مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

ليبيا: عـام المناورات والإغراءات

أطفال يتجولون في أحد شوارع مدينة طرابلس ليلة الإحتفال بالذكرى 36 لثورة الفاتح من سبتمبر 1969 (تاريخ الصورة: 31 أغسطس 2005) swissinfo.ch

لم تُحقق ليبيا في سنة 2005 ما أعلن عنه سيف الإسلام نجل الزعيم معمر القذافي في بواكير العام من أن الرئيس جورج والكر بوش سيزورها تتويجا للمصالحة التاريخية بين البلدين..

في المقابل، ناورت كي تسحب الأمريكيين إلى ملعب الإنفتاح الإقتصادي بدل الإصلاحات السياسية التي كانت تطالب بها واشنطن والتي قد تهدد مصير النظام.

في وقت سابق من السنة الجارية تلقى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الجمهوري ريتشارد لوغار، وهو أرفع مسؤول أمريكي زار ليبيا منذ استئناف العلاقات بين البلدين، دعوتين رسميتين لكل من الرئيس بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس لزيارة ليبيا ولم يتم إنجاز أي من الزيارتين في 2005، لكن الواضح أنهما تعكسان المنعطف الجديد الذي دُفعت فيه العلاقات الثنائية منذ تخلي ليبيا عن أسلحة الدمار الشامل في سنة 2003.

وعلى رغم أن السفير الأمريكي الذي أُعلن مرارا أنه سيصل قبل نهاية العام لم يأت في النهاية فإن تأخر وصوله وإرجاء فتح السفارة المغلقة منذ أكثر من عشرين سنة لم يحولا دون أن تصبح طرابلس مقصدا لكبار السياسيين والمستثمرين الغربيين وفي مقدمتهم أعضاء مجلس الشيوخ ورؤساء الشركات الأمريكية التي وقعت على صفقات كبيرة مع الدولة الليبية.

على هذا الأساس يمكن القول إن الليبيين حذقوا فن المناورة مع الأمريكيين وأدركوا ما هو الثمن الذي يمكن أن يرضي واشنطن لقاء تطبيع العلاقات من دون المخاطرة بالدخول إلى حقل التغييرات السياسية. لا بل إن الأصوات التي بدأت ترتفع في الداخل للمطالبة بالديمقراطية ومكافحة الفساد تلقت درسا قاسيا من خلال عملية اغتيال الصحفي ضيف الغزال التي كانت رسالة قوية إلى الإصلاحيين في الداخل مفادها أن شوكة الحكم مازالت قوية وأن عليها ألا تقرأ التصريحات الليبرالية التي يدلي بها سيف الإسلام من وقت لآخر على أنها علامات ضعف.

استدراج الأوروبيين أيضا

وفعلا كان لافتا أن واشنطن “ابتلعتها” ولم ترد الفعل بالقوة التي تتوخاها عادة مع أنظمة أخرى في حالات مماثلة وكأنها قبلت بالخطوط الحمر التي وضعها لها القذافي، وكذلك فعل الأوروبيون أيضا.

صحيح أن سنة 2005 اتسمت بالإعلان عن قبول معاودة محاكمة أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين في سياق تصريحات أدلى بها سيف الإسلام في هذا المعنى، إلا أن الخطوة لم تكن علامة تراجع وإنما أثبتت أن الحكم مازال يمسك بأوراق اللعبة.

وهذا ما تجلى أيضا من خلال التعاطي مع ملف الممرضات البلغاريات الخمس والطبيب الفلسطيني المحكومين بالإعدام بعد إدانتهم بحقن فيروس السيدا لأربع مائة طفل ليبي في مستشفى بنغازي. فالأوروبيون، ومعهم الأمريكيون، جعلوا من إقفال هذا الملف وإطلاق الممرضات المعتقلات منذ خمسة أعوام شرطا لتطوير العلاقات مع ليبيا، إلا أن القذافي ظل يرخي الحبال ويشدها ولعب على أعصاب الرئيس البلغاري الذي زار ليبيا في شهر يونيو لطلب الإفراج عن مواطناته.

واستخدم القذافي أيضا مع الموفدين الأوروبيين الذين جاؤوا يسترضونه لعبة الزخات الباردة والسخنة، وهو ما ظهر من أطوار إعادة المحاكمة التي جرت في الأيام الأخيرة من السنة والتي شدت إليها اهتمام الغربيين الذين باتوا ينتظرون “إشارة غفران” من القذافي على حد العبارة التي استخدمتها المغنية الفرنسية من أصل بلغاري سيلفي فارتان التي طلبت منه في رسالة مفتوحة “الرأفة بمواطناتها”.

والأرجح أن السلطات الليبية ستقنع أسر الأطفال المتضررين بقبول التعويضات البلغارية المعروضة عليها على رغم أن بعض أقربائهم كشف أن انعدام الشروط الصحية الدنيا في مستشفى بنغازي هو الذي كان سبب تفشي فيروس الأيدز بين الأطفال. وبهذا المعنى تكون الحكومة الليبية أوجدت كبش فداء خارجي لتوجيه نقمة الليبيين نحوه واستدرجت الأوروبيين في الوقت نفسه إلى ملعب المناورات والترضيات والصفقات.

وقد اعتمدت طرابلس السياسة نفسها مع إيطاليا بإقرار العمل مجددا بيوم الغضب على ترحيل آلاف الليبيين إلى الجزر الإيطالية أثناء فترة الإحتلال والذي يصادف يوم 7 أكتوبر محاولة إجبار روما، المستعمر القديم، على دفع ستة مليارات يورو لتمويل مشروع مدَ أوتوستراد من الحدود المشتركة مع تونس غربا إلى الحدود مع مصر شرقا.

ونتيجة إعادة العمل بيوم الغضب الذي يصادف أيضا ترحيل عشرين ألف إيطالي من ليبيا في السابع من أكتوبر 1970 توترت العلاقات مع روما مثلما عكست ذلك تصريحات وزير الخارجية الإيطالي جانفرانكو فيني الذي اعتبر الخطوة الليبية “غير مقبولة”، وامتنع رئيس الوزراء سيلفيو برلوسكوني الذي يحتفظ بعلاقات شخصية مع القذافي عن زيارة ليبيا طيلة سنة 2005 بعدما كان زارها مرتين في السنة السابقة.

مصالحات إقليمية

وعلى الساحة العربية كسب الليبيون أيضا سنة 2005 مصالحات مهمة ولافتة وبخاصة مع السعودية وموريتانيا، إذ لم تنته السنة إلا والجهود الأمريكية المصرية الجزائرية للتقريب بين القذافي والملك عبد الله الذي اعتلى العرش بعد رحيل شقيقه فهد، قد أعطت أُكلها بعودة السفير السعودي لدى طرابلس محمد الطاسجي إلى مقر عمله ووصول السفير الليبي محمد سعيد القشاط إلى الرياض.

وارتكز مسار التقارب على روزنامة اتفق عليها الجانبان كي تكون آلية عملية لطي صفحة القطيعة التي أعقبت القمة العربية في بيروت السنة 2002. وعلى رغم أن العلاقات الديبلوماسية بين طرابلس والرياض مجمدة منذ أكثر من ثلاث سنوات فإن الإتصالات غير المباشرة عادت تدريجا بينهما في الفترة الأخيرة. وكان الملك عبد الله قد استقبل أحمد قذاف الدم الموفد الخاص للعقيد القذافي الذي زار الرياض لحضور مراسم تشييع الملك الراحل فهد في الرياض ولتقديم التعزية للعائلة المالكة.

وسرعان ما ردت السعودية على تلك الإشارة بإطلاق خمسة عناصر ليبية يؤكد السعوديون أنهم يعملون في الأجهزة الأمنية وكانوا اعتُقلوا بعد القمة العربية في بيروت في أعقاب اكتشاف مخطط لاغتيال الأمير عبد الله نُسب للداعية المقيم في أمريكا عبد الرحمان العامودي والذي كان يتردد على ليبيا كثيرا ويقيم علاقات شخصية متينة مع القذافي.

وأتى إطلاق الليبيين الخمسة بعد أسبوع واحد من زيارة قذاف الدم إلى الرياض ما اعتبره الليبيون رسالة سعودية لتأكيد التجاوب مع رغبة الطرف الآخر بفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية. وتم التمهيد للمصالحة بالتزام الطرفين وقف الحملات الإعلامية والتحركات الديبلوماسية المعادية وإنهاء الملاحقات التي تستهدف عناصر الطرف المقابل وتفادي الصدام في الإجتماعات العربية والإمتناع عن تقديم الدعم لمعارضي الجانب الآخر.

ويمكن القول إن السيناريو نفسه اتُبع مع نواكشوط بعد قطيعة استمرت عمليا منذ توصل موريتانيا واسرائيل إلى اتفاق لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما في سنة 1995. لكن على خلاف المصالحة مع السعودية التي كان فيها الليبيون طالبي صلح، أتى الرئيس الموريتاني الجديد علي ولد محمد فال إلى ليبيا لتقديم اعتذار عن الإتهامات التي وجهها إليها سلفه معاوية ولد طايع بالوقوف وراء محاولتين انقلابيتين ضد نظامه في أغسطس وسبتمبر 2004. وكان قدم اعتذارات مماثلة إلى بوركينا فاسو التي وجه لها ولد طايع تهمة مشابهة.

ومن هذه الزاوية يمكن القول إن ليبيا أنهت عام 2005 على وقع مصالحات إقليمية عززت مواقعها في الإتحاد المغاربي والجامعة العربية، وبأداء دولي أفضل مما كانت عليه علاقاتها مع الغرب في السنوات الماضية، بعدما باتت تحذق المناورة بالأوراق المتاحة بين أيديها، بإغواء الأوروبيين والأمريكيين بالصفقات النفطية والتجارية المغرية لقاء تحاشي الخوض في الملفات المحرجة وفي مقدمها ملف احترام حقوق الإنسان وإطلاق الإصلاحات السياسية.

رشيد خشانة – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية