مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل ينتقل المجتمع المدني من الاحتجاج إلى المبادرة ؟

لا يعاني المجتمع المدني العربي من ضعف ناتج عن هيمنة الدولة وضعف مؤسساتها فقط، بل من ضعف وصف بـ "التقني" .. swissinfo.ch

"لو توفّـرت إمكانية إحداث تحول ديمقراطي في بلد من بلدان العالم العربي، فهل يكون المجتمع المدني المحلي قادرا على أن يكون طرفا فاعلا وأساسيا في إنجاح ذلك التحول؟"..

هذا السؤال وغيره كان محور نقاشات ثرية شهدتها ورشة عمل انتظمت مؤخرا في العاصمة القطرية وضمّـت عددا من مُمثلي منظمات عربية غير حكومية.

انتظمت يومي 5 و6 يناير 2005 في العاصمة القطرية، ورشة عمل ضمّـت عددا من مُمثلي منظمات عربية غير حكومية، لبّـوا دعوة وجّـهها إليهم المعهد العربي لحقوق الإنسان (مقره تونس)، الذي يتزايد دوره الإقليمي والدولي بشكل ملحوظ، ومنظمة (فريدم هاوس) الأمريكية غير الحكومية المعروفة بتقريرها السنوي حول أوضاع الحريات في العالم، إلى جانب أربعة مراكز وشبكات عربية، من بينها “اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان” في قطر.

وناقش المشاركون في ورشة الدوحة موضوعا لافتا للنظر لم يسبَـق أن عُـولِـج في المنطقة بشكل مباشر وعملي. وقد لخّـص الموضوع عنوان الورشة: “استراتيجيات مساهمة المجتمع المدني في التحول الديمقراطي بالبلدان العربية”.

أما السياق الذي يتنزل فيه هذا اللقاء، فيندرج ضمن الاجتماعات الإقليمية الدولية للإعداد لمنبر المجتمع المدني الذي سيَـنعقِـد في العاصمة الشيلية (سنتياغو) بشكل مواز للاجتماع الوزاري الثالث للديمقراطيات الذي سيلتئم في شهر أبريل 2005.

تقوية وإرساء الديمقراطية

يجدر التذكير بأن “حركة الديمقراطيات” تعتبر مبادرة حديثة العهد أسّـسها تحالف حكومي لدول قرّرت العمل بشكل جماعي على إرساء الديمقراطية في العالم وترسيخها.

وكانت ضربة البداية في وارسو، عاصمة بولندا في 27 يونيو 2000، بدعوة من حكومات الشيلي، وجمهورية تشيكيا، والهند، ومالي، والمكسيك، وبولندا، والبرتغال، وجنوب إفريقيا، وكوريا الجنوبية، إلى جانب الولايات المتحدة.

وصدر عن ذلك الاجتماع ما سمي بـ “إعلان وارسو من أجل مجتمع من الديمقراطيات”، الذي تضمّـن التزامات واضحة بدعم أسُـس الديمقراطية وحقوق الإنسان مثل “خضوع مؤسسات الحكومة للمحاسبة، من قِـبل مواطني البلد، واتّـخاذها الخطوات الكفيلة بمكافحة الفساد الذي يؤدّي لاختلال الديمقراطية وإضعافها”. أما الاجتماع الثاني، فقد احتضنته مدينة سيول عام 2002.

وفي مسار مواز لهذه المبادرة الحكومية، تحرّكت مجموعة من المنظمات غير الحكومية، بهدف “تنظيم وتطوير مشاركة القوى الاجتماعية والسياسية المدنية في مسار تقوية وإرساء الديمقراطية”. وقد تمكّـنت تلك المنظمات في اجتماع سيول من أن تحضُـر 256 شخصية شاركت في فعاليات المنتدى الموازي، قدّمت من 75 دولة.

وحتى تكون المحطة القادمة أكثر فعالية وتمثيلية، شكّـلت المنظمات الشيلية غير الحكومية، سكرتارية تنفيذية دولية التي احتضنتها منظمة (بارتيسيبا participa) الشيلية المعروفة، وستتولى هذه السكريتاريا الإعداد للمنتدى المدني القادم.

وترمي كل هذه الجهود إلى إرساء حركة مدنية دولية تحجمها أهداف ثلاثة، من بينها “إذكاء الوعي والدفاع عن أهمية إرساء ديمقراطيات حقيقية ومتكاملة، تعتمد آليات فاعلة تحقق لها الديمومة”.

إمكانية التحول الديمقراطي

المسألة المحورية التي طرحتها ورشة “الدوحة” يمكن اختزالها في سؤال تضمّـنته ورقة العمل الأساسية، التي دارت حول مناقشات اللقاء، وهو: “لو توفّـرت إمكانية إحداث تحول ديمقراطي في بلد من بلدان العالم العربي، فهل يكون المجتمع المدني المحلي قادرا على أن يكون طرفا فاعلا وأساسيا في إنجاح ذلك التحول؟”.

لقد عددت الورقة، التي حصل حولها إجماع، وستعتمد إلى جانب التوصيات كوثيقة ترتكز عليها المشاركة العربية في سنتياغو، الصعوبات الهيكلية التي لا تزال تحُـول دون الإصلاح السياسي في المنطقة العربية، لكنها من جهة أخرى، رفضت الادّعاء بأن العرب ملقّـحون ضد الديمقراطية، بل وأضافت بأن “عملية التحول الديمقراطي قد بدأت فعلا في بعض الدول”، حيث حظيت المغرب باهتمام المشاركين.

والجديد التي طرحته هذه الورشة، تأكيدها على أن المجتمع المدني العربي لا يُـعاني فقط من ضعف ناتج عن هيمنة الدولة وضعف مؤسساتها، ولكن أيضا هناك ضعف وصف بـ “التقني” لا يقل أهمية.

وتتمثل جوانب هذا الضّـعف في الفقر الذي تُـعاني منه المجتمعات المدنية الحالية في مجال إدارة الحوار مع الحكومات، وخاصة في كيفية التفاوض معها. فالتفاوض يحتاج لتقنيات خاصة، وهو “يكون عادة تتويجا لتطور نوعي في أداء منظمات المجتمع المدني يهيئها لكي تكون طرفا محاورا قويا وذا مصداقية لم يعد بإمكان السلطة أن تتجاهله أو تشطبه”.

وهذه المجتمعات التي لا خيار لها، حسبما ورد في الوثيقة الأساسية، سوى التمسك بالنّـضال السّـلمي، ورفض العنف، كأداة للتغيير، وتصعيد الضغط للتأثير على صانعي القرار، كما أنها مدعوة للإقرار بأن “التحول الديمقراطي يجب أن يتم بالتعاون مع الأنظمة، وليس بدونها”.

عهد الاستبداد ولى وانتهى

أما كيف يُـمكن إقناع الحكومات بأن المشاركة في ذلك هو من مصلحتها، وأن عهد الاستبداد المُـطلق قد ولّـى وانتهى، فذلك إحدى التحديات المطروحة على المنظمات العربية غير الحكومية التي يجب أن تغيّـر الخطاب، وتبحث عن الاستراتيجيات الجديدة للتغلّـب على الصعوبات والعوائق.

المهم، حسب الوثيقة، أن يتساءل نشطاء المجتمع المدني: هل يعرفون ماذا يريدون بدقّـة؟ وهل يملِـكون خُـططا مرحلية إلى جانب الأهداف بعيدة المدى؟ وكيف يكسبون الأصدقاء؟ وكيف يعبّـئون الرأي العام دون أن يقطعوا الجسور مع الحكومات؟

مسائل أخرى تناولتها الورشة، مثل تحقيق المساواة بين الجنسين وبين المواطنين، مما يستوجب مراجعة الموقف القديم من ملف الأقليات في العالم العربي. ذلك الموقف، الذي كان يتعمد أصحابه تجاهُـل التعدّد الطائفي، رغم أنه أحد مكوِّنات الخارطة الديمغرافية، والسوسيولوجية، والثقافية للمنطقة العربية.

كذلك تطرق النقاش للمسألة الدينية، حيث ورد بالوثيقة أن “الإيمان بالديانات، لا يشكّـل عائقا في حدّ ذاته، لكي يكون المؤمن ديمقراطيا أو مُـناهضا لإرساء نظام سياسي يرتكز على المشاركة الحرة والمساواة بين المواطنين. لكن تأويلا محددا للنصوص الدينية، يمكن أن يُـحدِث انقساما حادّا داخل المجتمع الواحد، ويفتعل أصحابه تناقضا بين قيّـم الدين وقيّـم الحرية والعدالة”.

فتصاعُـد الغلو والنزوع نحو العنف والإرهاب تحت شعارات إسلامية، أصبح يشكل عاملا إضافيا من العوامل غير المساعدة على تحقيق التحول الديمقراطي.

العدالة الانتقالية

وأخيرا، دار نقاش مستفيض حول مفهوم جديد، بدأت تتداوله منظمات المجتمع المدني العربية، وحتى غير العربية، ويخص “العدالة الانتقالية”، أي كيفية القطع مع مرحلة الاستبداد والقمع الشديد، دون الوقوع في عمليات الثأر والانتقام، وما قد يثيره ذلك من مخاوف لدى الهيئات الحاكمة، مما يجعلها أكثر إصرارا على رفض الإصلاح، وعدم قبول مبدأ التحول الديمقراطي السلمي.

أما بالنسبة للمبادرات الدولية والعربية المتعلقة بالإصلاح، والتي خُـصّصت لها جلسة حضرها من قدم ودافع عن وثيقة الشرق الأوسط الكبير (ممثل عن ميبي MEPI)، وكذلك الشأن بالنسبة للرؤية الأوروبية، فقد مال المشاركون إلى التحفظ، وانتقدوا صدقية الخلفية السياسية للإدارة الأمريكية، مما جعل الرد الرسمي لرئيس المكتب الإقليمي لمبادرة الشراكة الشرق أوسطية متعاليا نسبيا، وناقدا لما اعتبره ازدواجية الخطاب لدى منظمات المجتمع المدني العربي، حيث قال: “إذا تحركنا لدعم الجهود الديمقراطية، اتَّـهمَـنا البعض بالتدخل، وإذا سكتنا، لامنا آخرون عن عدم مُمارسة الضغوط على الحكومات”.

لكن الفكرة التي لقيت أكثر رواجا في صفوف المشاركين، هو حسن استثمار هذه المبادرات والضغوط الدولية لتحقيق بعض المكاسب. فقد اعتبر محسن مرزوق، ممثل فريدم هاوس في المنطقة العربية، أن الضغط الخارجي يمثل “فرصة قد تكون إيجابية جدا، إذا أُحسِـن استغلالها، وكان نشطاء المجتمع المدني يملِـكون استراتيجية واضحة”.

لقد كان لمشاركة عدد من النشطاء المعروفين في العالم العربي بمساهماتهم المكثفة، وأحيانا النوعية، الأثر الإيجابي في الارتقاء بمستوى النقاش، مثل الناشط الحقوقي خميس الشماري من تونس، الذي بدا متحفّـظا من قضية المبادرات الأجنبية، خاصة الأمريكية منها، وإن بقي رافضا أسلوب الكرسي الشاغر، ووزير حقوق الإنسان السابق في المغرب، محمد أوجار، وعبد الحسين شعبان من العراق.

والملاحظ أن الوعي بالإشكاليات بدأ ينمو شيئا فشيئا داخل أوساط المجتمعات المدينة العربية، لكن هل ستتمكّـن من تجاوز أمراضها الذاتية وتجاوز عوائقها الهيكلية؟ سؤال سيبقى مطروحا، حتى تثبت الممارسة ما يخالف ذلك.

صلاح الدين الجورشي – الدوحة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية