مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“انقلابات إسرائيلية” في الهلال الخصيب؟

رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت يصافح العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في القصر الملكي بعمان يوم 8 يونيو 2006 Keystone

ماذا يجري في منطقة "الهلال الخصيب - مصر" هذه الأيام؟ ثمة نظريتان: تقول الأولى، تقول إن هذه المنطقة الشاسعة تمر في مخاض داخلي عسير سببه تفكك بنى الدولة - الأمة على يد قوى العولمة والدمقرطة.

وتذهب الثانية إلى اعتبار كل ما يجري من تفجيرات عنيفة في هذه المنطقة، مجرد انعكاس لجداول أعمال خارجية، أمريكية – إسرائيلية أساساً.

ماذا يجري في منطقة الهلال الخصيب – مصر؟ ثمة نظريتان: الأولى، تقول إن هذه المنطقة الشاسعة، التي تضم إلى إسرائيل ومصر كلاً من العراق والضفة الغربية وغزة ولبنان وسوريا والأردن، تمر في مخاض داخلي عسير سببه تفكك بنى الدولة – الأمة على يد قوى العولمة والدمقرطة. والثانية، تميل إلى اعتبار كل ما يجري من تفجيرات عنيفة في هذه المنطقة، مجرد انعكاس لجداول أعمال خارجية، أمريكية – إسرائيلية أساساً.

أي النظريتين الأقرب إلى الصحة؟

الإثنتان على ما يبدو، مع غلبة واضحة أو حتى كاسحة للثانية. وعلى سبيل المثال، صحيح أن الدولة العراقية انهارت بسبب عجز أنظمتها السابقة البعثية والملكية عن بلورة هوية وطنية عراقية قوية، ثم عن التأقلم مع المتغيرات الكاسحة التي بدأت تفرضها قوى العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989، إلا أن الصحيح أيضاً، أن هذا الانهيار لم يكن محتماً على النحو الذي حدث، لولا التدابير التي اتخذتها سلطات الاحتلال الأمريكي، وقضت بحل الجيش والإدارات والمؤسسات الدولية العراقية، وإحلال السلطات الطائفية والمذهبية والعشائرية مكانها.

وبالمثل، صحيح أن ثمة تناقضات عميقة في المجتمع الفلسطيني، إلا أن الأمور لم تكن لتصل إلى شفا الحرب الأهلية، كما هو الأمر الآن، لولا الضغوط الهائلة التي يبذلها، ولا يزال، الخارج الأوروبي والأمريكي والإسرائيلي على السلطة الفلسطينية التي تقودها “حماس”.

التقاطع إذن موجود بين العوامل الداخلية والخارجية في الهلال الخصيب. بيد أن أي تدقيق عن كثَـب على مُـجريات الأمور، يكشف أن اليد العليا هي للعوامل الخارجية (الإسرائيلية بالدرجة الأولى)، لسببين اثنين: الأول، أن الدولة اليهودية تُـعتبر الركيزة الإستراتيجية الأولى، والأهم للقوة الأعظم الأمريكية في الشرق الأوسط، وبالتالي، فهي قادرة على تكييف وأقلمة سياسات واشنطن إزاء الدول العربية بما يتلاءم مع مصالحها وتوجهاتها.

والثاني، أن هذه الدولة تمتلك إستراتيجية واضحة للتعاطي بشكل جماعي مع الهلال الخصيب ومصر، فيما تفتقد الدول العربية لأي شكل من أشكال الإستراتيجية، سواء الجماعية منها أو الفردية.

هذا الخلل الكبير في الإطلالات الإستراتيجية لكل من العرب والإسرائيليين، هو ما يمنح هؤلاء الأخيرين قدرة كبيرة على التأثير على التمخضات الداخلية في الدول العربية.

كيف؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن أولا وقفة أمام طبيعة الإستراتيجية الإسرائيلية في منطقة الهلال – مصر.

“جيد جداً “

في 12 مايو 2006، أدلى دان ميريدور، وزير المال والشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي السابق، بمداخلة أمام مؤسسة واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، حدّد فيها الإستراتيجية الإسرائيلية للمرحلة المقبلة على النحو الآتي:

1- إسرائيل الآن في وضع إستراتيجي جيد جداً. فمع السلام مع مصر والأردن، ليس هناك تهديد تقليدي لها. لكن ساحة المعركة تتغير مع قيام خصوم هذه الأخيرة، خاصة إيران وحماس وحزب الله، بنقل المعارك إلى مستويات جديدة فوق ساحات المعارك التقليدية: الأسلحة النووية، وتحتها: “الإرهاب”.

2- هناك الآن ثلاث تحديات تواجه تل أبيب:

• تعزيز استقرار حلفائها في السلام: الأردن “الذي هو أهم شريك إقليمي لها” (وفق تعبير الخبراء)، والذي يجب أن يُـؤخذ رأيه في أي تعاطي مع الفلسطينيين، ومصر التي يجب أن تعي إسرائيل الخطر الكامن ضدها والتي تمثله حركة “الإخوان المسلمين” فيها.

• التهديد الإيراني لتل أبيب على الجبهات الثلاث: الأسلحة النووية، “والتهديدات الإرهابية”، التي لا مثيل لها، والخطاب الخطر المتعلق بإزالة الدولة اليهودية من الوجود. ويقول الخبراء، إنه إذا ما سمح لإيران بالحصول على ما تريد، فإنها ستشكل تهديداً لكل ما أقيمت إسرائيل من أجله. وهنا، تعتبر علاقة روسيا مع إيران مصدر قلق كبير لهذه الأخيرة. ثم أن تل أبيب تعتبر نفسها في حال سابق على النفوذ مع إيران في العراق، وهي تمتلك خُـططاً واضحة للتدخل في هذا الأخير، (خاصة في الشمال الكردي) .

• مواجهة التحدي البارز حول كيفية التعاطي مع الفلسطينيين وحول ما يجب عمله على حدود إسرائيل الشرقية.

وفيما يتعلق بالتوجهات الإسرائيلية والأمريكية تجاه لبنان وسوريا، يدعو خبراء إسرائيليون آخرون إلى الآتي (2):

• كيفما تطورت الأمور الراهنة، ليس من مصلحة الولايات المتحدة على المدَيَـين، الطويل والقصير، بقاء لبنان “خاضعاً” لسوريا. يجب أن يستعيد لبنان حريته، ولكن من دون أن يؤثر ذلك على المصالح الشرعية والحيوية لسوريا في لبنان.

• يجب تعزيز المجتمع المدني اللبناني في كل المجالات وبكل الطرق الممكنة، وبناء القوات المسلحة اللبنانية، لا لتكون أداة قمع في يد الدولة، بل كمؤسسة وطنية ومستقلة تتمتع بقدرات أمنية فعالة.

• تشجيع تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل حال توقيع اتفاقية سلام.

• تعديل الموقف الرسمي الأمريكي من اتفاق الطائف، بما يسمح بإدخال تعديلات أساسية تؤدّي إلى لامركزية سياسية وصيغة فدرالية مستندة إلى الطوائف في حقبة ما بعد السلام.

التدخلات

نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: كيف يسمح هذا الخلل في الإطلالات الإستراتيجية لإسرائيل بالتأثير على التمخضات الداخلية العربية الراهنة؟

عبر وسائل عديدة، فالدولة العبرية أساساً، تفيد من غياب أي عمل عربي مشترك للتعاطي مع كل دولة عربية على حدة، الأمر الذي يسهّـل عليها كثيراً، وبسبب الخلل في موازين القوى، التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول.

النموذج الفاقع هنا، هو بالطبع فلسطين. فقد سمح تشتت المواقف العربية، (إضافة إلى خوف الأنظمة العربية من واشنطن) لتل أبيب ببلورة سياسة خنق وحصار ضد السلطة الوطنية بقيادة “حماس”، وأيضاً بتأجيج الصراعات على السلطة بين هذه الأخيرة وبين حركة “فتح”، وهذا تم عبر ما أسماه وزير إسرائيلي “الحمية القسرية” التي فرضتها إسرائيل على الفلسطينيين، والتي تتضمن منع التدخل الدولي لصالحهم، والعمل في الوقت ذاته على تعزيز فريق ضد الآخر بالسلاح والمال، سواء مباشرة أو من خلال بعض الأطراف العربية.

وكما في فلسطين، كذلك في سوريا ولبنان. فقد أفادت تل أبيب إلى حد كبير من خروج السوريين من لبنان ودخول الأمريكيين والفرنسيين مكانهم، ونشطت لإحياء نشاطاتها الإستخباراتية والسياسية فيه. وجاءت عملية الاغتيالات المعقّـدة، جواً وبراً، التي قامت بها مؤخراً شبكة تابعة للمخابرات الإسرائيلية (الموساد) ضد لبنانيين وفلسطينيين في جنوب لبنان، لتكشف عن مدى توغّـل النشاطات الإسرائيلية مجدداً في النسيج اللبناني.

إضافة، وكما تقول مصادر سياسية لبنانية مطلعة، استأنفت تل أبيب تدخلها في السياسات اللبنانية، وهي تعمل بكثافة الآن لتشجيع بعض الأطراف اللبنانية، المسيحية أساساً، كي تطالب بتعديل أو حتى إلغاء اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1989 وقسم السلطة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. الهدف: تقسيم لبنان الفعلي في إطار فدرالي شكلي.

أما التوجهات الإسرائيلية إزاء سوريا، فتقول المصادر ذاتها إنها تراجعت خلال الشهور الستة الأخيرة، (مؤقتاً على الأقل)، عن أولوية تغيير النظام بسبب مخاطر حلول الإخوان المسلمين مكانه، لكنها لم تتراجع عن هدف عزل هذا النظام ومنعه من ممارسة أي دور إقليمي فاعل.

تحرك تل أبيب ضد الدور السوري يتم أساساً عبر القوى الموالية لها في الإدارة والكونغرس الأمريكيين، وهذا ما تفعله إسرائيل أيضاً، ولكن بشكل معكوس في واشنطن مع مصر، إذ كشفت مصادر دبلوماسية عربية مطلعة لسويس انفو عن أن قوى اللوبي اليهودي الأمريكي باشرت منذ الفوز الكبير للإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية الأخيرة حملة واسعة النطاق لإقناع الإدارة الأمريكية بوقف ضغوط الدمقرطة التي تمارسها على النظام المصري، والسماح لهذا الأخير بمعاودة سياسة العصا الغليظة مع الإخوان.

الأمر نفسه تكرر في الحالة الأردنية، ولكن هذه المرة بشكل أكثر وضوحاً بسبب انفجار الخلافات العلنية بين النظام الأردني وبين كل من حركتي الإخوان المسلمين الأردنية والفلسطينية (حماس)، وتتهم هنا مصادر “حماس” في لبنان السلطات الأردنية بالتنسيق مع كل من إسرائيل وحركة “فتح” لشنّ حملة منسقة وشاملة ضد الإخوان في الأردن وغزة. لكن لم يكن في الإمكان تأكيد هذه الاتهامات من مصادر أخرى.

يبقى العراق

فهذه الدولة شهدت بين 2003 (عام الغزو الأمريكي) و2005 تنامياً كبيراً للتدخل الإسرائيلي في شؤونها، ليس فقط في الشمال الكردي الذي تواجدت فيه بشكل كثيف وحدات الموساد، كما أشار إلى ذلك المحقق الصحفي الأمريكي سايمون هيرش، بل أيضاً في الـ 150 شركة أمريكية التي تدفقت على البلاد للاستثمار فيه، وفي الإدارة التي أقامتها قوات الاحتلال لإدارة شؤون البلاد.

هذا النفوذ انحسر نسبياً على الصعيد الأمني بعد العقبات التي واجهتها قوات الاحتلال الأمريكية، لكن ليس على الصعيد السياسي، كما يؤكد هيرش أيضاً، الذي يشير إلى أن تل أبيب لا تزال تنشط لتقسيم العراق إلى ثلاث دول مستقلة، وهذا أيضاً ما أكّـده مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية المتقدمة الإسرائيلي – الأمريكي المشترك.

أين العوامل الداخلية من كل ما يجري في منطقة الهلال – مصر؟ إنها موجودة بالتأكيد. لكن الحجم الهائل لقوة العوامل الخارجية من السيطرة الإستراتيجية الأمريكية المطلقة تقريباً على المنطقة إلى إمساك الغرب بكل أو معظم صنابير السياسة والاقتصاد والثقافة والأمن، يجعل الخلل فاقعاً لصالح العوامل الخارجية على الداخلية.

وهنا تدخل الدولة العبرية على الخط للإفادة من هذا الخلل لإعادة تشكيل الهلال وفق رؤاها ومصالحها.

فهل هذا ما قصده دان ميريدور، حين قال إن وضع إسرائيل الإستراتيجي في هذه المرحلة “جيد جداً”؟ يبدو أن الأمر كذلك.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية