مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“حـلـوى وألـم وسيـاسـة”..

لقطة من فيلم "حلوى وألم وسياسة" للمخرجة السويسرية ستينا ويرينفيلس (1998) swissinfo.ch

هو عنوان أول شريط "مرح" يُعرض ضمن بانوراما "فلسطين/إسرائيل، ذاكرة سويسرية" التي تقترحها الدورة التاسعة عشرة لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي.

ومن الأشرطة التي تابعها الجمهور أيضا يوم الخميس، “المشرق، زجل في الشرق” الذي اكتفى بالزجل والموسيقى والصّور للتعبير عن تعايش وحب قائم بين الشعبين خلافا للاعتقاد السائد.

منذ انطلاق الدورة التاسعة عشرة لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي التي تتواصل من 6 إلى 13 مارس، يتابع الجمهور يوميا ضمن بانوراما “فلسطين/إسرائيل، ذاكرة سويسرية” سلسلة من الأشرطة الوثائقية التي تقدم جوانب مختلفة من حياة الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل استمرار النزاع بين الجانبين.

ويغلب على معظم الأفلام الوثائقية التي عُرضت لحد الآن طابع الجدية. وكيف لا وهي تنقل واقع حرب واحتلال ومواجهات متواصلة، وصورا مؤثرة وشهادات أليمة من الطرفين قد يستحيل الحديث عنه بابتسامة عريضة، وإن حرص غالبية مخرجي الأشرطة على إبراز تفاؤل أبناء الشعبين وأملهما في غد أفضل.

لكن جمهور بانوراما “فلسطين/إسرائيل، ذاكرة سويسرية” ضحك بصخب لمدة 30 دقيقة بعد ظهر يوم الخميس وهو يشاهد فيلم “حلوى وألم وسياسة” للمخرجة السويسرية ستينا ويرينفايس (1998).

فقد نجحت المخرجة وكاتبة السيناريو ورينفايس بذكاء وخفة دم مُدهشين أن تجسد مقولة “من شر البلية ما يضحك” أو “من الهم ما يضحك”.. لكن دون أن يـُنسي الضحك مصدر البلية والهم.

مريض “صهيوني” وممرضة “إرهابية”

أبطال فيلمها زوجان يهوديان مُسنان وممرضة فلسطينية. الزوجان المقيمان في الولايات المتحدة وصلا إلى زيورخ لقضاء عطلتهما الصيفية. الزوجة غاضبة لأنها كانت تريد الذهاب إلى إسرائيل بدل سويسرا التي طردتها أثناء الحقبة النازية لتُرحل إلى معسكر أوشفيتز ببولونيا. لكن زوجها رفض الذهاب إلى إسرائيل لأن الجو حار جدا ولأن فيها كثير من العرب..نفهم منذ بداية الشريط أن الزوج لا يحب لا الفلسطينيين ولا الألمان. لكن كل الجمل التي ينطق بها مُضحكة للغاية.

بينما يتناول حلويات شهية في مقهى بزيورخ، يصاب بأزمة قلبية ويُنقل إلى المستشفى. يستيقظ بين يدي ممرضة ذات ملامح عربية. يسألها عن اسمها فترد “حياة”..”حياة خليلي”.

قدره شاء أن تنقذه فتاة فلسطينية، لكن سرعان ما علم بأصلها، طلب بتخليصه من “الممرضة الإرهابية”. الأطباء لا يستجيبون، وعندما تطلب حياة من رئيسها تغييرها من غرفة “الصهيوني”، يذكرها الطبيب بأن عقد تجديد عملها فوق مكتبه وأن بطاقة إقامتها في سويسرا أوشكت على النهاية. ترضخ حياة للأمر الواقع وتواصل الاعتناء بالمريض اليهودي الذي يعتاد عليها شيئا فشيئا ويسأل عنها عندما تغيب.

“أنا فلسطينية، وأعرف كيف أوقف حافلة”

إحدى معارف الزوجة تهدي لها بطاقتين للاستجمام في شلالات شافهاوزن السويسرية المجاورة لألمانيا. تركب الزوجة الحافلة السياحية المتجهة إلى الشلالات، وتتبعها الممرضة التي أخذت البطاقة الثانية التي تركتها الزوجة في المستشفى. بعد الاستمتاع بمنظر الشلالات الخلاب، تتوجه الحافلة إلى “الغابة السوداء” بألمانيا، وهنا يشاهد الجمهور أقوى لقطة في الفيلم.

الزوجة اليهودية تطلب من المرشدة السياحة إيقاف الحافلة لأنها ترفض الذهاب إلى ألمانيا التي رحلتها إلى مخيم أوشفيتز. وحياة الفلسطينية تطلب بدورها أن توقف الحافلة لأنها لا تمتلك جواز سفر ولأن بطاقة إقامتها لا تسمح لها بدخول ألمانيا دون تأشيرة. المرشدة السياحة تصرخ بوجه اليهودية والفلسطينية وتؤكد أن الحافلة لن تتوقف.. فتتقدم حياة بقوة نحو المرشدة وتقول لها “أنا فلسطينية وأعرف كيف أوقف حافلة”.. فتفرمل الحافلة بعنف على الفور..

تتركهما الحافلة على طريق قريبة من الحدود الألمانية، تتجابهان..تفقدان الأعصاب.. “من الذي يرسل أطفالا أبرياء ليفجروا أنفسهم؟”..”ماذا تعرفين عن العرب؟”..”أنا رُحلت إلى أوشفيتز”..”كفى من هذه المبررات للاستيلاء على المزيد من أراضينا”..وتسيران جنبا إلى جنب إلى أن يلقي حرس الجمارك الألمان القبض عليهما ويأخذهما إلى الحدود السويسرية.

الفلسطينية لا تتوفر على جواز سفر وتخشى من عدم تمكنها من دخول سويسرا مجددا لأنها خرجت من الأراضي السويسرية ببطاقة إقامة لا تحمل أي تأشيرة. قد تفقد كل شيء حق الإقامة وعملها وإمكانية مساعدة أسرتها في فلسطين.

الزوجة اليهودية يدا في يد مع حياة تظهر جواز سفرها لحرس الحدود السويسريين وتمران..وبينما تديران ظهرهما عن الحراس يطلب هؤلاء من حياة أوراقها..تسلمها رفيقتها اليهودية جوازها الخاص خلسة فترفعه حياة وتظهره للحراس الذين يقولون لها “شكرا مع السلامة”.. “حياة” أنقذت “حياة” زوجها وهي أنقذت “حياة” والـ”حياة” ممكنة معا..

صُورٌ لمخرج نعتوه بـ”الأحمق”

وبعد قضاء لحظات مرحة غنية بالعبر، شاهد الجمهور شريطا وثائقيا بعنوان “المشرق، زجل في الشرق” للمخرج السويسري بيني مولر (1990) الذي كان بين جمهور فريبورغ.

الشريط صُور في خريف 1988 في فلسطين وإسرائيل ولبنان. وقبل العرض، أوضح المخرج مولر أنه عمل في السابق لحساب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في كل من إسرائيل ولبنان وشهد على مجزرة صبرا وشاتيلا “بقيادة السيد شارون الذي لم يمثل بعد أمام المحكمة مثلما يجب”.

رأى المخرج مولر الدم في كل مكان، لكنه رأى أيضا الحب والتسامح في كل مكان، رأى أن تلك المنطقة تزخر بحب الآخر رغم اختلافه.. لذلك نعتوه بالأحمق. قرر تصويرَ فيلم والتزامَ الصمت. حتى شريطه التزم السكوت، ترك التعليق للصور وللزجل الذي يتخلل مشاهد الحياة التي التقطها في المزارع والشوارع والأسواق والمقاهي والمعامل.. وفوق السطوح.

زجل ومماويل يتغنى بها صوت جبلي دافئ يقلد حتى أنغام الناي الشجية. “مصيبهِ صارت تْجْر مْصيبِه..خمستاشر سَنِ ندفع ضريبِه ولا بمِيّة سنِه بيرَكّعـُونا”.. ثم يتغنى بعيون وأيادي الحبيبة التي سحرته بنظرة.. لا ينسى شجرة الزيتون وأفضالها على الأجيال من السلف إلى الخلف.. ولا عالم التجارة وألاعيبه.. وبعد موال “أوف أوف” طويل يقشعر له بدن من تجري في عروقه دماء عربية، يقول “الله معاكم وين ما كنت يا حبابنا”.

وبين هذا “الأوف” وذاك، تتجول كاميرا المخرج بين مزارع قطف الزيتون على الطريقة التقليدية الفلسطينية.. ومعامل عصرها أو تصبيرها. تنتقل لتأمل عمل صانع مرايا تقليدي، يعود لمزارع قطف الزيتون لكن على الطريقة العصرية بالآلات لدى الإسرائيليين. تلتقط عدسته أصدقاء يهود يلعبون الطاولة بينما يمرر يصب لهم عربي الشاي بعد أن مرر البخور فوق رؤوسهم مرددا “عين الحسود فيها عود”.

نشاهد حماما يطير ويعود لصاحبه.. الأجواء في الأسواق، عند الحلاق، في الأعراس..أطفال يلعبون في الشارع، في الشاطئ..صور لحياة طبيعية يختلط فيها منذ قرون المسلم والمسيحي واليهودي، يعيش فيها الأورثودوكس جنبا إلى جنب مع البروتيستانت والكاثوليك..

“القهوة العربية فلسفة حياة”

بعد عرض الشريط مباشرة، سألت المخرج مولر عن مسألة نعته بالأحمق، فأجاب: “أنا صورت شريطا عن الزيتون والحمام والأطفال والمرآة في وقت الحرب. وبينما كنت أصور في لبنان، تم اختطاف سويسري تم ربطه لمدة عام بجهاز تدفئة في قبو. فقالوا ما هذا الأحمق الذي يصور الزيتون، هذا مجنون (قال المخرج هذه العبارة باللهجة اللبنانية).

وأوضح المخرج أن شريطه يتضمن عددا من الصور المعبرة متسائلا إن كان الجميع قد أدرك مغزاها. ومنها صورة تظهر في بداية الشريط لسيدة عربية تمرر صينية قهوة عبر قضبان. عن هذا المشهد، قال المخرج في تصريحاته لـ”سويس انفو”: “هذه الصورة تتجاوز الحدود وتقول إن كانت بيننا حدود، ثقافية أو لغوية، يظل الترحيب الذي يقول “تشرب قهوة؟”، نصل إلى الآخر بالنظرة، بالعيون، نتجاوز القضبان. إن البشر أقوى، السياسيون يخوضون الحرب، لكننا نحن البشر وخاصة النساء يمكن أن نمرر القهوة”.

ويقول المخرج عن القهوة العربية “عندما يقولون لك “تشرب قهوة؟”، لا يتوقف الأمر عند تناول القهوة، بل هي فلسفة حياة. القهوة العربية أصبحت مشهورة في العالم بأسره، بالنسبة للسياسيين أو الفنانين، فهنا (عند العرب) نشأت الفلسفة، في المشرق نشأت التجارة. ماذا نفعل اليوم دون الفلسفة والتجارة، هنا نشأت الاتصال. صحيح أن هنالك مشاكل وهنالك حرب، لكن المنطقة تزخر بثراء قد يكون واضحا لي أو لك ولكن ليس للجمهور السويسري، لذلك يجب إظهاره”.

فمن الأحمق في الحكاية يا ترى؟

إصلاح بخات – سويس انفو- فريبورغ

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية