الفنون التطبيقية متعدّدة الاختصاصات في باريس، الوضع بقوله: “مقارنة “أبيرتوس” بنماذج الذكاء الاصطناعي للشركات الأمريكية الكبرى، أشبه بمقارنة فلاح صغير في كانتون فاليه بمصنّع لحوم ضخم”. لكنه يضيف أنّ النماذج الأصغر قد تتميز بالكفاءة وسهولة الوصول إليها من قبل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (SMEs)، فضلًا عن أنّها أقلّ استهلاكًا للطاقة. ويعقّب الباحث في المعهد التقني الفدرالي في لوزان وجامعة سويسرا الناطقة بالإيطالية، ميتي إسمايلزاده: “هناك وعي متزايد اليوم بأنّ جودة البيانات أهم بكثير من كميتها”.
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من شكوك. فقد أشار أحد أساتذة جامعة زيورخ المتقاعدين، برونو فري، إلى تقديم مصدر علميّ غير صحيح للنموذج السويسري. وعلّق بأنّ نتائجه “غير مقنعة”. بينما كتب عالم الرياضيات، كزافييه كونتيس، على منصة “لينكد إن” (LinkedIn)،رابط خارجي إنّ النموذج ينتج كثيرًا من المخرجات التي تبدو دقيقة في ظاهرها، لكنها في حقيقتها مغلوطة. وهو ما يُعرف في مجال الذكاء الاصطناعي بـ”الهلوسات”.
في المقابل، دافع إيمانويل شلاغ عن أداء النموذج، مشيرًا إلى تجاوز نسخته الأصغر (8 مليارات مُعامِل) بالفعل أداء نماذج مماثلة طوّرتها شركات مثل “ميسترال” ((Mistral)، و”ميتا” (Meta)، و”علي بابا” (Alibaba). بل، تفوّقت على كل ما أصدرته المؤسسات العامة الأخرى حتى الآن.
نموذج “أبيرتوس” أكثر أخلاقية وشفافية من النماذج الأخرى: صحيح
يُعد ”أبيرتوس” أول نموذج لغوي واسع النطاق يُصمَّم، ويُطوَّر بما يتوافق مع المتطلّبات الجوهرية لقانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، الداخل حيّز التنفيذ عام 2024. وتشمل هذه المتطلبات الشفافية، وإمكانية تتبّع البيانات، واحترام الملكية الفكرية، والخصوصية. فقد أُتيح للجمهور الاطلاع على بنية النموذج، والأوزان. أي القيم الرقمية المحدّدة لكيفية عمل الشبكات العصبية، فضلًا عن تعليمات التدريب. أما مجموعات البيانات المستخدمة في تدريبه، فجميعها مستمدّة من مصادر عامة وقانونية، تخلو من الأعمال المحمية بحقوق النشر أو من المواقع المعلنة انسحابها من عمليات جمع البيانات.
وعلى النقيض من ذلك، اعتمدت الشركات التقنية العملاقة لوقت طويل على استغلال بيانات مليارات المستخدمين.ات دونَ إذن، بما في ذلك بيانات محمية بحقوق النشر. وغالبًا ما جُمعت هذه البيانات عبر عمالة بشرية خفيّة بأجور زهيدة،رابط خارجي في بلدان نامية. ويشير المهدي المحمدي إلى أنّ “حجم الانتهاكات التي باتت طبيعية في سلسلة التوريد الخاصة بالذكاء الاصطناعي السائد، يفوق إدراكنا وتوقعاتنا”.
لهذا، يُنظر إلى نموذج “أبيرتوس” بوصفه خيارًا جذّابًا للشركات، والمؤسسات البحثية، والهيئات العامة الراغبة في تطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي أخلاقية ومتوافقة مع القوانين. ويؤكد إيمانويل شلاغ: “نحن الدليل الحي على إمكانيّة تدريب الذكاء الاصطناعي التوليدي بمسؤولية، ودونَ المساس بحقوق الملكية الفكرية للآخرين”.
“أبيرتوس” يدعم أكثر من 1800 لغة: مضلِّل
بذلت الجهة المطوِّرة لـ”أبيرتوس” جهدًا كبيرًا لتدريب النموذج على طيف واسع من اللغات، يزيد على 1،800 لغة، بحسب ما أُعلن. بما في ذلك لغات أقليات ولهجات غالبًا ما تُهمَّش في النماذج اللغوية السائدة، مثل اللغة الرومانشية، والألمانية السويسرية. وتُعد هذه خطوة لافتة. إذ تركّز معظم نماذج الذكاء الاصطناعي في الأساس، على اللغات الأكثر انتشارًا عالميًا.
غير أنّ التعرّف إلى لغة شيء، والقدرة على إنتاجها بدقة وطلاقة شيء آخر تمامًا. ففي اللغات الأقل شيوعًا، يرتكب النموذج أخطاء ملحوظة.
ففي اختباراتنا مثلًا، قدّم ”أبيرتوس” عبارات غير سليمة بالإيطالية، كما أخطأ في ترجمة كلمة “جد” إلى اللغة الرومانشية.
ويعترف شلاغ، رئيس قسم التطوير في شركة أبيرتوس، بأنّ القدرات الحوارية لـ”هذا النموذج ما زالت تحتاج إلى تحسين وتطوير. لكنها تشير أيضًا إلى تفوّق أداء النموذج على غيره من النماذج في بعض المهام، مثل الترجمة من الألمانية إلى الرومانشية، وذلك وفق أحدث تقرير تقنيرابط خارجي.
ومع ذلك، لم يحظَ هذا التقدّم بقبول شامل. إذ عبّر ألدو بوديستا، المدير التنفيذي لشركة “جيوتّو إيه أي” (Giotto.ai) السويسرية، الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والداعمة للمشروع مع الاعتراف بحدوده، عن تساؤله: “ما جدوى نموذج يدعم الرومانشية إذا كان أداؤه المتوسط أدنى من أداء النماذج المماثلة، فضلًا عن الرائدة منها؟”.
في المقابل، ترى ماري-آن هارتلي، مديرة مختبر الذكاء الصحي العالمي والاستجابة الإنسانية في المعهد التقني الفدرالي في لوزان، الأمرَ مختلفًا: “من حق الأشخاص الناطقين.ات بلغات غير واسعة الانتشار إيجاد تمثيلٍ حقيقيٍّ في التكنولوجيا. هذا ما يسعى “أبيرتوس” إلى تحقيقه”. وفي رأي فريق التطوير، ليست هذه الثغرات المبكرة سوى مرحلة عابرة لا بدّ منها في سبيل مقاربة أكثر شمولًا، وإنصافًا في بناء الذكاء الاصطناعي.
صُمّم “أبيرتوس” من أجل سويسرا فقط: خطأ
طُوّر نموذج ”أبيرتوس” في سويسرا، وصاغته مؤسساتها الأكاديمية العريقة، لكن يظلّ اختزاله في إطار محلي ضيّق مجحفًا في حقه. فقد جاءت الغالبية العظمى من بيانات التدريب التي تأسّس عليها، من مصادر دولية متنوّعة. ووحدها بعض الاستثناءات تحمل بصمة سويسرية واضحة؛ إدماج بيانات من الألمانية السويسرية واللغة الرومانشية، وإضافة “ميثاق القيم السويسرية”، المرسِّخ لمبادئ، كالحياد والتنوّع اللغوي، ليشكّل بعدًا أخلاقيًا مميّزًا في هوية النموذج. وكما يقول إيمانويل شلاغ: “باستثناء هذه العناصر، لا يحمل نموذجنا ما يمكن وصفه بأنه سويسري خالص”.
أما فريق ”أبيرتوس”، فينظر إلى المشروع باعتباره جسرًا للتعاون يتخطّى حدود الأوطان. ويأمل الفريق التقاط دول أخرى هذه المبادرة، وتغذيها بما تملكه من بنية تحتية وموارد وكفاءات، لتتسع الدائرة من محليّة إلى أوروبية، ومن أوروبية إلى عالمية. ومن مركز الحوسبة في لوغانو، تؤكد ماريا غراتسيا جيوفريدا: «طموحنا أن يواصل “ “أبيرتوس” تطوّره على مستوى أوروبي، بل وعلى مستوى عالمي، ليصبح أداة مشتركة تُسهم في خدمة المعرفة والإنسانية جمعاء”.
لا يستطيع “أبيرتوس” تحديث نفسه في الزمن الحقيقي لأنه غير متصل بالإنترنت: مضلِّل
لا يملك أي نموذج لغوي ضخم القدرة على تحديث نفسه لحظة بلحظة. فتبقى جميعها ساكنة بعد اكتمال التدريب. أي لا تتغيّر بنيتها تلقائيًا، حتى وإن استُخدمت داخل منتجات متصلة بالإنترنت مثل “تشات جي بي تي”. والسبيل الوحيد لإدخال تعديلات أو تصحيحات، هو إعادة التدريب من جديد. وهي عملية باهظة الكلفة، لا تقدر على تحمّلها إلا الشركات العملاقة ذات الموارد الهائلة. وكما يوضح إيمانويل شلاغ: “هذه هي معضلة هذه التكنولوجيا الجوهرية”.
أما الجولة المقبلة من تدريب ”أبيرتوس”، فسيوفّر التمويل الفيدرالي تمويله البالغ 20 مليون فرنك سويسري. وستُنفّذ على الحاسوب الفائق عالي الأداء في جبال الألب السويسرية، العامل كليًا بطاقة مائية متجددة، في محاولة لجعل العملية أقل استنزافًا للموارد. ومع ذلك، ستظلّ استمرارية المشروع على المدى الطويل مرهونة بتأمين مصادر تمويل جديدة. ويضيف شلاغ: “أتمنى أن نشهد المزيد من الاستثمارات في هذه التكنولوجيا، التي تُعد أساسية لسيادتنا الرقمية”.
تحرير: غيب بولارد.
ترجمة: جيلان ندا
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلّي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
المزيد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.