مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سويسرا تقود أبحاثاً تسهم في الكشف عن حقائق جديدة حول تلوث الهواء

aerosol pollution
حريق مشتعل في مدفأة شقة في منطقة بيلب في كانتون برن، سويسرا، تم تصويره في 29 يناير 2009. Keystone / Xavier Gehrig

بدأ العلماء للتو في إدراك وفهم كيفية تأثير الجُسيمات الدقيقة في الهواء، والمعروفة باسم الهباء الجوي أو الإيروسول، على المناخ والصحة العامة. ولقد تم إحراز هذا التقدّم في الأبحاث بفضل محطات المراقبة الطويلة المدى التي أنشئت في سويسرا، وكذلك تضافر جهود 13 دولة أوروبية ساهمت في تحديد نطاق مشكلة التلوث.

بعد ظهر أحد الأيام الحارقة من شهر يوليو، تقف مقطورة متنقلة بيضاء اللون بجوار حديقة تشبه المتاهة في دهاليزها وممرّاتها تقع في قلب مدينة زيورخ وتُعرف باسم لابيرانت بلاتز  “Labyrinthplatz”. وعلى الرغم من أن المقطورة تبدو كأي مقطورة عادية من الخارج، إلا أن داخلها يحتوي على معدات عالية الحساسية لمراقبة الجسيمات الصغيرة في الهواء.

ولا تفصل حديقة لابيرانت بلاتز  “Labyrinthplatz” عن محطة القطار الرئيسية في زيورخ والعديد من محطات الحافلات إلا مسافة قريبة، كما تحيط بها عشرات المطاعم والحانات والمتاجر والمباني السكنية. وفي هذه المنطقة تحديداً تبقى الجسيمات القادمة من مواقد القلي، وحفلات الشواء، والسجائر، وانبعاثات السيارات، وحبوب اللقاح معلقة في الهواء لفترة طويلة.

يقول جانغ تشين، الذي يقوم بإعداد أطروحة دكتوراه في معهد بول شيريررابط خارجي  الواقع في ضواحي زيورخ: “هذا هو بالضبط نوع الموقع المثالي الذي نطمح إليه نحن مستكشفو الهباء الجوي في إجراء بحوثنا”.

ومن خلال تقييم مكونات الهباء الجوي التي تم جمعها في 22 محطة مراقبة مثل هذه، تمكّن معهد بول شيرير و70 جهة دولية متعاونة، من تحديد مصادر التلوث البشرية والطبيعية الرئيسية. وتم نشر النتائج التي تم التوصل إليها في هذا المجال في مجلة البيئة الدوليةرابط خارجي في شهر أغسطس 2022.

monitoring station in ZH
باحثان من معهد بول شيرير يجمعان مكونات الهباء الجوي في 22 محطة مراقبة ، بما في ذلك هذه المحطة في زيورخ. swissinfo.ch

مصدر قلق للصحة العامة

منذ جائحة كوفيد-19، أصبح مصطلح “الهباء الجوي” – وهو جسيم يتراوح قطره بين 0.01 و10 ميكرون – مألوفاً لعامة الناس. وبإمكان هذه الجسيمات المعلقة أن تتسبب بالعديد من أمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية المزمنة والحادة، بما في ذلك الربو والتهاب الشعب الهوائية وسرطان الرئة.

اعتاد العلماء والمهنيون الطبيون على الاعتقاد بأن مثل هذه المشاكل الصحية يمكن تجنبها ببساطة عن طريق تقليل تركيز الهباء الجوي العضوي الموجود في الهواء الذي نتنفّسه. لكن في عام 2020، أفاد باحثون من معهد بول شيرير في مجلة الطبيعة “Natureرابط خارجي” أن تأثيرات الهباء الجوي تعتمد بنسبة قليلة على أعداد الجسيمات المشكّلة له وبالتالي على تركيزه،  فيما تعتمد بنسبة كبيرة على المصدر الفردي للتلوث ودرجة سُمّيته وكيفية دخوله إلى جسم الإنسان. 

تُظهر الصورة أسفله تبايناً حاداً بين قطر جسيمات الهباء الجوي من ناحية، وبين حجم الجسيمات الأخرى المختلفة، وقطر الطلع أو حبوب اللقاح ورأس الإبرة والشعرة من ناحية أخرى.  ويرمز إلى الجسيمات المعلّقة أو ما يعرف بالهباء الجوّي بحرفيْ PM، وهو اختصار “Particulate Matter”. وتمثل القيمة بعد “PM” حجم قطر الجسيم، الذي يقاس عموماً بالميكرونات. وكلما زادت القيمة، زاد حجم الجسيم. 

رسم بياني عن الهباء الجوي
swissinfo.ch

ترتيب المدن الأوروبية

يقول تشين: “أخشى ألا يجرؤ أي باحث على ادّعاء الفهم الواضح لمصادر الهباء الجوي العضوي والإلمام بها”. ويعتبر أنه بالرغم من انتشار 22 محطة مراقبة في جميع أنحاء أوروبا، فإن تتبع مصادر الهباء الجوي العضوي ليس بالأمر السهل، لأن تركيز هذا الهباء وتركيباته تتغيّر باستمرار. “يمكننا تخيلها كقطعة موسيقية. ما نريد القيام به هو إنشاء نموذج يمكن بواسطته تحطيم هذه القطعة الموسيقية، حتى نعرف الآلات التي تم استخدامها لتشغيل الموسيقى في كل ثانية وعدد الديسيبل الذي تصدره كل آلة”. (في هذا النموذج، تمثل الآلات مصادر تلوث الهباء الجوي العضوي، ويشكل الديسيبل الناتج عنها التركيب الكيميائي للهباء الجوي وتركيزات كل منهما).

وللحصول على مزيد من الأفكار، أرسل معهد بول شيرير طلبات للحصول على بيانات إلى 46 مرصداً موجوداً في أوروبا، وتلقى ردوداً من تسع محطات رصد غير حضرية و13 محطة مراقبة حضرية. وتم القيام بتحليل بيانات ملوثات الهباء الجوي المحلية التي تم جمعها في هذه المحطات بين عامي 2013 و2019 لمعرفة نوعية الهباء الجوي الذي كان موجوداً في الهواء، وكيفية اختلاف طبيعته عبر الأيام والشهور والفصول.

النتائج التي تم الحصول عليها لم تكن مثيرة للدهشة حيث كان من المتوقّع أن تظهر تركيزات أعلى للهباء الجوّي في المناطق الحضرية؛ حيث بيّنت هذه النتائج أن كراكوف، ثاني أكبر مدينة في بولندا، هي الأكثر تلوّثاً (40.4 ميكروغرام / متر مكعب)، بينما اعتُبِرَت قرية بيركينز في النرويج الأقل تلوّثاً (1.3 ميكروغرام / متر مكعب).

محتويات خارجية
محتويات خارجية

الملوّثات الناتجة عن مصادر التدفئة

لكن الباحثين توصّلوا أيضاً إلى نتيجة مفادها أنه على الرغم من اختلاف مكوّنات الهباء الجوي العضوي عبر المواقع التي شملتها الأبحاث، فإن أهم مصدر للتلوث يٌشبه في مكوّناته هذا الهباء وبشكل ملفت للنظر هو: التدفئة المنزلية باستخدام المواد الصلبة القابلة للاحتراق. ووفقاً لتشن، فإن المناطق التي لا تزال تعتمد على جذوع الأشجار الخشبية، أو الكريات الخشبية ،أو الفحم، أو الجفت للتدفئة المنزلية – كما هو الحال في رومانيا وجبال الألب السويسرية – هي عموماً، من بين أكثر المناطق تلوّثاً بالهباء الجوي. وعلى عكس محطات الطاقة، التي لديها لوائح وأنظمة تصفية ملوثات صارمة، فإن انبعاثات التدفئة المنزلية في جميع أنحاء أوروبا تخضع لضوابط تنظيمية أقل صرامة.

على الرغم من أن سويسرا لا تحدد الحد الأقصى من المواد القابلة للاحتراق الصلبة المستخدمة للتدفئة السكنية لكل أسرة إلا أنها أصبحت تدرك هذه المشكلة بشكل متزايد واتخذت تدابير من المصادر بما في ذلك التحكم في جودة الوقود وتشغيل معدات التدفئة  وارتفاع المداخن وغيرها.

في تصريحات لــ SWI swissinfo.ch، يقول لارس هوليغر، مسؤول المعلومات في المكتب الفدرالي السويسري للبيئة، إنه منذ اعتماد اللوائح الجديدةرابط خارجي لمنشآت حرق الأخشاب الصغيرة في عام 2018، أصبح من المتوجّب أن تُلبي أنظمة تدفئة الأمكنة المحلية التي تعمل بالحطب، المعايير الأوروبية للانبعاثات المتعلقة بالتصميم البيئي، عند طرحها في السوق. كما أصبح من المتوجّب أيضاً حصر تشغيل هذه الأنظمة مع ما يتناسب مع آلية استخدامها من المواد القابلة للاحتراق وفحصها ومعاينتها بانتظام. ونادراً ما يتم استخدام الفحم كمادة احتراق في منشآت التدفئة هذه في سويسرا، كما لا يُسمح باستخدام الجفت على الإطلاق.

ويضيف هوليغر قائلاً: “إن تكنولوجيا أنظمة التدفئة في تطّور مستمر، ومن المتوقّع أن يتم النظر خلال السنوات القليلة المقبلة، في تجديد التعديلات على لوائح هذه الأنظمة ومعاييرها”.

وسائل المواصلات وكل المصادر الأخرى

تُعتبر وسائل المواصلات المصدر الرئيسي الثاني لتلوث الهباء الجوي. وعلى الرغم من أن انبعاثات السيارات كانت تخضع في أوروبا لتنظيم دقيق وصارم منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أن أي دولة من الدول المعنية لم تفرض حتى اليوم أي قيود على التلوث الناجم عن الانبعاثات غير العادمة الناتجة عن تآكل الإطارات ومكابح السيارات، أو عن تآكل الطرقات وأتربتها وغبارها.

ويعتقد ستيوارت غرانج، وهو باحث ما بعد الدكتوراه، يعمل في المختبرات الفدرالية السويسرية لعلوم وتكنولوجيا الموادرابط خارجي ” (اختصارا EMPA) ويقوم بجمع عينات الانبعاثات غير العادمة ودراستها، أن البلدان تواجه صعوبة في التحكّم في مثل هذه الانبعاثات لأن الحلول التكنولوجية لاحتجازها أو التحكم فيها غير متوفرّة حتى اليوم في الأسواق. لكنه يشير إلى أن تركيز أبحاث تلوّث الهواء ينصبّ بشكل متزايد على معالجة مصادر التلوّث الأكثر انتشاراً والتي يصعب إدارتها، وليس على الانبعاثات التقليدية.

ويُعتَبَر معهد بول شيرير والجهات المتعاونة معه، جزءاً من هذا الاتجاه البحثي؛ حيث تم أيضاً تطوير بروتوكول موحّد المعايير يحدد مصادر الهباء الجوي. ويرى لوكاس دوردينا، الخبير في قياس الهباء الجوي والذي يعمل في جامعة زيورخ للعلوم التطبيقية، ولم يشارك في دراسة معهد بول شيرير، إن هذا البروتوكول الموحّد سيكون مفيداً للباحثين الآخرين لأنه “بناءً على آليات المعايرة والقياس، يمكن لجهاز القياس نفسه أن يعطيك إجابات متباينة تماماً، والمقارنة النسبية غير مؤكدة النتائج بشكل قاطع”.

في نهاية عام 2021، قامت منظمة الصحة العالمية بمراجعة إرشادات جودة الهواء الصادرة عنها بشأن تلوث الهباء الجويرابط خارجي، مشيرة إلى أن الكمية الإجمالية لجُسيمات الهباء الجوي التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرو متر يجب ألا تتجاوز خمسة ميكروغرام لكل متر مكعب من الهواء، بينما كانت الإرشادات السابقة الخاصة بالمنظّمة قد حدّدت الحد الأعلى لهذه القيمة عند 10 ميكروغرام لكل متر مكعب.

وفي الوقت الذي يتفق فيه الباحثون على أن الحد الأعلى الذي تبنته منظمة الصحة العالمية، يشجّع على العمل من أجل خفض معدلات تلوث الهباء الجوي، إلاّ أنهم يعتقدون أنه، وبدلاً من ذلك، يجب التركيز على مصادر الجُسيمات وتكوينها الكيميائي. وفي هذا الإطار يقول دوردينا: “إذا افترضنا وجود خمسة ميكرو غرامات من الهباء الجوي، ناتجة أساساً عن انبعاثات أملاح البحر، فلن يكون هناك أي تأثير سلبي على الصحة العامة على الإطلاق”.

أما تشين فيقول: “آمل حقاً أن تتبنّى منظمة الصحة العالمية يوماً ما، استخدام البروتوكول الذي طوّرناه، لتحديد مصادر تلوث الجسيمات وآثارها السيئة على الصحة العامة”.

 تحرير: سابينا فايس

ترجمة: جيلان ندى

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية