The Swiss voice in the world since 1935
أهم الأخبار
النشرة الإخبارية
أهم الأخبار
نقاشات
أهم الأخبار
النشرة الإخبارية

“أبيرتوس” السويسري والتحيّز اللغوي في الذكاء الاصطناعي

كلاوديا فاكاروني

في سويسرا، كشف إطلاق نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد، “أبيرتوس”، عن شكل آخر من أشكال التحيّز، التحيّز اللغوي. فحتى لاحقة لاتينية بسيطة، قد تحمل أوزانًا ثقافية تراكمت عبر قرون، كما توضّح الباحثة المتخصصة في التواصل الشامل، كلوديا فاكّاروني.

خطت سويسرا خطوة جريئة في عالم الذكاء الاصطناعي. إذ أطلق المعهدان التقنيان الفدراليان في لوزان (EPFL) وزيورخ (ETH Zurich)، والمركز الوطني السويسري للحوسبة الفائقة (CSCS)، نموذج “أبيرتوسرابط خارجي“، وهو أول نموذج لغوي واسع النطاق في البلاد، ومفتوح المصدر بالكامل؛ أي يمكن للعامة الاطلاع على شيفرته، وبياناته، ومناهج تدريبه، وتطويره.

كما يتفرَّد “أبيرتوس” بتعدد لغوي مدمج في بنيته، منذ تصميمه. فقد خضع لتدريب استند إلى 15 تريليون وحدة نصية، شملت كلمات أو مقاطع. وغطَّت هذه المدخلات أكثر من ألف لغة حيّة، من أصل نحو سبعة آلاف لغة منطوقة عالميًا. والمثير، أنّ نحو 40% من مصادره ليست إنكليزية، ما أتاح إدماج لغات غالبًا ما تتجاهلها النماذج اللغوية الضخمة، مثل الألمانية السويسرية، والرومانشية، إحدى اللغات الوطنية الأربع في سويسرا، إلى جانب لغات أخرى نادرة ومتنوعة.

ومن منظور التنوّع الثقافي، تعتبر هذه الميزة ميزةً بالغة الأهمية. فما تزال معظم شركات تطوير النماذج اللغوية الكبرى، تدرّب نماذجها على النصوص الإنجليزية وحدها. ويعود السبب إلى فيضان المحتوى الإنجليزي على شبكة الإنترنت مقارنة بأي لغة أخرى، وإلى تمركز كبرى شركات الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث تبني هذه الشركات النماذج للأسواق الناطقة بالإنجليزية، في المقام الأوّل.

ولكن كلفة هذه المقاربة باهظة، بحسب تقرير مركز الديمقراطية والتكنولوجيا رابط خارجيبعنوان “المعنى المفقود في الترجمة” (Lost in Translation)رابط خارجي . فوفقًا للتقرير، تنقل النماذج المدرَّبة على نصوص إنكليزية، القيم والافتراضات المضمَّنة فيها إلى سياقات لغوية أخرى، حتى لو بدت غريبة أو غير ملائمة. فمثلًا، يتعلّم النموذج من الإنجليزية أن كلمة “dove” (أي طائر الحمام) تعني رمزًا للسلام. وهكذا، يفترض أن الحمامة ترمز للسلام في كل اللغات، رغم أن الباسكية تستخدم كلمة “أوزو” (uso) بمعنى إهانة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام اللغات محدودة المحتوى في برامج مبنية على النماذج اللغوية الضخمة، يزيد احتمال شيفرة “أبيرتوس”، وبياناته، ومنهجيته مطروحة على الملأ، ومتاحة للجميعالهلوسات”، أي المخرجات غير الدقيقة والمختلقة. كما يزيد أيضًا يزداد خطر إنتاج انحيازات لغوية إضافية. وهنا، يكمن تهديد حقيقي بحدوث “تسطيح لغوي” يذيب الفوارق ويمحو التنوع، إذا لم تُدرج اللغات الأصغر عمدًا في التدريب والتطوير. لهذا السبب تحديدًا، تكتسب المشاريع المصمَّمة لإعطاء الأولوية للتنوّع اللغوي، مثل مشروع “بلوم” (BLOOM)رابط خارجي ونموذج “أبيرتوس”، أهمية بالغة، إذ إنها تسعى إلى حماية هذا التنوّع، ومنحه مكانه الطبيعي في فضاء الذكاء الاصطناعي.

النحو اللاتيني والتحيّز الحديث

تعني كلمة “أبيرتوس” (Apertus) في اللاتينية، “مفتوح”. وهي في الظاهر، تسمية مثالية لأداة تهدف إلى تجسيد مبدأ الشفافية المطلقة. فخلافًا لمعظم النماذج التجارية في الذكاء الاصطناعي، فإن شيفرة “أبيرتوس”، وبياناته، ومنهجيته مطروحة على الملأ، ومتاحة للجميع. 

علاوة على ذلك، يمنح اختيار هذا الاسم اللاتيني طابعًا أكاديميًا خالدًا، يرتبط بجذور العلم الكلاسيكي. ويتماشى هذا الاختيار مع مكانة المؤسسات السويسريّة المرموقة التي ابتكرته، المعهدان التقنيان الفدراليان العاليان في لوزان وزيورخ، والمركز الوطني السويسري للحوسبة الفائقة. كما يوحي هذا الاختيار بفكرة السيادة الرقمية، أي قدرة دولة أو مؤسسة على التحكم بأدواتها التقنية، دون الارتهان الكامل لشركات أو قوى أجنبية. وفي الآن ذاته، يجسّد معنى الإتاحة، والانفتاح في مجال الذكاء الاصطناعي.

مع ذلك، يكشف جوهر الاسم محورًا آخر يستحق التوقّف عنده، إن كنا نتبنّى مفهوم الانفتاح بجدية حقًّا. لا بمعنى إتاحة الشيفرة وحسب، بل بمعنى مساءلة البنى العميقة، حاكمة اللغة ذاتها.

إذ تقتضي اللاتينية انتهاء الأسماء، والصفات بلواحق تحدّد جنسها “أبيرتا” (Aperta) للمؤنث، و”أبيرتوم” (Apertum) للجنس المحايد، و”أبيرتوس” (Apertus) للمذكّر.

ومن هنا، يظهر مجيئ النموذج السويسري بصيغة المذكّر. ورغم تسجيل المعاجم هذه الصيغة باعتبارها الصيغة “المعيارية”، فهي بعيدة عن الحياد. إذ تعكس تقليدًا أوروبيًا عريقًا تجذّر في صميم الممارسة اللغوية والأدبية، يقوم على اعتبار المذكّر هو العام. وقد استقر هذا التقليد في أنماط التفكير اليومي، حتى لم نعد نلحظه. لكنه بمرور الزمن، همّش المؤنث، ويكفي تأمّلنا مهنًا لا تزال متداولة حصرًا بصيغتها المذكّرة، كما كرّس تراتبية أبوية وضعت المذكّر في مرتبة أسمى.

وفي الواقع، أثبتت أبحاث لسانية اجتماعيةرابط خارجي حديثة وموثوقة أنّ الدماغ البشري لا يتعامل مع صيغة “المذكّر” كصيغة حيادية، بل يفسّرها حرفيًا.

ولهذا، انشغلت حركات اللغة الشاملة في العقود الأخيرة بفضح هذا الإرث اللغوي، وتفكيكه. ودعت إلى التخلّي عن هيمنة صيغة المذكّر، واعتماد صيغ محايدة قادرة على تمثيل الجميع، بإنصاف وعدل.

حين يصبح الاسم مرآةً للتحيّز

لا ينبغي النظر إلى اختيار صيغة المذكر “أبيرتوس” كخطأ مباشر، بل كتجسيد لشيفرة لغوية تضع المذكر في قمة الهرم. ففي الوسط العلمي تحديدًا، يتقدَّم المذكّر كقاعدة عامة، فيما تكون صيغ المؤنث والمحايد استثناءات. ويعكس هذا الاختيار عادة لغوية أوسع ترى في صيغة المذكّر الشكل الطبيعي، والافتراضي. لكن ليست هذه العادة محايدة، بل تمثل أحد أشكال التحيّز المتأصّل في اللغة.

وبذلك، ضاعت فرصة لتمديد مبدأ الشمول الجنسي إلى اسم هذه الأداة الرائدة، الساعية إلى تحقيق الشمول اللغوي. كما جرى تفويت الاعتراف بالقوة العميقة، التي تمارسها اللغة في تشكيل تصوّراتنا الجمعية.

ولعل اختيار صيغة المذكّر في “أبيرتوس” يبدو متماشيًا مع جنس كلمة “نموذج” في لغات أوروبية عديدة، مثل الفرنسية (le modèle)، والإيطالية (il modello)، والألمانية (das Modell). لكن يقرأ اللسان المتمرّس باللغات الكلاسيكية الأوروبية في الكلمة أكثر من مجرد جنس نحوي، بل نمطًا من الاختيارات اللغوية يكشف عن تحيّز اجتماعي راسخ.

وهنا، يلحّ السؤال، لا بدافع الفضول، بل بدافع البحث الجاد: كيف جرى اختيار هذا الاسم؟ هل كان ثمرة تفكير بشري، أم اقتراحًا قدّمته إحدى النماذج اللغوية؟ أيمكن أن يكون “أبيرتوس” قد أطلق على نفسه هذا الاسم؟

وبحثًا عن الإجابة، سألتُ نموذجين لغويين؛ “تشات جي بي تي”، و”جيميني” عن رأييهما. وقد أشاد كلاهما بأناقة الكلمة اللاتينية، وصفاء مقصدها. لكن اختلف موقفاهما حين طرحت مسألة الدلالات الجندرية. فقد أقرّ “تشات جي بي تي” بوجود تحيّز “دقيق ومنهجي”. أمَّا “جيميني”، فرفض بدايةً اعتبار القضية ذات صلة، محتجًا بأنّ “أبيرتوس” “مجرد اسم”، وأنّ الغالبية لا تعرف اللاتينية. لكنه ما لبث أن اعترف، بعد إلحاح، بأنّ اعتماد صيغة المذكّر كافتراضية، قد يرسّخ أعرافًا إقصائية.

ولكن هذا ليس تفصيلًا ثانويًا، بل جزء من منظومة أوسع. فالعالم التقني مثقل بتاريخ طويل من اختلال التوازن الجندري. وهكذا، يغدو لاسم مثل “أبيرتوس” أثر خفي يعزّز فكرة أنّ التكنولوجيا ميدان ذكوري. ومع أنها إشارة صغيرة، فإنها لبنة إضافية في بناء سردية أشمل، تجعل الرجال هم الخالقون والمستخدمون الأوائل في هذا المجال.

مقاربة حيادية جندريًا ومرتكزة على حقوق الإنسان

ولو حمل النموذج اسمًا حياديًا لا يُحيل إلى جنس بعينه، ومستوحى من مقاربة قائمة على حقوق الإنسان، لكان وقعه مختلفًا. وكان اسم “أبيرتا” (Aperta) ليجسّد الانفتاح، لا بمعنى الكشف وحسب، بل بمعنى الترحيب، والشمولية، والإنسانية. أمَّا اسم “أبيرتوم” (Apertum)، فكان ليُبرز الحياد والتجريد، منسجمًا مع تقليد الحياد الذي طالما ميّز سويسرا.

وهكذا، يبرز أحد أعظم المخاطر في مجال الذكاء الاصطناعي، فقد يُعيد إنتاج أوجه اللامساواة المتجذّرة في المجتمعات، والمؤسسات المشيِّدة له. فلا يكمن التحيّز في الخوارزميات أو قواعد البيانات وحدها، بل يسكن اللغة ذاتها، في بنيتها، ومعانيها الموروثة.

ويفتح الإقرار بهذه الحقيقة، مقرونًا بالتفكير الواعي في كيفية استخدامنا للغة، فرصة نادرة أمامنا، لرسم مسار مختلف. عندها، يمكن لـ”أبيرتوس” تجاوز أنّه أداة تقنية، ليغدو مرآة تعكس المسلّمات العميقة في مجتمعنا، وعدسة نفحص من خلالها ما ظنناه بديهيًا.

في نهاية المطاف، ليس الانفتاح مجرد شفافية تقنية تُقاس بمدى توفّر الشيفرة المصدرية، بل هو شجاعة مساءلة القواعد التي تجعل نصف البشرية غائبًا عن المشهد. وهنا، تملك سويسرا فرصة تاريخية لتُثبت أنّ الابتكار الحقّ لا يقتصر على فتح الشيفرات أمام العقول، بل على فتح العقول ذاتها أمام أفق أوسع.

تحرير: فرجيني مانغن

ترجمة: جيلان ندا

مراجعة: ريم حسونة

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية