مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

 التشخيص الصحيح للمعضلة..

تحديث قواعد ممارسة الحكم وتطوير نوعية العلاقة القائمة بين المواطنين والسلطات في العالم العربي من أهم شروط الإصلاح والتنمية البشرية المستديمة في العالم العربي Keystone

ما هي المعادلة السحرية التي يمكن أن تنشأ بين آليات ممارسة الحكم في العالم العربي وتحرير الطاقات البشرية الكامنة في سكانه وأجياله الشابة بوجه خاص؟ الفصل السابع من تقرير التنمية البشرية في العالم العربي لعام 2002 يقدم إجابة مهمة عن هذا السؤال.

يمكن القول دون مبالغة أن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والصندوق العربي للتنمية الإقتصادية والإجتماعية قد وفقا في اختيار المقاربة العلمية والمنهجية السليمة لمحاولة تشخيص أدواء العالم العربي التي تُعيق إلى حد بعيد نموه السليم وتطوره المستديم.

وبما أنه من المتعذر تلخيص أكثر من مائتي صفحة تمثل حصيلة مكثفة جدا لدراسات علمية عديدة أعدتها نخبة من الخبرات العربية والدولية، يمكن للمرء أن يكتفي بمراجعة أهم ما تضمنه الفصل السابع من التقرير.

هذا الفصل الذي يقع في خمس عشرة صفحة فقط اتجه إلى جوهر الموضوع أي إلى إحدى المحرمات الكبرى في العالم العربي المتمثلة في ما يطلق عليه اصطلاحا بـ”الـحُـكـم” وهو اللفظ-المعنى الذي اختير بعد نقاش مطول من طرف محرري التقرير للحديث عن مفهوم الـ ” The good governance ” الذي أصبح من مستلزمات التمدن البشري في هذا العصر.

يتحدث عنوان الفصل عن تحرير القدرات البشرية ويربط بشكل مباشر بين أسلوب ممارسة الحكم والتنمية البشرية والعالم العربي. وتتوسع مقدمته في استعراض وتبويب التعريفات التي توافق عليها سكان المعمورة من خلال وثائق وهياكل الأمم المتحدة في هذه الحقبة من تاريخ البشر لتحديد مواصفات الحكم الجيد والصالح.

وعلى الرغم من كل السياج المنهجي الذي أحاط به معدو التقرير أنفسهم من خلال الإستناد المتكرر إلى وثائق برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية أو إلى ما جاء في بعض خطب الأمين العام للأمم المتحدة، إلا أن الخلاصات التي توصلوا إليها تثير شفقة القارئ على ما آل إليه حال سكان العالم العربي بعد حوالي نصف قرن من استقلال دولهم، كما أنها ستثير حتما جدلا مكتوم الأصداء في دوائر صنع القرار في العواصم العربية.

تخلف في الأداء

فقد رفض معدو التقرير دفن الرؤوس في الرمال ومراعاة الحساسيات السياسية لأن “نجاح أو فشل أمة في ما تبذله من جهود للنهوض بالنمو البشري أو حتى في صورة محاولتها القيام بذلك مسألة وثيقة الإرتباط بطابع وجودة الحكم فيها” مثلما جاء في المقدمة.

وبما أن مواصفات الحكم تشمل ضمان مشاركة الجميع في اتخاذ القرار والتطبيق النزيه والعادل للقانون والشفافية في إدارة الأمور عبر ضمان حرية انسياب المعلومات ومحاولة التوفيق بين كل الآراء والمصالح وتساوي الفرص والحظوظ بين جميع المواطنين وخضوع أصحاب القرار في الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص للرقابة والمحاسبة – بشكل أو بآخر- من طرف الجمهور وتوفر رؤية استراتيجية بعيدة المدى لضمان تنمية بشرية تراعي الإحتياجات والموارد، فان جرد الحساب العربي في هذا المجال جاء سلبيا جدا.

لا يجب أن يفهم أبدا أن واضعي التقرير حفنة من المعارضين أو من الصائدين في الماء العكر. فقد حرصوا في هذا الفصل المحدود على التذكير كلما سمحت بذلك الوقائع الصلبة بما أُنجز في هذا البلد أو ذاك من إيجابيات من قبيل إشراك للمعارضة في السلطة أو إشراف غير مسبوق للقضاء على العملية الإنتخابية أو بالتغير الذي طرأ في العشريتين الماضيتين على شكل أنظمة الحكم التي خرجت جميعها (باستثناء أربع حالات لم يسمها التقرير) من طور الأنظمة التعبوية.

لكن اعتماد الباحثين لجملة من المقاييس الحسابية المعقدة واللجوء المتكرر للمقارنات الموثقة ببقية بلدان العالم السائرة في طريق النمو في مناطق ما وراء الصحراء في إفريقيا وفي شرق وجنوب شرق آسيا وفي أمريكا اللاتينية سمح بتسليط الأضواء الساطعة على الإختلالات الهائلة التي تعاني منها الأغلبية الساحقة من العرب بسبب ما يعاني منه “الـحُـكـم” في بلدانهم من علل خطيرة.

فالمشاركة السياسية في العالم العربي، بما تشمل من حرية التنظم والتعبير والقدرة على تغيير الحكام عبر صناديق الإقتراع، متخلفة بأشواط عن بقية المناطق السائرة في طريق النمو في العالم.

وعلى الرغم من استمرار العمل بقوانين الطوارئ بشكل أو بآخر في سبع بلدان عربية في عام 2000، يعترف التقرير بوجود استفاقة إيجابية ملحوظة على مستوى منظمات ومؤسسات المجتمع المدني في عدد من البلدان العربية لكن العديد من العقبات الذاتية والبيروقراطية والسياسية لا زالت تعطل مساهمتها الفعلية في ترشيد الحكم أو مجرد مراقبته.

التحدي الحقيقي!

ولعل أكثر النتائج إثارة في هذا المجال ما كشفت عنه محاولة إجراء عملية قياس “حسابية-مادية- ملموسة” لمؤشرات الحكم في البلدان العربية. فالحرية والمؤسسات تشكلان – طبقا لتعريف أورده التقرير – الركائز الحقيقية لأي نمو حقيقي وازدهار اقتصادي. وبما أن المؤسسات تمثل “قواعد اللعبة في مجتمع ما” فان محاولة تحديد جودة أدائها بأقرب ما يكون للموضوعية سيؤدي ربما إلى فهم أسباب الأزمة الهيكلية العميقة التي يعاني منها البشر في العالم العربي.

وبالإستناد إلى “مثال حسابي” وضعه كوفمان و أل (Kaufmann et Al) تم التوصل إلى ابتكار مؤشرات تساعد على تقييم الحكم بناء على عدد هائل من المعطيات التي توصلت إليها ثلاثة عشر هيئة ووكالة دولية تراقب مختلف أوجه نشاط المؤسسات الممارسة للحكم في معظم أنحاء العالم.

وتتلخص هذه المؤشرات في ثلاثة محاور. يتعلق الأول منها بالعملية التي يتم عبرها اختيار الحكام ومراقبتهم واستبدالهم، ويرتبط الثاني بقدرة الحكومة على الصياغة الفعلية وتنفيذ سياسات قائمة على أسس سليمة، أما الثالث فيهتم بمدى احترام المواطنين والدولة للمؤسسات التي تتحكم بالتفاعلات الإقتصادية والإجتماعية.

ومثلما كان متوقعا كشفت نتائج المثال المستعمل لقياس هذه المؤشرات في العالم العربي أن مستوى أداء الدول العربية (منظورا إليها كمجموعة واحدة) يقل عن المعدل العالمي لجميعها باستثناء ما يتعلق بحكم القانون. ومع بعض الإختلافات القائمة هنا وهناك والمرتبطة إلى حد ما بتفاوت معدلات التنمية البشرية بين بلدان المنطقة، إلا أن “الجميع في الهمّ شرق” مثلما يقال.

أما إذا ما أخذت بعين الإعتبار مقاييس الحرية أو الإلتزام الفعلي بالمواثيق الدولية الخاصة باحترام الحقوق الأساسية للبشر، فان مستوى التنمية البشرية لتسعين في المائة من سكان البلدان العربية يتحول إلى “تحد حقيقي” حسبما جاء في التقرير.

قبل فوات الأوان

وفيما ستبدو الخلاصات التي توصل إليها الفصل السابع من التقرير للبعض نوعا من التحامل أو التجني نظرا لما كشفت عنه من تخلف وسوء أداء للمؤسسة الحاكمة في العالم العربي، فانها أشبه ما تكون بالأسطوانة المجرورة لنشطاء حقوق الإنسان ومناضلي الأحزاب السياسية عموما في الأقطار العربية.

إذ يؤكد التقرير أن “مفاتيح الإصلاح المؤسساتي في العالم العربي تستند إلى تطوير وتعزيز التمثيلية السياسية وقدرات الخدمة المدنية وحكم القانون”. ومع الحرص على التذكير بأن إصلاح المؤسسات وأساليب الحكم عملية معقدة وعسيرة إلا أنه يعتبر أن أي عملية إصلاح لن تأتي إلا عبر “التزام قوي ومستديم من جانب الزعامات في ظل تأييد حرّ من جانب الشعوب” وفيما عدى ذلك فانها لن تؤدي إلى النتائج المرجوة منها.

وبناء على كل ما سبق، يرى التقرير أنه “لم يعد بالإمكان تأخير موعد إقامة الدولة التعددية الديموقراطية في عالمنا العربي” وأنه لم يعد متاحا تجاهل الشروط الأساسية للحكم الجيد ممثلة في “استقلال ونجاعة المؤسسات القانونية والقضائية” أو التمادي في إغفال أولوية “تحرير الطاقات البشرية الهائلة في العالم العربي من خلال تمكينها من أوسع الحريات في التعبير والمشاركة والإختيار والتنظم”.

قد يرى معظم الساسة العرب أن الكثير مما جاء في هذا التقرير -الذي بذلت نخبة من المفكرين والخبراء العرب جهودا كبيرة في إعداده – يصب بشكل أو بآخر في خانة الوصاية أو تلقين الدروس لشعوب العالم العربي وقياداته في أعقاب كارثة الحادي عشر من سبتمبر، لكن مثل هذا الكلام تجاوزته الأحداث وعفا عليه الزمن.

فأول تقرير يخصص لما يشبه عملية “غوص علمي” في واقع التنمية البشرية في أقطار العالم العربي يمثل وثيقة هامة، يحتاج الجميع إلى دراستها والتمعن فيها، لأنها جاءت في شكل تلك المرآة التي لا زال العرب – حكاما ومحكومين- يرفضون الوقوف أمامها ليشاهدوا أنهم في مؤخرة الترتيب على مستوى التنمية البشرية وأنهم لا زالوا –في الوقت نفسه- قادرين على الخروج من هذا الوضع البائس .. إذا ما أقدموا جميعا على اتخاذ القرارات التي لا مفر منها.. قبل فوات الأوان!

كمال الضيف – سويس إنفو

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية