مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مـنـعا للعودة إلى الوراء ..

تحاول السلطات المغربية منذ عدة أعوام التعامل بشكل مغاير مع ملف حقوق الإنسان عموما وما يرتبط بممارسة التعذيب والإنتهاكات الجسيمة المشابهة خصوصا.

في هذا السياق، قرر وزير العدل المغربي مؤخرا فتح تحقيق قضائي بشان تقارير تحدثت عن خروقات جسيمة تعرض لها سُجناء إسلاميون في المعتقلات المغربية خلال العامين الماضيين.

يؤشر القرار الذي اتخذه وزير العدل المغربي إلى وجود مأزق حقيقي تعيشه السلطات المغربية في وقت تَـقدُّم إنجازات ملموسة في ميدان طي صفحة الماضي الأليم، الذي عاشته البلاد طوال العقود الأربع التي تلت الاستقلال وتذهب بالمجتمع نحو المصالحة مع نفسه ومع تاريخه.

التقارير التي أعدتها لجنة تابعة للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (رسمي) تحدّثت عن الانتهاكات التي تعرّض لها المعتقلون من لحظة إلقاء القبض عليهم إلى ما بعد صدور الأحكام ضدهم، وهو ما أعاد إلى الأذهان سيناريو كان المغاربة يعيشونه فيما يعرف بـ “سنوات الرصاص”، في إشارة إلى السنوات الممتدة من بداية الستينات إلى منتصف التسعينات.

تبدأ الخروقات الجسيمة الواردة في التقارير بالاعتقال غير القانوني والحجز دون إذن قضائي، وتمر بالتعذيب بأصنافه المتعددة من امتهان لكرامة الإنسان، واغتصاب جنسي، مادي ومعنوي، وضرب بالعِـصي أو لسعات الكهرباء والحرمان من النوم، والانتهاء في السجن بعد صدور الحكم بالحرمان من أبسط حقوق السجين، وتكرار التعذيب والامتهان، إذا ما صدرت احتجاجات.

تكرار الانتهاكات

وكان ما تضمنه التقرير، نتائج تحقيق قامت به اللجنة بعد إعلان أكثر من 150 معتقلا إسلاميا في منتصف ديسمبر الماضي إضرابا عن الطعام، احتجاجا على ما يتعرّضون له من انتهاكات.

وكان المعتقلون في سجن “أوطيطا 2” بالقرب من مدينة مكناس قد اعتُـقلوا على خلفية الانتماء لجماعة السلفية الجهادية، التي تقول السلطات إنها المسؤولة عن الهجمات الانتحارية التي شنّـت في الدار البيضاء في منتصف مايو 2003، والتي أدخلت البلاد ولشهور في أجواء الملاحقة والتوتر وتِـكرار الانتهاكات لحقوق الإنسان.

وكانت عائلات المعتقلين قد نظمت اعتصامات ووقفات أمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالرباط، وشكلت لجنة برئاسة شوقي بن أيوب، المحامي والناشط في ميدان حقوق الإنسان، انتقلت بعد الاتصال بوزير العدل إلى السجن محل الاحتجاج (الذي أطلق عليه المغاربة اسم “اوطيطانامو” نسبة الى معتقل غوانتانامو الأمريكي)، والتقت هناك بالمعتقلين وإدارة السجن وأعدّت التقرير، وعلى ضوئه، اتخذ محمد بوزوبع، وزير العدل قرارا بعزل مدير السجن، وفتح تحقيق قضائي.

هذا القرار الذي أثار الكثير من الارتياح، فتح الباب أمام نِـقاش علني واسع حول جدية الدولة المغربية في مسار بناء دولة الحق والقانون وحقوق الإنسان، وإن كان ما أنجِـز في هذا الماضي، يقتصر على طي صفحة الماضي دون التزام بعدم تكراره.

فما عرفته معتقلات البلاد، العلنية والسرية من خروقات لحقوق الإنسان، والتي لم يُـخـفِـها العاهل المغربي الملك محمد السادس في تصريحات لصحيفة “الباييس” الإسبانية في منتصف يناير الماضي، جاءت في وقت قطعت فيه البلاد شوطا واسعا في ميدان تصفية تَـرِكة الماضي من الانتهاكات والخروقات.

فبعد مسلسل الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتقديم تعويضات مادية ومعنوية للضحايا وعائلاتهم، والعمل الجدي في الكشف عن مصير المخطوفين والمختفين، شُـكّـلت “هيئة الإنصاف والمصالحة” كإطار منظم للسير نحو الطي النهائي لصفحة الانتهاكات والخروقات الجسيمة، ونظمت الهيئة، في الوقت الذي كان فيه المعتقلون في سجن “أوطيطا2” يشنّـون إضرابهم عن الطعام، جلسات استماع علنية في الرباط يتحدث فيها ضحايا الانتهاكات عن تعذيبهم، نُـقِـلت مباشرة على شاشة التلفزيون الرسمي وأمواج الإذاعة.

اهتمام إقليمي وعدم ارتياح

في المقابل، فقدت جلسات الاستماع (التي تواصلت يوم السبت الماضي في مدينة فجيج، شرق البلاد)، الكثير من بريقها بعد أن نُـشرت تقارير عن سجن “أوطيطا 2″، وتفاصيل ما كان المعتقلون الإسلاميون يلقونه من تعذيب في أقبية المخابرات، ومراكز الاعتقال السري والعلني.

فقلد لقيت جلسات الاستماع الأولى اهتماما محليا وعربيا ودوليا وُصنفت كخطوة شجاعة من جانب الدولة المغربية، وتعبير عن ثقتها لنفسها، وإشارة إلى رغبتها في مغرب جديد وسط عالم جديد لم يعد يحتمل تغطية الشمس بالغربال وتغييب الحقيقة، لأن تلك السياسات التي كانت تُـمارسها السلطة العربية، وتُـقابل بغض نظر دولي، أدّت إلى انتعاش تيارات متشددة لا تهدد دولها فقط، بل إقليمها، وبعضها العالم بأسره.

ومن المعلوم أن قوى التأثير في العالم الآن باتت تبني تدخّـلها في الشأن الداخلي للدول الأخرى على مرتكز حرصها على الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتعددية والشفافية، كضمان لاستقرار وأمان عالمي.

وإذا كانت هذه القوى قد أبدت ارتياحها وتشجيعها لمسار طي صفحة الماضي بالمغرب، وصمَـتت لشهور على الانتهاكات الجسيمة التي عرفها، لأن الضحايا ينتمون للتيارات الأصولية التي توضع في قوائم الإرهاب، فقد أدرك المسؤولون المغاربة أن ما تعانيه الولايات المتحدة من تورّط في المستنقع العراقي وبهتان شعاراتها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، شجّـع دولا مهمة في الإقليم (فرنسا وإسبانيا) على إعطاء هذه القضية اهتماما خاصا، لأن أمن المغرب واستقراره، جزء من أمن الإقليم الذي تنتمي إليه الدولتان.

لذلك سمعوا من الدولتين إشارات عدم ارتياح لما تضمنته التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية، وعن منظمات حقوقية أخرى بشأن هذه الانتهاكات والخروقات لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب طوال السنتين الماضيتين.

كما أن صمت الولايات المتحدة الآن وغضّـها النظر عن هذه الانتهاكات، لا يعني أنها غير مسجّـلة في ملفات الإدارة الأمريكية، وبالإمكان فتحها في الوقت المناسب أمريكيا.

نقاشات داخلية

على المستوى الداخلي، أثارت تقارير الخروقات والانتهاكات الجديدة، نقاشا كان قد بدأ عند فتح ملفات طي صفحة الماضي، وتحديدا حول محاسبة الجلادين والمسؤولين عن الانتهاكات والخروقات.

وقد جدد الداعون إلى المحاسبة التذكير بموقفهم المتمثل في أن المحاسبة تمثل تحذيرا للمعنيين بعدم التكرار، واستندوا إلى التقارير الجديدة لتأكيد صحة موقفهم، في وقت لازالت السلطات الرسمية المغربية تدرس التوقيع على البروتوكولات الملحقة للاتفاقية الدولية حول تحريم التعذيب.

من جهتها تساءلت مجموعة منابر إعلامية مستقلة، ومنظمات حقوقية عن قادم سوف تُـفتح فيه صفحات الانتهاكات الحالية، وتكرار مشهد طيّـها وجلسات الاستماع والمصالحة والتعويضات للضحايا التي تُـدفع من أموال الدولة والشعب، وذهبت هذه المنابر إلى المطالبة بالحجز على الممتلكات التي حاز عليها الجلادون بدون سند شرعي وقانوني لتعويض ضحاياهم، بدلا من أن تدفع التعويضات من خزينة الدولة.

هذا النقاش الداخلي ، بغض النظر عن سخونته أو برودته أحيانا، يشير إلى وجود من يسعى لدفع عجلة التقدم بالمغرب إلى التوقف، بل والعودة إلى الوراء في ميدان إقامة دولة الحق والقانون وضمان حقوق الإنسان، إلا أنه يقيم الدليل أيضا على أن تقدما حقيقيا عرفه المغرب في هذا الميدان، وعلى أن المجتمع لم يعد يحتمل الصّـمت في عالم أصبح يسمع أنات الضحايا، ويسعى للتجاوب معها.

محمود معروف – الرباط

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية