مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تونس: سلطة متشددة ومعارضة بلا خطوط حمراء

لاعبون يتقاذفون كرة مصنوعة من جلد الإبل بواسطة عصي من جذوع النخل في إطار لعبة الـعُـقـاف في سياق الدورة 36 لمهرجان الصحراء الدولي في دوز جنوب البلاد (تاريخ الصورة: 27 ديسمبر 2005) Keystone

استمرت سيطرة الحكومة على الوضع الاقتصادي طيلة عام 2005، ورغم ارتفاع الأسعار وركود الإستثمار وتزايد المطالب إلا أنها نجحت نسبيا في ترضية الأوساط النقابية.

في المقابل، شهد الوضع السياسي حالة احتقان مستمرة، حيث لا تزال أوضاع حقوق الإنسان وكيفية تعامل السلطة مع منظمات المجتمع المدني المستقلة تثير قلق الأوساط الحقوقية في الداخل والخارج.

استمرت سيطرة الحكومة على الوضع الاقتصادي طيلة السنة المنقضية 2004 / 2005. وتجلى ذلك بوضوح على الأقل في مجالين حساسين هما التضخم والبطالة . ورغم أن الأسعار قد شهدت ارتفاعا ملحوظا خاصة مع الزيادات في أسعار المحروقات، وهو أمر أصبح يقض مضاجع التونسيين، كما أن الجهود التي بذلت للرفع من حجم الاستثمار الداخلي والخارجي لم تحقق الأهداف المأمولة، إلا أن الحكومة قد نجحت نسبيا – وربما بصفة مؤقتة – في ترضية الأوساط النقابية من خلال زيادات محدودة للأجور، كان آخرها توقيع اتفاقين خاصين بالعاملين في قطاعي النسيج والبنوك . كما أن الحكومة تواصل بذل الجهود لكسب ثقة المستثمرين الأجانب، مع السعي لتنويع الأسواق الخارجية وتوسيعها أمام البضائع المحلية.

لكن في المقابل شهد الوضع السياسي بالبلاد طيلة هذه السنة حالة احتقان مستمرة، حيث لا تزال أوضاع حقوق الإنسان وكيفية تعامل السلطة مع منظمات المجتمع المدني المستقلة تثير قلق الأوساط الحقوقية في الداخل والخارج. وهو ما انعكس سلبيا على علاقة النظام التونسي بعديد الدول الحليفة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الحكومات الأوروبية.

تجاذب

أهم ما يلفت الانتباه عند استعراض أبرز الأحداث التي شهدتها تونس خلال سنة 2005، حالة التجاذب القائمة بين البعدين الاجتماعي والسياسي.

فعلى الصعيد الاجتماعي تصاعدت حدة المطالبة بالزيادة في الأجور وتحسين القدرة الشرائية للعمال والموظفين. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الإضراب الإداري الذي أقدم عليه الأساتذة الجامعيون. كما مرت المفاوضات الاجتماعية بين الحكومة واتحاد الشغل بظروف صعبة، مما دعا إلى تدخل الرئيس بن علي لإخراج المفاوضات من المأزق. وقد شهدت التجمعات النقابية زخما جديدا من حيث ارتفاع نسبة المشاركة والانخراط في النضال النقابي، وهو ما اعتبره البعض مؤشرا على بداية استعادة الجسم النقابي لمكانته وتقاليده السابقة. يضاف إلى ذلك تزايد حجم الضغوط التي يمارسها تيار نقابي تصاعدي يدفع نحو الربط من جديد بين المهام المطلبية للحركة النقابية وبين دورها السياسي الذي تخلى عنه اتحاد الشغل منذ التسعينات ضمن رؤية تقوم على توزيع الأدوار بين الحكم واتحاد الشغل.

من جهة أخرى نجحت الحكومة بقيادة الخبير الاقتصادي محمد الغنوشي في التحكم بمعدلات البطالة، وهو الملف الذي لا يزال يثير مخاوف السلطة، نظرا لتداعياته المباشرة على الاستقرار السياسي. وخلافا لما تعتقد المعارضة، أشارت آخر الإحصائيات الرسمية إلى أن معدل البطالة قد تراجع قليلا ليستقر في حدود 13,9 بالمائة. وهو مؤشر من مؤشرات عديدة جعلت النظام يتمتع بثقة المؤسسات الدولية، بالرغم من الملاحظات التي أبدتها هذه الأخير حول بعض جوانب الأداء الحكومي.

إجراءات سياسية

أما على الصعيد السياسي فقد نظمت انتخابات بلدية لم تثر اهتمام المراقبين، حيث تواصلت سيطرة الحزب الحاكم على جميع البلديات، مع توزيع نسبة من المقاعد على الأحزاب الحليفة. كما لم يطرأ على تركيبة الحكومة تغييرات جوهرية، ما عدا حدوث تحوير وزاري جزئي شمل بالخصوص وزارة الخارجية. وتمت المحافظة أيضا على نفس الوجوه القيادية في الديوان السياسي للتجمع الدستوري الديمقراطي. لكن لا يعني ذلك أن المشهد السياسي المؤسساتي بقي طيلة السنة بدون تغيير. فقد حاولت السلطة التفاعل بطريقتها مع المسائل المطروحة، ضمن نظرتها الخاصة لما تعتبره التدرج في الإصلاح السياسي.

وفي هذا السياق قامت السلطة بعدد من الإجراءات من أهمها :

– إنشاء غرفة ثانية أطلق عليها مجلس المستشارين، الذي انطلقت أعماله مؤخرا بعد استكمال عملية الفرز لعدد كبير من الذين رشحوا لعضويته. وبالرغم من أن تعيين بعض الأسماء قد أثار استغراب الكثيرين، إلا أن جلسات المجلس الأولى لفتت انتباه المراقبين، حيث بدت النقاشات أحيانا ( في الملفات غير الإستراتيجية ) أكثر جرأة من البرلمان الذي يفترض فيه تمثيل كل التونسيين.

– إلغاء الإجراء المتعلق بالإيداع القانوني للصحف وبالتالي إدخال تنقيح آخر على مجلة الصحافة، مع الرفع من قيمة دعم صحف الأحزاب التي لها على الأقل عضو بمجلس النواب. كما تم تغيير تركيبة المجلس الأعلى للاتصال بتعيين عضو سابق بالهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. جاءت هذه القرارات كمحاولة أخرى جزئية لامتصاص الجدل المستمر حول معضلة تحرير الإعلام. وبالرغم من وجود شبه إجماع حول ضرورة تحرير الصحافة والتلفزيون من القيود والضغوط إلا أن السلطة بقيت تتعامل مع الملف من زاوية قانونية إجرائية ضيقة. وإذ رحبت أطراف عديدة بقرار إلغاء الإيداع القانوني للصحف، لكنها رأت فيه إجراء محدودا لن يكون له تأثير نوعي على تحرير قطاع الإعلام، خاصة وأن صحيفة ” الموقف ” الناطقة باسم الحزب الديمقراطي التقدمي بقيت محرومة من الدعم الحكومي نظرا لخطابها الاحتجاجي الشديد.

– تسوية ملفات العشرات من الإسلاميين الذين كانوا يقيمون خارج البلاد، والذين قرروا وضع حد لغربتهم الاختيارية أو القسرية. وهو أمر يجري بصمت وبعيد عن الأضواء، لكنه لم يؤشر حتى الآن عن وجود إرادة سياسية لإنهاء محنة المئات من مساجين حركة النهضة رغم أن قضيتهم شهدت هذه السنة تعاطفا واسع النطاق وغير مسبوق.

محطة رئيسية

ولعل الحدث الأبرز الذي تم خلال الأشهر الأخيرة وله صلة مباشرة بالمشهد الإعلامي كان قطعا الإعلان عن تأسيس نقابة للصحافيين التونسيين. هذه النقابة التي رفضت السلطات الاعتراف بها، التف حولها ما لا يقل عن 150 صحفيا، وشدت اهتمام النخبة ومنظمات المجتمع المدني في الداخل، ولقيت مساندة قوية من قبل المنظمات الدولية المختصة في حرية الصافة والدفاع عن الصحافيين. كما اكتسبت النقابة حضورا وسندا قويين، رغم حداثة ولادتها وتعدد المضايقات التي تعرض لها بعض مؤسسيها، وفي مقدمتهم رئيس النقابة الذي شارك في إضراب 18 أكتوبر. كما قامت السلطة بمنع انعقاد مؤتمرها الأول.

شكل انعقاد الجولة الثانية من قمة مجتمع المعلومات المحطة الرئيسية مقارنة بكل الأحداث التي عرفتها تونس خلال هذه السنة. لكن وإن نجحت السلطة في إحكام التنظيم الإداري، إلا أنها أخفقت في استثمار المناسبة وتوظيفها من الناحية السياسية. وبدل أن تتوخى السلطة الحذر، وتحول الحدث إلى فرصة لإثبات التزامها بتطوير الحياة السياسية، وبالأخص في المجال الإعلامي والحقوقي، عمدت إلى العكس، مما رسخ لدى الرأي العام الدولي صورة نمطية عن تونس أصبحت رائجة كثيرا في كثير من البلدان. صورة تجمع بين “التحرر على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي من جهة والانغلاق على الصعيد السياسي “.

وقد ولد ذلك حرجا حتى لأصدقاء النظام التونسي في كثير من الدول. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى البيان الذي أصدره البرلمان الأوربي يوم 7 ديسمبر عن أوضاع الحريات في تونس، والذي حصل على أكثر من مائتي صوت. وما كان ذلك ليحصل لولا عدم اعتراض الفرنسيين والإيطاليين والإسبانيين الذين يعتبرون من الأصدقاء التقليديين للنظام التونسي.

تغير في أداء المعارضة

أما بالنسبة لأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، فقد شهدت الأشهر الأخيرة من سنة 2005 تغيرا في أسلوب الاحتجاج لدى بعض الأطراف التي اتهمتها السلطة وبعض الموالين لها بـ ” عدم الوطنية والاستئساد بالخارج “. فاللجوء إلى الإضراب الجماعي عن الطعام، والتهديد بالنزول إلى الشارع وابتكار أشكال للنضال غير مألوفة في الساحة التونسية، ومحاولة عزل النظام على الصعيد الدولي، لم تكن سوى مؤشرات على حالة اليأس والإحباط التي أصابت قطاعا واسعا من المعارضين الذين أيقنوا بأن الأساليب التقليدية لم تعد قادرة على تغيير نمط الحكم أو تعديل موازين القوى.

جانب آخر ميزت ساحة المعارضة، ويتمثل في المسعى القائم من أجل بناء جبهة معارضة لا تستثني الإسلاميين، وتحديدا ” حركة النهضة “. هذه المسألة التي تعتبرها السلطة منذ مطلع التسعينات بمثابة الخط الأحمر، قامت بعض مكونات الحركة الديمقراطية واليسارية بتجاوزه، مما أثار ولا يزال ردود فعل عنيفة سواء من أوساط النظام أو من قبل بعض المجموعات الماركسية التي لا تزال تعتقد بأن ” الإسلاميين خصم استراتيجي قد يكون أشد خطرا من السلطة القائمة “. وهو تقاطع يذكر بما حصل في مطلع التسعينات، وإن كانت معطيات كثيرة قد تغيرت وجعلت الكثيرين يتجاوزون منطق الوصاية أو الإقصاء.

هكذا تنتهي السنة السياسية في تونس، كما انتهت سابقاتها. من جهة سلطة متمسكة بأسلوب إدارتها للشأن العام، رغم تعدد أخطائها مما جعلها تمنى خلال الأشهر الأخيرة بخسائر لا يستهان بها . وآخر هذه الأخطاء المجانية منع فنان في حجم مرسال خليفة من المشاركة في مهرجان للطفولة، مما دفع بالعشرات وربما المئات من كبار المثقفين والفنانين داخل وخارج العالم العربي للتساؤل عما يجري في تونس.

وفي المقابل، جزء من المعارضة يحاول أن يحدث حركية جديدة قائمة على قواعد مغايرة للمرحلة الماضية، بعد أن نجح في شد انتباه الرأي العام الداخلي والخارجي، وتحريك الأوضاع السياسية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. وبينهما تقف أطراف لا تزال تربط مصيرها ومصالحها بنظام الحكم، وأخرى تواصل السعي لبناء قطب يساري يكون قادرا على مواجهة السلطة والإسلاميين معا.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية