مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

 اضراب غير مسبوق!

لم يتعود السويسريون على مشاهدة الأطباء العاملين في المستشفيات العامة وهم يتظاهرون في الشوارع لكن "مكره أخاك لا بطل" Keystone

شهدت معظم المدن السويسرية تحركات احتجاجية هادئة نظمها الأطباء الشبان العاملون في المؤسسات الإستشفائية احتجاجا على مقترح تقدمت به الحكومة لمحاولة الحد من الإرتفاع الخطير للتكاليف الصحية.

كيف وصل الأمر بالأطباء الشبان العاملين في المستشفيات السويسرية لاتخاذ قرار بالإضراب عن العمل في بلد لم يعرف هذه الظاهرة بالمرة منذ عدة أعوام ؟ الجواب المفصل عن هذا التساؤل يحتاج لتحبير صفحات عديدة لكن ما حدث يوم الخميس في كل المدن السويسرية تقريبا يمثل تطورا مزعجا بحق.

ففي إطار البحث عن حلول ناجعة وعاجلة لمواجهة الإرتفاع اللولبي في النفقات الصحية، لجأت السيدة روت درايفوس وزيرة الشؤون الداخلية في الحكومة الفدرالية إلى اقتراح إجراء يقضي بتجميد افتتاح عيادات طبية جديدة في سويسرا للسنوات الثلاث المقبلة.

هذا القرار مبرر جدا من الناحية الإقتصادية البحتة. فافتتاح عيادة طبية جديدة يعني طبقا للأرقام الرسمية ارتفاعا مباشرا بخمس مائة ألف فرنك إضافي في حجم نفقات صناديق التأمين الصحي (التي يتأسس عليها نظام الرعاية الصحية في الكونفدرالية) وهو ارتفاع ينعكس بدوره على قيمة الرسوم التي يدفعها شهريا كل مواطن – مهما كان سنه – إلى التأمينات.

لكن هذا المقترح “الثوري” – الذي قوبل بترحيب متفاوت من طرف الحكومات المحلية وصناديق التأمين الصحي– لم يعجب بالمرة لا الأطباء الشبان ولا الأطباء المساعدين العاملين في المستشفيات العمومية ولا طلبة الكليات الطبية الذين قرروا النزول إلى الشارع وشن إضراب رمزي عن العمل يوم الخميس.

“لسنا المسؤولين”!

وبدون الدخول في متاهات تفاصيل الجدل المحتدم بين الأطراف المعنية يجدر التنويه إلى أن ظاهرة الإرتفاع الخطير في التكاليف الصحية تحولت منذ عدة أعوام إلى مأزق اقتصادي واجتماعي مزمن بل إلى مصدر لتوتر سياسي دوري بين الإشتراكيين وبقية شركائهم اليمينيين في الإئتلاف الحكومي.

وقد دفع البحث المستميت عن حلول تساعد على تقليص حجم النفقات إلى إدخال تحويرات متلاحقة على العديد من القوانين بدءأ بفرض سياسة انتقائية صارمة جدا على قبول الطلاب الجدد في الكليات الطبية ومرورا بتشديد المراقبة على أداء الأطباء وتعريفة خدماتهم وانتهاء بتخفيض عدد الأدوية التي تتكفل التأمينات الصحية بتسديد تسعين في المائة من أثمانها للمرضى.

وجاءت المقترحات الحكومية المستعجلة الرامية إلى تجميد افتتاح العيادات الخاصة الجديدة للسنوات الثلاث القادمة لتثير غضب الأطباء الشبان والأطباء المساعدين الذين أوشكوا على آختتام سنوات العمل في المستشفيات بعد أن سدت في وجوههم آفاق الإستقلال والحرية المهنية في مجال عرف منذ عدة قرون بأنه ممارسة حرة أو ليبيرالية!

وقد انتقدت اتحادات الأطباء في مختلف الكانتونات وعلى المستوى الفدرالي بشدة المقترح الحكومي وقالت في بيانات أصدرتها هذا الأسبوع أنه لا وجود لأية دراسة علمية تقيم الدليل على أن تقليص عدد الأطباء الممارسين للمهنة في العيادات أو في المصحات الخاصة سيؤدي آليا إلى تراجع في النفقات الصحية.

كما اتهم الأطباء الشبان السلطات الفدرالية بتحويلهم إلى كبش فداء عن سياسات لا يتحملون أي مسؤولية عنها وقالت رابطة الأطباء العاملين في المؤسسات الإستشفائية في جنيف: “إن هذا الإجراء لا يستهدف سوى زملاءنا الشبان الذين ليسوا مسؤولين بالمرة عن الوضع الحالي للتكاليف الصحية”.

بين المطرقة والسندان

في المقابل تؤكد آخر الإحصائيات التي أنجزت في منتصف التسعينات أنه يوجد طبيب واحد لكل خمس مائة وثلاثة وسبعين ساكن في الكونفدرالية. وهو معدل يرتفع في المدن الكبرى مثل جنيف وبازل ليصل إلى حدود طبيب واحد لكل ثلاثمائة أو أربع مائة شخص بما يبرر إلى حد ما توجه السلطات الفدرالية للحد من الظاهرة.

لكن هذه الأرقام تخفي في طياتها حقيقتين مزعجتين. تتمثل الأولى في أن حوالي عشرين في المائة من الأطباء العاملين في المستشفيات السويسرية من الأجانب أما الثانية فتتمثل في استمرار وجود تفاوت مهم بين المدن الكبرى والمتوسطة والأرياف في هذا المجال.

وهو ما يعني في نظر المراقبين أن تجميد افتتاح المزيد من العيادات الخاصة من طرف الأطباء الذين أتموا دراساتهم والفترة التطبيقية في المستشفيات العامة لثلاثة أعوام كاملة قد يخفض مؤقتا فاتورة التكاليف الصحية لكنه سيؤدي إلى “انسداد” على مستوى المستشفيات نظرا لاستمرار إجراءات تقليص عدد الطلبة المتوجهين للشعب الطبية منذ عام سبعة وتسعين.

كما أن مثل هذا الإجراء المثير للجدل لا يأخذ بعين الإعتبار التكاليف الضخمة التي تحملتها المجموعة الوطنية (من عائلات وبلديات وكانتونات وسلطات فيدرالية) لسنوات طويلة في مجالات التعليم والتكوين في بلد لا يصل فيه إلى الجامعة أكثر من عشرة في المائة من إجمالي تلاميذه.

أخيرا تجدر الإشارة إلى أن هيئات الأطباء المختلفة في سويسرا قد أيدت احتجاجات الأطباء الشبان المعنيين بالمقترح الحكومي وصدرت عنها بيانات وتصريحات فندت العديد من الحجج المقدمة من طرف وزيرة الشؤون الداخلية.

وقد لفت الإنتباه ما جاء في تصريحات ثلاثة من كبار أساتذة الجامعة في جنيف اعتبروا في بيان مشترك أن المقترح “يتعارض مع الدستور السويسري الذي يضمن الحرية الإقتصادية أي حق اختيار وممارسة أي مهنة ليبرالية في أي مكان من البلاد كما يتناقض مع نص وروح الإتفاقيات الثنائية المبرمة مع الإتحاد الأوروبي التي تنص على حرية تنقل الأشخاص بين الطرفين وتسمح للأطباء السويسريين بممارسة مهنتهم في أي بلد من بلدان الإتحاد وللأطباء القادمين من بلدان الإتحاد بالمثل في سويسرا.

ومع نجاح الأطباء الشبان في تجنيد أغلب المعنيين في التحرك الميداني والإعلامي للإحتجاج على مقترح وزيرة الشؤون الداخلية، فان مهمة الحكومة الفدرالية التي ينتظر أن تحسم في الموضوع قبل العطلة الصيفية قد ازدادت تعقيدا بين مطرقة تصاعد التكاليف الصحية واحتجاجات الأطباء.

كمال الضيف – سويس إنفو

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية