مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“سيناريوهات الطوارئ” الأمريكية في العراق

القوات الأمريكية أثناء مغادرتها مدينة الفلوجة يوم 14 يوليو 2003 Keystone

ما الذي سيفعله الأمريكيون إذا خرجت أعمال العنف المسلح في العراق عن نطاق السيطرة؟ أو إذا ما تجاوز حجم الخسائر البشرية الحد الذي يمكن احتماله في واشنطن؟

هذه التساؤلات لا يُقدّم المسؤولون الأمريكيون إجابة محددة عنها، لكن من المؤكّـد أنه قد تمّ إعداد سيناريوهات طوارئ بدأت بعض ملامحها العامة في الظهور

بعد أن كان مجرد التفكير في هذا الاحتمال من قبيل الرجم بالغيب، أصبح التساؤل مطروحا بجديّـة في الأوساط المختصّـة ووسائل الإعلام. ما الذي سيفعله الأمريكيون إذا خرجت أعمال العنف المسلح في العراق عن نطاق السيطرة؟ أو تزايد حجم الخسائر البشرية عن الحد الذي يمكن احتماله في واشنطن؟

هذه التساؤلات لا تقابلها إجابات محدّدة من طرف المسؤولين الأمريكيين، لكن من المؤكد أن هناك سيناريوهات طوارئ تم إعدادها من طرف القيادتين العسكرية والسياسية، إذ لن يُـسمح بحدوث “سايغون” أخرى في بغداد، بل إن بعض الملامح العامة لعدد من تلك السيناريوهات قد بدأت في الظهور.

وإلى حد الساعة، لم يُـصدر البنتاغون أية إشارة حول وجود ما يسمى عادة بـ “سيناريو الحالة الأسوء” (The worst case scenario). فالسياسة الرسمية الأمريكية بشأن التداعيات المتصورة لتصاعد المقاومة العراقية، والتي أكّـد عليها وزير الخارجية كولن باول عدة مرات، تتلخّـص في أن القوات الأمريكية لن تنسحب من العراق إلا بعد انتهاء مهمتها.

أما تصريحات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد فتقرر “أن الزمن تغيّـر، وأن الوقت الذي كان يمكن فيه أن تتورط أمريكا في مستنقع قد مضى إلى غير رجعة”، فيما يعني ظاهريا أنه لا حاجة للتفكير في سيناريوهات طوارئ.

مشكلة حقيقية؟

لكن، وبالتوازي مع ذلك، بدأت الإدارة الأمريكية في الاعتراف بأن هناك مأزقا حقيقيا في العراق، عبّـر عنه الرئيس بوش بمصطلح “مشكلة أمنية”، إلا أن الأرقام والوقائع والتقديرات التي تتوالى تشير إلى ما هو أكثر حدة من ذلك.

فقد أعلن الجنرال تومي فرانكس أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس، أن القوات الأمريكية تتعرض يوميا لما بين 10 و25 هجوما مسلحا. وأشارت تقديرات رسمية إلى أن تكلفة عمليات القوات الأمريكية في العراق تصل إلى حوالي 4 مليار دولار شهريا.

بل إن معارك حقيقية بدأت تدور بين القوات المحتلة والمقاومة المسلحة، تُـستخدم فيها الدبابات و”الهاونات” لأول مرة، فيما يقدر تومي فرانكس وبعض القيادات الديموقراطية في الولايات المتحدة، وجود بوادر لتـشكّـل حرب عصابات قد تستمـر فترة طويلة.

إن الحل العسكري الأمريكي المباشر لتلك المشكلة هو ما يُـتّـبَـع في الوقت الحالي، من خلال قيام القوات الأمريكية بشن حملات عسكرية على غرار “شبه الجزيرة” و”ثعبان الصحراء”، وشن غارات مستمرة، وملاحقات مكثفة تستهدف العناصر شبه النظامية لمؤسسة صدام حسين، والعناصر المسلحة الأخرى (إسلاميون عراقيون، ومتطوعون عرب وغيرهم) المتمركزة فيما يُـعرف بالمثلث السنّـي، مع تصعيد تلك العمليات للقضاء على المقاومة في ظل مُـحَـدّدين هامين:

الأول، أن ما يتم حاليا يمثل حدود الحل العسكري الأمريكي، فلا توجد تأكيدات حول احتمالات إرسال قوات أمريكية إضافية إلى العراق، أو حسب بعض التقديرات، وجود حاجة لذلك أصلا. فالتهديد العسكري يتّـصل بطبيعة العمليات وليس بحجمها.

الثاني، أن احتمالات الانسحاب “الاضطراري” أو المفاجئ تحت أي ظرف غير مطروحة. فلا يُتصور أن يتم ترك العراق تحت وطأة الهجمات أو بسبب تكلفة العمليات، دون وجود ترتيبات تضمن حدا من استقرار الأوضاع السياسية في البلد.

لكن المعضلة الحقيقية التي تواجه أصحاب القرار، تتصل باحتمالات وقوع تطورات حادة تؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى مرة واحدة كما حدث في لبنان عام 1982، أو تؤدي إلى التأثير على الروح المعنوية كما حدث في الصومال عام 1993.

فهناك مؤشرات بأن الرأي العام الأمريكي قد بدأ يتململ من جراء “النعوش الطائرة”، التي يعتبرها 52% من الأمريكيين غير مقبولة، لكن دون أن يصل ذلك إلى حدّ الاهتمام المركّـز بما يدور على بُـعد 10 الالاف من الأميال من الولايات المتحدة.

لكن هذا لا يمنع من أن تؤدي وقائع كالمُـشار إليها، إلى تحولات كبيرة في توجهاته على نحو يضغط على الإدارة المقبلة على انتخابات رئاسية في ظل تربص واضح من جانب الديموقراطيين بها باتجاه التفكير فيما لا ترغب في التفكير فيه حاليا.

أربعة سيناريوهات

ويُـمكن القول من خلال متابعة تصريحات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أن الإطار العام للحل (أو الحلول) يتلخّـص في إعادة تقييم السياسة الأمريكية المتبعة في العراق باتجاه عدم الوصول أصلا إلى أوضاع تطرح تلك الاحتمالات السيئة من خلال وضع سيناريوهات مختلفة تضمن عدم اتساع أعمال القتال، أو تقليل الخسائر الأمريكية، أو تحمل أطراف أخرى (عربية وأوروبية وأطلسية) جزءً من “المشكلة الأمنية”، مع تقليص الطموحات التي طالما تم الحديث في إطارها عن “النموذج العراقي” الذي قد يبدو وقتها مستعصيا على الإنجاز.

لقد أوضحت تطورات “عملية العراق” حتى الآن، أن الولايات المتحدة على استعداد بالفعل لتحمل ثمن كبير، بشريا وماديا، في سبيل تنفيذ “سياستها” المنفردة المقررة سلفا في العراق، دون تدخلات أو تأثيرات. لكن يبدو أن عمليات العنف المسلح الحادة، وكذلك المقاومة المدنية العنيدة، قد دخلت في تماسّ مع مستويات من “السقف” الذي حددته الإدارة الأمريكية لما يمكن أن تحتمله في العراق، على نحو أدى إلى تبلور تحركات ونقاشات ترتبط من بعيد بسيناريوهات طوارئ أو يمكن أن تندفع في اتجاهها وقت الضرورة دون أن تكون كذلك بالضبط حتى الآن وأهمها:

– سيناريو الفلوجة: ويرتبط بانسحاب القوات الأمريكية خارج المدن والتجمعات السكانية، بشكل تدريجي، على غرار ما حدث في الفلوجة تحت ضغط العمليات المسلحة واحتجاجات الشرطة، مع منح إدارتها لمجالس محلية لا يتم التدقيق كثيرا في خلفياتها، وترك مهام حفظ الأمن فيها لوحدات الشرطة التي تم تشكيلها، والإسراع في خطوات إقامة حكومة مستقلة لدولة ذات سيادة وجيش محدود (مؤقتا) في العراق. وفي ظل هذا السيناريو، الذي تطالب به سبعة أحزاب عراقية على الأقل، قد تعود التصورات الخاصة بإقامة عدة قواعد عسكرية رئيسية دائمة في العراق، بل إن نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوفيتز أعلن يوم 21 يوليو في أربيل عن سعي الولايات المتحدة إلى “عقد معاهدة دفاع مشترك مع الحكومة العراقية القادمة”!

– سيناريو الناتو: ويستند على قيام الإدارة الأمريكية بالطلب رسميا من حلف شمال الأطلسي تشكيل قوة مسلحة لنشرها في العراق، على غرار القوة التي شُـكّـلت في كوسوفو والبوسنة والهرسك وأفغانستان، وهو مطلب توصية الديموقراطيين التي تمت المصادقة عليها من طرف مجلس الشيوخ الأمريكي. ويعتمد هذا التصور على تدخل قوة قتالية نظامية في العراق تحت قيادة أمريكية على نحو يحقق المهام العملية القائمة مع تخفيف الضغط على القوة الأمريكية بمستوى يسمح بسحب بعض وحداتها دون مشاكل.

– سيناريو “قوة متعددة الجنسيات ومراقبين” أو MFO: ويعتمد هذا السيناريو، الذي بدأت عملية واسعة لتطبيقه فعليا بمشاركة دول مثل إسبانيا وإيطاليا وأستراليا على تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات يتم نشرها في القطاعات المختلفة التي تسيطر عليها القوات الأمريكية أو البريطانية أو القوة البولندية، للقيام بمهام حفظ الأمن و”إعادة الإعمار”، بالتفاهم مع الدول التي ستشارك فيها بقوات كبيرة حول مناطق الانتشار وهياكل القيادة وطبيعة المهام، إضافة إلى توفير الغطاء القانوني الدولي لعمل تلك القوات، وهو ما يُـفسّـر ربما عودة المسؤولين الأمريكيين للحديث عن استعدادهم للقبول بدور أكبر للأمم المتحدة في العراق.

– سيناريو العرب: ويرتبط بتصورات تبلورت في واشنطن قبل بداية الحرب بشأن أدوار هامة يمكن أن تقوم بها قوات عربية باعتبارها الأكثر ملاءمة لطبيعة العراق، في المرحلة التالية لاحتلال البلاد. ومع أن هذا لم يحدث، إلا أن هناك تحركات أمريكية واسعة النطاق جرت في الفترة القصيرة الماضية باتجاه القاهرة والرياض، وترتبط في الأساس بتفاهمات سياسية، لكنها قد تُمهّـد لتطور الأمور في اتجاه دور عسكري عربي في عراق ما بعد الحرب، ربما يسهم في حل مشكلات معقدة.

لا زال الوقت مُـبكّـرا

والواقع، كما يوضح ما سبق، هو أن هناك تحركات عملية أو نقاشات سياسية تتم في كل الاتجاهات السابقة، بدرجة أو بأخرى، خاصة فيما يتعلق بالانسحاب خارج المدن وتشكيل قوة متعددة الجنسيات، لكنها كلها تتم في إطار ضغط الواقع العنيف أو تقليص الخسائر البشرية لمنع تفاقم “المشكلة الأمنية” أو استكشاف الخيارات التي يمكن التعامل معها في حالة تفاقمها.

إلا أن مجمل هذه التحركات لم تصل بعدُ إلى حد تشكيل بدائل حقيقية في إطار سيناريوهات طوارئ محتملة. ففي هذه اللحظة، لا زال الوقت مبكرا للحديث عن “مستنقع” يدفع في اتجاه التفكير في خروج القوات الأمريكية من العراق.

د. محمد عبد السلام – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية