مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العلوم الإجتماعية والإنسانية تواجه مُجددا ضغوط المصالح الإقتصادية

طُلّاب يدرسون في الفضاء الفسيح لمكتبة "مركز التعلّم" المُسمّى بـ "مركز رولكس" التابع للمعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان. Keystone

لاقى قرار الحكومة السويسرية المُتعلَّق بِنَقل المسؤولية الفدرالية لِقَطّاع التعليم والبحث العلمي والإبتكار من وزارة الشؤون الداخلية إلى وزارة الإقتصاد، إستحسان كل من أحزاب اليمين واليسار. ولكن مُمثلي العلوم الإنسانية والإجتماعية يتخوفون من التأثير المُتزايد للإقتصاد، ومن المَساس بِحُرّية العمليات البَحثية.

حَسْبَ أحد الأقوال المأثورة المُتناقلة في أروقة المدارس السويسرية، يُشكل التعليم و الطاقة المائية المَوردين الإقتصادييَن الوحيدَين للكنفدرالية.

على الرغم ذلك، لن يَحْصَل “المورد الثمين” المُتَمَثِّل بالتعليم على وزارة خاصة به في الحكومة الفدرالية السويسرية، ولكنه سيُدمَج بدلاً عن ذلك في المكتب الفدرالي للتعليم المهني والتكنولوجيا ضمن وزارة الإقتصاد.

وقد قررت برن إتخاذ هذا المنعطف السياسي- التعليمي بعد عشر سنوات من المناقشات. وأثنَت جميع الأحزاب السياسية بإختلاف توجهاتها على هذا القرار، الأمر الذي يَنْدُر حدوثه في سويسرا. ومن المُقرر أن تدخل هذه التحويرات حيِّز التطبيق في غرة يناير 2013.

البحث العلمي “ليس قوةً دافعة للنمو”

هذا القرار لم يَحظَ بالموافقة في أوساط العلوم و البحث العلمي الإبتكار. حيث أعرَبَت الأكاديميات العلمية السويسرية عن “شكّها أو حتى معارضتها” لإنضمام مؤسسات التعليم العالي الى وزارة الإقتصاد.

ونَصَّت رسالة تم توجيهها الى ديديي بوركهالتر، وزير الشؤون الداخلية (وهي وزارة تشمل التعليم والصحة والثقافة والتأمينات الإجتماعية وشؤون المرأة والبحث العلمي)، الى أنه من الخطأ الإعتقاد بأن بإمكان البحث العلمي أن يكون القوة الدافعة المُباشرة للنمو الإقتصادي.

ويكمُن وراء ذلك الخوف من قيام الإتحادات الممثلة لأوساط المال والأعمال والتجارة، مثل رابطة الشركات السويسرية Economiesuisse، بمُمارسة ضغوطها على الأوساط العلمية والبَحثية بشكلٍ مُتزايد ضِمن “أقسامها”، من أجل التركيز على نتائج بَحثية سريعة التنفيذ (من طرف الصناعة والإقتصاد عموما).

مطالب قديمة

هذا الشك الذي يراود الرابطات – المِظَلّة للعلوم، يُشاطره أيضاً إيزيدور فالّيمان، الخبير الإجتماعي والإقتصادي، الذي قال لـ swissinfo.ch: “يتوافق هذا التوزيع الجديد مع رغبة أكبر لأن تصبح البحوث في مجالات العلوم الإنسانية والإجتماعية أكثر صِلَة بالتطبيق. وبكلمات أخرى، أن تصبح أكثر فائِدة للإستخدام في مُعالجة المشاكل”.

وبالنسبة للخبير فاليمان، البالغ من العمر 67 عاماً، ليس هذا بالأمر بالجديد، حيث يقول “منذ نحو 15 أو 20 عاماً، تجد المعاهد التقنية الفدرالية العالية في سويسرا نفسها مُتَّهمة بإنتاج معرفة ليست قريبة بما يكفي لإحتياجات الإقتصاد”.

ويطرح السؤال نفسه، حول مقدار العلوم والبحوث الأساسية التي ينبغي على المعاهد الفدرالية التقنية العليا أن تَستَمر بتوليدها في مجالات العلوم الإنسانية والإجتماعية بشكلً خاص. وكما يقول الخبير الإقتصادي “من خلال هذا المنظور، يُمكن أن نخشى بالفعل بأنه سيتعَيَّن على مجالات العلوم الإنسانية والإجتماعية، توليد المزيد من المَعرفة العَمَلية الموَجَهة لِحَل ومعالجة مشاكل مُعينة”.

حرية أبحاثٍ يكفلها الدستور

ومن شأن أمر كهذا أن يُخالف حرية البحث التي يكفلها الدستور الفدرالي السويسري منذ عام 1999، والذي يشكِّل رصيداً ثميناً في مجال البحوث الإجتماعية والإنسانية في الوقت الحالي.


ومن الناحية الاقتصادية يبدو الأمر حَسْب الخبير فاليمان بهذا الشكل “هناك تَوَجُّه بإمكانية توليد المعرفة بِمِقدارٍ معَيَّن من المال. وينبغي على الإستثمار في مجال البحث أن يأتي بالمزيد من النفع للمُجتمع”.

وكما يذكر فاليمان، يتم تطبيق البحوث الأساسية والمعرفة على المدى الطويل، أمّا البحوث التي تأتي بالفائِدة فهي للتطبيق المباشر. وفي العادة، تَستَمِر البحوث الأساسية في مجال فِرَق التَحليل لِفترة طويلة قد تَمتَد لأكثر من عشر أو عشرين سنة، ولأكثر من جيلين، في حين لن يَسود هناك وضوح غالباً حول فوائدها الفورية المباشرة لفترة طويلة.

وهنا يضيف الخبير الإقتصادي الذي يحمل الجنسيتين السويسرية والأمريكية، والذي لا زال مستمرا بالتدريس في جامعتين بالولايات المتحدة :”قد لا يكون بالإمكان مُمارسة التطبيق المباشر بشكل كفوء لاحقاً إلّا من خلال مثل هذه المعرفة الأساسية”.

وسعيا منه لتوضيح ما يقول، يضرب فاليمان مثلاً بمشكلة الَفقر التي يعرفها جيداً من خلال مشاركته في تأليف الدراسة السويسرية الوحيدة الطويلة الأمد حول هذه المسألة، فيقول: “بدون مثل هذه الدراسات الأكبر حجماً، لا يُمكن بَحث و تقصّي المسائل المُتعلقة بالفقر في المجتمع بشكلٍ مُفيد”.

“لاتعمل على الأغلب”

ومع الإصرار على الإكتفاء بالقيام ببحوثٍ ذات منحى قابل للتطبيق في مجال العلوم الإجتماعية والانسانية، لا يُهَدَّد القطاع الإقتصادي بِقَطع الغُصن الذي يجلس هو عليه فحسب، بل يضع موضع التساؤل أيضا روح البهجة في الإبتكار المُشاد بها في سويسرا، ومكانتها كموقعٍ مميز للبحث العلمي. وكما يقول فاليمان: “إذا وقع المرءُ ضحية الإعتقاد بإمكانية معالجة المشاكل من خلال بحوث صالحة للإستخدام على المدى القصير، لَن يَنْجَح هذا الأمر في العادة”.

وحسب الخبرة التي اكتسبها فاليمان، فإنَّ البحوث التي تركز على إدارة المشكلة تحتاج دائما الى قاعدة للبيانات، والحالات، أو الإتجاهات، كما أنه “بدون عملٍ أساسي، يبقى المرءُ عاجزاً نوعاً ما، كما إنَّه يُنْجِز عملاً صعباً غير مُجدِ عندما يتعلَّق الأمر بمعالجة المشاكل”، على حد قوله.

إعداد جدول الأعمال.. سُلطة!

ويمكن أن يؤثر الإنتقال الى وزارة الإقتصاد على نقطة اخرى أيضاً، تتعلَّق بتعريف مناطق المشاكل الإجتماعية والسياسية. فَمَن يستطيع تَحديد المشاكل، ومن ثَمَّ توليدها، هو مَنْ يُحدِّد جدول الإعمال السياسي- الإجتماعي، مُعَزِّزاً بذلك من مكانته كطرفٍ فاعل على المسرح السياسي – الإجتماعي.

وحسب فاليمان، فإنَّ التكامل الإجتماعي مثلاً هو مشكلة مُعتَرَفٌ بها، ولكن ليس الفَقر، بغَضِّ النظر عن منافذ أخرى مثل عدم المساواة في الحصول على التعليم المتصلة بالتكامل الإجتماعي. ولكن – والكلام دائماً للخبير الإقتصادي – “لا يمكن معالجة مجالات فرعية كإدماج الإقلّيات العرقية والثقافية إلّا بالإستناد على قاعدةٍ بحوث واسعة النطاق حول مشكلة الفقر”.

تكثيف الضغط

وفي الوقت الحاضر، تزداد الضغوط المسلطة على ممثلي العلوم الإجتماعية والإنسانية على وجه الخصوص. ووفقاً للخبير فاليمان، يجب عليهم الصمود والإصرار ليس بالحفاظ على البحوث الأساسية فَحَسْب، بل وبتوسيع نطاقها أيضاً.

وفي هذا السياق يُعَلِّق فاليمان قائِلاً:” يجب أن يصبح الساسة العاملون في مجال التعليم، وكذلك اللجان العلمية التي تقوم بتحديد الأولويات والموافقة على ميزانيات البحوث العلمية، مُقتنعين بأن البحوث الأساسية ليست النقيض للمعرفة القابلة للإستخدام، بل إنّها الأساسُ والقاعدة لهذه المعرفة”.

ويدعو الخبير الإقتصادي والإجتماعي الى النظر الى البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية على اعتبار أنهما مُكملَين لبعضهما البعض. ومثلما يقول فإن “المعرفة الأساسية شرطٌ لِتَطوير المعرفة التطبيقية. ويضْمن الجمع بين الإثنين بكفاءة، كمية المعرفة المفيدة التي أستطيع الحصول عليها مقابل مبلغ معيَّن من المال”.

حسب البيان الصادر عن الحكومة الفدرالية يوم الإربعاء 29 يونيو 2011 حول إعادة تنظيم مسؤولية الإشراف على مجالات البحث العلمي والتعليم والإبتكار، سيتم دَمجَ هذه الأقسام ضمن وزارة الإقتصاد السويسرية. ومن المقرر أن تدخل هذه التحويرات الوزارية الى حَيِّز التطبيق إبتداءً من غرة شهر يناير 2013.

حتى الآن، كانت وزارة الشؤون الداخلية (التي تشمل التعليم والصحة والثقافة والمرأة والتأمينات الإجتماعية والبحث العلمي) مسؤولة عن المعاهد التقنية الفدرالية العالية (في زيورخ و لوزان)، والمساهمات الجامعية و البحوث الأساسية. أمّا التدريب المهني، والكلّيات التقنية والبحوث التطبيقية، فقد كانت ضمن مسؤولية وزارة الإقتصاد.

في المقابل، سيتم نقل المكتب البيطري الفدرالي (الذي تشرف عليه حالياً وزارة الإقتصاد)، ليصبح تحت إشراف وزارة الشؤون الداخلية.

وقد أدت الإزدواجية الناتجة عن مخاطبة طرفين في مجال التعليم الى نشؤء الكثير من الغموض والإحتكاكات.

و توصلت الحكومة السويسرية الى هذا القرار نتيجة تعرضها الى ضغط من البرلمان الفدارلي، الذي هدد – ضمن صلاحياته – بإنشاء وزارة خاصة بالتعليم. ولكن المجلس الفدرالي (الحكومة السويسرية) رفض هذا المقترح، كما رفض إنشاء وزارة جديدة للأمن.

كانت الحكومة السويسرية قد ناقشت عملية إعادة تنظيم التعليم والبحث العلمي والإبتكار لأكثر من عشر سنوات دون نتيجة.

و منذ عام 1996، إقترَح هاينريخ أورشبرونغ، الذي شغل منصب وزير الشؤون الداخلية حينئِذ، دَمْج قطّاع التعليم في وزارة الإقتصاد.

يبلغ الخبير الإقتصادي و الإجتماعي 67 عاماً من العمر. و هو أستاذ زائر في جامعة سيراكيوز الخاصة للبحوث (نيويورك)، و جامعة نورث تكساس للبحوث (في مدينة دنتون الجامعية في ولاية تكساس).

شملت المحطات السابقة لإيزيدور فاليمان الذي يحمل الجنسية المزدوجة السويسرية و الأمريكية، عَمَله كأستاذً في جامعتي بَرن و فريبورغ، و عمله الأخير في جامعة العلوم التطبيقية لشمال غرب سويسرا” (وهي جامعة تُدار مركزياً، و تضم 9 كليات مع 50 مؤسسة دراسية في كانتونات أرغاو، وريف بازل، ومدينة بازل، وكانتون سولوتورن) في مدينة بازل.


و من ضمن أمور أخرى، عمِلَ إيزيدور فاليمان كعضوٍ في فريق الخبراء التابع لبرنامج
“البحوث في كلّيات العلوم التطبيقية وكليات التربية” DORE (الذي يشجع إجراء البحوث في مجالات العمل الاجتماعي، والصحة، والتعليم، والموسيقى والمسرح، والفنون، وعلم النفس التطبيقي واللسانيات التطبيقية)، و التابع لمؤسسة العلوم الوطنية السويسرية (SNF).

وقد بدأ هذا البرنامج الترويجي في عام 2003 وانتهى هذا العام. وقد ساهمت مؤسسة العلوم الوطنية السويسرية بمبلغ 46 مليون فرنك سويسري، كما ساهم شركاء في مجال البحوث بمبلغ 15 مليون فرنك.

وخلال هذه السنوات الثمانية، تم دَعم 302 طلباً من مجموع 750 طلب تم تقديمها.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية