مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

انطواء صفحة سوداء من التاريخ المغربي

صورة وزعتها يوم 3 نوفمبر 2005 هيئة الإنصاف والمصالحة لمقابر 7 من أعضاء مجموعة مقاومة كانت تعرف باسم مولاي شافعي وبركاتو، التي ظلت مفقودة منذ 26 ماس 1960 في إحدى قرى منطقة شيشاوه المغربية Keystone

بستة مجلدات كانت حصيلة سنتين من العمل الدؤوب، أسدل الستار على مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة المكلفة بفتح ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عاشها المغرب خلال سنوات 1956 و1999.

وهكذت طويت صفحة سوداء في تاريخ البلاد وأنعشت آمال بفتح صفحة بيضاء في دولة من دول العالم الثالث.

المجلدات الست، وهي التقرير النهائي للهيئة، تضمنت تفاصيل مهمتها التي كلفها بها العاهل المغربي الملك محمد السادس في يناير 2004 بفتح كل الصفحات الأليمة في مغرب ما بعد الاستقلال، لطيها بعد ذلك بلا جراح لم تلتئم ودون إحساس بالظلم أو القهر لدى الضحايا وشعور بعدم الإنصاف يولد فيهم انتقاما وحقدا، إيمانا بأن طي صفحة الماضي شرط ضروري لتشييد مغرب ديمقراطي متعدد واحد على أسس الاستقرار والأمان الدائم.

الأهم في هذه المجلدات هي التوصيات التي ضمنتها في تقريرها الذي سلمته للقصر الملكي بداية شهر ديسمبر الجاري، والذي أمر العاهل المغربي يوم الجمعة 16 ديسمبر بنشره كاملا.

خطوة أولى ضرورية

تمثلت مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة – التي ترأسها إدريس بن زكري الناشط الحقوقي والمعتقل السياسي السابق – في تنظيم جلسات استماع لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وذويهم، تم بثها مباشرة على شاشات التلفزيون وأمواج الإذاعات الرسمية المغربية، والاستماع مباشرة لشهادات الضحايا وتسجيلها وتقدير التعويضات المادية لهؤلاء في إطار التكامل بين جبر الضرر المعنوي والمادي وإجراء التحقيقات والزيارات الميدانية للكشف عن مواقع وأماكن الانتهاكات، وللوصول إلى مصير مختفين لا زال مجهولا أو ضحايا دفُنوا في أماكن لم تكشف السلطات عنها.

هذه المهمة شكلت الخطوة الأولى الضرورية لعدم تكرار ماضي الانتهاكات ومسلسل التعذيب والمس بكرامة الإنسان وممارسات الاختفاء والاختطاف والتغييب القسري والمصير المجهول، ممزوجة بوضع آليات للتحريم القانوني لمثل هذه الانتهاكات ومعاقبة الجلادين والمسؤولين عنها، وإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية.

ويقول عباس بودرقة عضو الهيئة بأن “الاعتراف بالانتهاكات التي وقعت ووضع الآليات لا يشكل ضمانة كافية إذا لم ترفق بالإصلاحات المؤسساتية وإستراتيجية وطنية لتجريم التعذيب والانتهاكات ومناهضة الإفلات من العقاب”.

تحديد الضحايا … ثم تعويضهم

بلغة الأرقام قال تقرير الهيئة إن التحقيقات الميدانية والتحريات التي قامت بها الهيئة من استجوابات وتجميع شهادات وزيارات ومعاينات ميدانية والبحث الوثائقي وفحص الأرشيفات، مكنت من التحديد الدقيق لأماكن دفن وهوية 85 شخصا توفوا خلال احتجازهم بتازمامارات وأكدز وقلعة مكونة وتاكونيت وكرامة وقرب سد المنصور الذهبي، وأن 322 شخصا كانوا يعتبرون من قبل البعض كمختفين، توفوا فعلا في خضم مواجهات بفعل استعمال قوى الأمن المفرط للقوة، تم تحديد هويتهم وأماكن دفنهم، وفي حالات ثانية تم التعرف على أماكن الدفن فقط، وفي ثالثة لم يتسن إلا تحديد هوية الضحايا فقط، وأن 174 شخصا توفوا أثناء الاعتقال التعسفي في مراكز اعتقال حكومية، لكن التقرير لم يتمكن من تحديد أماكن الدفن من بينهم 39 حالة. وخلصت الهيئة إلى أن هناك 70 حالة أخرى للضحايا ينطبق عليها وصف الاختفاء القسري، وتعتبر أن على الدولة واجب مواصلة التحقيقات من أجل الكشف عن مصيرهم.

وقررت الهيئة استفادة 9280 من ضحايا تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من التعويض المادي من بين 16 ألف و861 ملف فردي من الطلبات التي تسلمتها، بالإضافة إلى التعويض المادي عبر صيغ أخرى لجبر الضرر، تتعلق بإعادة الإدماج في الوظيفة العمومية وتسوية الوضعية الإدارية والمهنية.

وتهم هذه التعويضات ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي المرفق بمحاكمة أو دونها أو متبوعة بالإعدام، والوفاة والجرح والاعتقال التعسفي خلال أحداث العنف الحضرية والنفي القسري والاعتداءات الجنسية.

معايير محددة

واعتمدت هيئة الإنصاف والمصالحة ستة معايير لتقديم مقرراتها، وتتعلق بالحرمان من الحرية وطبيعة الاختفاء القسري (الانتهاك المعقد الذي يمس جميع حقوق الإنسان ومنها الحق في الحياة)، وظروف الاعتقال والاحتجاز والتعذيب وجميع أشكال المعاملة اللاإنسانية المنتقصة من قيمة الإنسان أو القاسية والآثار الجسدية والنفسية، وهدر الفرص.

كما أوصت بتوسيع التغطية الصحية الإجبارية لفائدة جميع الضحايا الذين حددت الهيئة هويتهم وحقوقهم، والتكفل الفوري والشخصي بحوالي 50 ضحية يعانون من آثار جسيمة ومزمنة، وإحداث جهاز دائم للتوجيه والمساعدة الطبية لضحايا العنف وسوء المعاملة.

وأوصت هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها بجبر الضرر الجماعي في المناطق والجهات التي عرفت انتهاكات في مجال حقوق الإنسان أثرت على تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بتبني ودعم برامج للتنمية إجتماعية – اقتصادية وثقافية لفائدة العديد من الجهات والمجموعات من الضحايا وخاصة النساء، وتحويل وإعادة تأهيل مراكز الاعتقال السابقة ( تازمامارت وأكدز ودرب مولاي الشريف بالدار البيضاء وغيرها).

تعزيز دولة القانون والضمانات الدستورية

التوصيات من أجل تفادي تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت في الماضي وتعزيز مسلسل الإصلاحات التي انخرط فيها المغرب كانت – بالإضافة لمقاربات أخرى تتعلق بالتقرير – قد أثارت نقاشا واسعا خلال الشهور الماضية إن كان داخل الهيئة أو في صفوف الهيئات والمنظمات الحقوقية والإنسانية المغربية.

في هذه التوصيات اعتبرت الهيئة أن مكافحة الإفلات من العقاب يستدعي بالإضافة إلى الإصلاحات القانونية بلورة وتفعيل سياسات عمومية في قطاعات العدل والأمن وحفظ النظام والتعليم والتكوين المستمر، وانخراطا فاعلا من مجموع المجتمع، وضرورة أن تقوم هذه الإستراتيجية على القانون الدولي لحقوق الإنسان من خلال الحرص على تحقيق التناغم بين التشريع الجنائي والالتزامات الدولية.

وقال التقرير إن تعزيز دولة القانون يقتضي إصلاحات في المجال الأمني والقضاء والتشريع والسياسة الجنائية بتأهيل وتوضيح ونشر النصوص التنظيمية المتعلقة بصلاحيات وتنظيم ومسلسل اتخاذ القرار وأنظمة مراقبة وتقييم أجهزة الأمن والاستعلامات، دون استثناء، والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام العام، أو التي لها سلطة استعمال القوة العمومية وبتعزيز استقلالية القضاء وتأهيل التشريع والسياسة الجنائية في اتجاه تعزيز الضمانات القانونية والمسطرية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وتحديد أشكال العنف الممارس ضد النساء انسجاما مع المعايير الدولية، ودعا إلى تعزيز الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان عبر التنصيص على مبدأ سمو القانون الدولي لحقوق الإنسان على القانون الداخلي وقرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة.

احتجاجات منظمات حقوقية .. وردود

وإذا كان تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة بحد ذاته خطوة ثورية في دول العالم الثالث وفي الفضاء العربي تحديدا، فإن ما تضمنه التقرير يعتبر انجازا مهما على طريق طي الصفحات السوداء في التاريخ المغربي الحديث، إلا إن تحديد مهمة الهيئة زمنيا ومضموناًَ أثار احتجاج منظمات حقوق الإنسان المغربية، واعتبرتها حائلا أمام طي صفحة الماضي وضمان عدم تكرار الانتهاكات.

زمنيا حُدد للهيئة البحث في الإنتهاكات التي ارتكبت غي الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999 في وقت يقول فيه ناشطو حقوق الإنسان إن الانتهاكات تواصلت حتى الآن ولم تتوقف، وأن مغرب ما بعد الهجمات الانتحارية التي استهدفت الدار البيضاء في 16 مايو 2003 عرف انتهاكات جسيمة على غرار انتهاكات السنوات السابقة من خطف واعتقال تعسفي وتعذيب.

أما مضموناًَ، يتحفظ الناشطون على عدم التطرق إلى المسؤولين عن الانتهاكات والجلادين وعدم ملاحقتهم قضائيا في وقت لا زال عدد منهم يتولى مناصب رسمية سامية.

يُضاف إلى ذلك عجز الهيئة عن تحديد مصير شخصيات تعرضت للاختطاف مثل المهدي بن بركة الذي اختطف في العاصمة الفرنسية باريس والحسين المانوزي الذي اختطف من تونس وشوهد في احد السجون المغربية وغيرهم.

في معرض الرد على هذه الإنتقادات، قال عباس بودرقة لسويس انفو: “إن هيئة الإنصاف والمصالحة ليست هيئة قضائية ولم تكلف بالمحاسبة بقدر ما تمحورت مهمتها حول كشف الماضي وقراءة صفحاته وتقديم توصياتها إلى الملك”.

وتختصر أوساط الهيئة مهمتها بالكشف عن الحقيقة وإنصاف الضحايا وعلى ضوء ذلك وضع توصيات بتدابير وإجراءات لضمان عدم تكرار الماضي. لذلك فإن تقنين التوصيات الواردة في التقرير النهائي للهيئة ستكون مهمة الفاعلين السياسيين والحقوقيين المغاربة خلال السنوات الماضية لتستتبع المصالحة كلا من الحقيقة والإنصاف.

محمود معروف – الرباط

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية