“بي بي سي” تثير جدلا في بريطانيا وسط مشهد استقطاب سياسي وإعلامي حاد
تشهد المملكة المتحدة نقاشا محتدما في شأن دور هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” ومهامها وسط مشهد استقطاب متزايد، إذ يتهمها البعض بالتحيز، فيما يدافع عنها آخرون مشددين على كونها عنصرا أساسيا في مكافحة التضليل الإعلامي.
واثارت مسألة الكشف عن توليف “بي بي سي” المضّلَِل لأحد خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب سخط ساندرا مادن المقيمة في منطقة أكسبريدج غرب لندن. وتقول “لا أريد التخلص من +بي بي سي+ (…) لكنني أعتقد أنها متحيزة في الكثير من القضايا”.
ويعكس السكان الذين قابلتهم وكالة فرانس برس في الدائرة التي كان يُنتخَب فيها رئيس الوزراء المحافظ السابق بوريس جونسون، أحد منتقدي “بي بي سي”، عن حيرة الكثير من البريطانيين، بين تعلقهم من جهة بهذه المؤسسة العريقة، وشعورهم في المقابل بأنها لا تؤدي مهمتها على أكمل وجه كمؤسسة رسمية في مجال الأخبار.
وقضت هيئة تنظيم الإعلام البريطانية الشهر الفائت بأن “بي بي سي” خالفت “قواعد البث” في تقرير عرضته عن الحرب في غزة لكون الراوي الرئيسي فيه، وهو طفل، نجل مسؤول كبير في حماس.
وترى ساندرا مادن، وهي متقاعدة محافظة ثمانينية، أن مسألة خطاب ترامب “جعلت الكيل يطفح” وتُظهر أن الهيئة “يسارية” التوجُّه.
أما روبن سكوت البالغ 78 عاما، فيؤكد أنه لم يعد يتابع الأخبار بواسطة “بي بي سي”، بل يشاهد محطة “جي بي نيوز” المحافِظَة التي يُقدم فيها زعيم حزب الإصلاح البريطاني المناهض للهجرة نايجل فاراج برنامجا منتظما. ويضيف “(هذه المحطة) تتناول أمورا (…) لا يمكن أن يراها المشاهدون إطلاقا على +بي بي سي+”.
وأظهر استطلاع رأي أجرته “يوغوف” ونُشر هذا الأسبوع، أن لدى نصف البريطانيين (51 في المئة) رأيا إيجابيا في “بي بي سي”، في مقابل 29 لديهم آراء سلبية. ويعتبر 31 في المئة أنها تميل كثيرا إلى اليسار، بينما يعتقد 19 في المئة أنها تميل كثيرا إلى اليمين.
– “أداة”-
وليس انتقاد تحيز “بي بي سي” جديدا، إذ سبق أن أثير في ما يتعلق بمواضيع عدة، من بينها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) والتغير المناخي وغيرهما، لكنّ المشهد السياسي الذي بات ينطوي على درجة عالية من الاستقطاب أدى إلى زيادة درجة التدقيق في أدائها أكثر من أي وقت مضى.
وفي القضايا الخلافية كالهجرة أو حقوق المتحولين جنسيا، غالبا ما تكون “بي بي سي” عالقة بين معسكرين متقابلَين.
وتجلّى هذا الوضع خلال الأسبوع الجاري في نقاش محتدم شهده البرلمان، حمَلَ خلاله عدد من نواب حزب المحافظين على الهيئة.
ومن هؤلاء أوليفر دودن الذي رأى أنها “مهووسة” بعدد من المواضيع، كالمسألة الفلسطينية وقضية حركة “حياة السود مهمة”، مشددا على أن هذه الملفات لا تهم “ريف” إنكلترا. أما النائب المولج الثقافة في حزب المحافظين نايجل هدليستون فأخذ على “بي بي سي” تركيزها على “الشمولية والتنوع”.
إلاّ أن النائبة آنا ساباين، من الحزب الليبرالي الديموقراطي (الوسط)، لا تؤيد هذا الرأي. وتقول “من دون +بي بي سي+، نكون أكثر عرضة لخطر الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة التي يتغذى عليها الشعبويون، كنائب كلاكتون (نايجل فاراج) ودونالد ترامب”.
وتلاحظ الأستاذة في قسم الإعلام بكلية “لندن سكول أوف إيكونوميكس” لي إدواردز أن هيئة الإذاعة البريطانية “تُستخدم أكثر فأكثر كأداة من قِبل أولئك الذين يريدونها مثالا على عالم ينجرف في اتجاه معين”.
وبإزاء هذه الهجمات، دافع رئيس مجلس إدارة “بي بي سي” سمير شاه عن “العمل المقدس” الذي تتولاه الهيئة في سعيها إلى الحياد والحقيقة.
ورغم الانتقادات السابقة والجدل الدائر راهنا، لا تزال هذه المؤسسة الإعلامية العملاقة، بقنواتها الإذاعية والتلفزيونية كافة وموقعها الإلكتروني، مصدر البريطانيين الرئيسي للحصول على الأخبار، وفق ما تلاحظ هيئة تنظيم الإعلام (“أوفكوم”).
وتصل خدمة “بي بي سي” الدولية (“وورلد سرفيس”) التي وصفتها وزيرة الثقافة ليسا ناندي بأنها “منارة”، إلى أكثر من 318 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم أسبوعيا.
– “لا إثارة إعلامية” –
وتقول الكاتبة البالغة 78 عاما جنيفر كافانا التي استصرحتها وكالة فرانس برس في وسط لندن إنها تحب “بي بي سي”، وخصوصا خدمتها الدولية، التي تُعدّ، في رأيها، “ضرورية جدا” في بعض البلدان.
وتأسف لتعرّض “بي بي سي” لحملات وانتقادات “من اليمين واليسار على السواء”.
ويشدّد الكاتب المتخصص في قضايا الإعلام والديموقراطية دان هند على أهمية “عدم المبالغة في انهيار ثقة العامّة بهيئة الإذاعة البريطانية”.
ولكنه يلاحظ أن عددا متزايدا من الأشخاص، وخصوصا من الشباب، “خرجوا من نطاق تأثير +بي بي سي+”، إذ يتابعون الأخبار من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
ويشرح الخبير أن “بي بي سي” تجد صعوبة في منافسة الشبكات الاجتماعية، نظرا إلى كونها لا تعتمد نهج الإثارة الإعلامية، بل تسعى إلى الحفاظ على رصانتها ودقتها”. أما هذه المنصات، فتبث “أفكارا سياسية أكثر تطرفا”، غالبا ما تكون متأتية من الولايات المتحدة التي تشهد حدة استقطاب أقوى وقدرا أكبر من تشويه سمعة وسائل الإعلام التقليدية من قِبل مؤيدي ترامب، بحسب الخبير.
وترى لي إدواردز أن “الجدل في مسائل كخطاب ترامب أو تغطية الحرب في غزة، تتخذ طابعا وجوديا” بالنسبة لهيئة الإذاعة البريطانية، نظرا إلى ما ينتظره الناس منها.
مهك/ب ح/جك