جيش لا يحارب لكنه يتخيل أنه في معركة
تعيش سويسرا منذ أكثر من قرن ونصف، واحة آمنة وسط القارة الأوروبية التي شهدت حربين عالميتين ضاريتين.
إلا أن السويسريين يتوقعون دائما أنهم سيدخلون طرفا في حرب ما في وقت ما، ولذا، كان على قواتها المسلحة أن تتخيل دائما أنها في حالة حرب.
نظمت هيئة أركان القوات المسلحة السويسرية معرضا بمناسبة مرور مائتي عام على تأسيسها، كشفت فيه الستار عن استعداداتها المتواصلة للوقوف دائما على آخر التقنيات العسكرية، التي يمكن أن تستخدمها دفاعا عن النفس.
المعرض استضافه الأرشيف الفدرالي الوطني في العاصمة برن في الفترة ما بين 20 أغسطس و 17 أكتوبر، واستقطب اهتمام أعداد لا بأس بها من المواطنين على اختلاف شرائحهم، فتجد من بين الزائرين كبار السن، يستهويهم استرجاع ذكريات قديمة، أو استكشاف ما خفي عليهم أثناء خدمتهم، أو ما كان في طي الكتمان حقبة من الزمن. وشباب يريدون المزيد من تاريخ جيش بلادهم، الذي لم يخض حربا واحدة في التاريخ المعاصر، ويثير جدلا متوصلا حول ميزانية التسليح أو تصدير السلاح إلى الخارج.
مجموعة من البزات العسكرية، هي أول ما يقابل زائر المعرض، تشرح تطور ملابس الجيش السويسري، للجندي والضابط والقائد، وبعضها لشخصيات مشهورة كانت تشغل مناصب هامة في الجيش، لا سيما في أوقات الأزمات الحرجة.
ثم يمر الزائر على غرفة تغطي جدرانها الخرائط المجسمة، مع شاشات تعرض مشاهد إما لغرفة عمليات أو لمرحلة تخطيط وتجهيز أو من طائرة تقوم بمسح جوي، وكلها تعطي للزائر أجواء التدريبات والاستعدادات التي يقوم بها الجنود في حالات الطوارئ، ثم قاعة كبيرة تمثل غرفة هيئة الأركان.
هيئة الأركان “عسكرية – مدنية”
ينص القانون العسكري السويسري على أن المهمة الرئيسية لهيئة الأركان، هي الاستعداد التام والتجهيز لمرحلة الخطر، وهو ما يلمسه الزائر في القاعة الثانية للمعرض، حيث يرى ما قامت به الهيئة من استعدادات على مدى قرنين كاملين.
القاعة تنقلك إلى غرفة عمليات هيئة الأركان، بطاولتها المستطيلة الكبيرة وكراسيها الثمانية عشرة، ويشاهد الزائر على الجدران خرائط تاريخية وأخرى حديثة، وعلى الطاولة إما محاضر الجلسات أو صورة نصوص القرارات التي تم اتخاذها قبل عقود بعيدة، تعطي الزائر فكرة عن كيفية العمل والأسلوب الذي اتبعته هيئة الأركان خلال عملها، ويلاحظ الزائر أيضا مجموعة من الأجهزة والمعدات التي كان الجنود يستخدمونها في التدريب، وكيف كانت تواكب كل جديد.
وينقلك المعرض إلى أجواء حرب لم تحدث، أو تدريبات في أجواء مختلفة ونسمع في الخلفية أزيز الطائرات، وأصوات محركات معدات ثقيلة ومصطلحات عسكرية مختلفة بلغات سويسرا الأربعة (الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانتشية)، في خلفية تجعلك تعيش أجواء وضع خطط الهجوم والدفاع والتدريبات، وليست الحرب، التي لم تعرفها سويسرا منذ قرن ونصف.
التقنية التي حرصت هيئة الأركان على توفيرها للجيش لم تكن يوما ما خلف تلك التي تتسلح بها اعتى الجيوش قوة، ويُـشهد للعسكرية السويسرية أنها واكبت كل التطورات التقنية الجديدة المتعلقة لها، بل وابتكرت في بعض منها أيضا بشكل يتلاءم مع الطبيعة الجغرافية لسويسرا.
ويعتبر الجيش السويسري من القلائل في العالم الذي حافظ على جميع أنواع فروعه بشكل دقيق للغاية، ففي عام 1994 فقط ألغى نظام التعامل بالحمام الزاجل، وفي نفس الفترة أيضا ألغى سلاح الدراجات.
صورة الهيئة ليست لامعة دائما
الجيش السويسري يختلف في أسلوب عمله عن الأنظمة المتعارف عليها، فهو ليس جيشا نظاميا بالشكل الذي تعرفه أغلب الدول، بل يتحتم على كل فرد أن يؤدي الخدمة العسكرية على فترات قصيرة كل عام وإلى أن يصل إلى سن التقاعد، مع وجود عدد محدود في وظائف عسكرية ثابتة، تتوزع مهامها بين العمل الإداري أو التقني المتخصص، والتأهيل والتكوين بطبيعة الحال.
فهيئة الأركان ليست مسؤولة عن جيش تقليدي في واقع الأمر، بل عن جيش مدني في حالة السلم، متأهب في حالة الحرب، ومنتشر في جميع أنحاء سويسرا، من أصغر قراها إلى اكبر مدنها، ويضم جميع الرجال البالغين الأصحاء والنساء المتطوعات بطبيعة الحال.
وحتى هيئة الأركان ليست كلها من العسكريين النظاميين، فحسب آخر تشكيل معلن لها في عام 2000، يشغل الضباط العاملون التابعون للأسلحة المختلفة 41% من صفوفها، و32% تباعون للقطاع الاقتصادي والصناعي، و22% من الحكومة الفدرالية وقطاع التعليم والبحث العلمي، و5% من مجالات مختلفة.
الكفاءة العالية التي تميزت بها هيئة الأركان خلال قرنين انعكست بشكل إيجابي جدا على صورته أمام الرأي العام، إلا أن تلك الصورة كانت تهتز وبعنف إثر ظهور ما يعكر صفوها، سواء من مشكلات داخلية أو اتهامات بالقصور أو فضائح ترتبط بها، وهي ليست بالكثيرة في مجملها، ولكنها جزء من تاريخ العسكرية في سويسرا، التي حرص المعرض على توضيحها بشكل لائق.
فكان الحديث أولا عن سيطرة شخصيات محددة على مقاليد الأمور في هيئة الأركان، وانتشار الوساطة وسوء استغلال النفوذ بين كبار رجال الجيش، والتي عُرفت تاريخيا بـ”فضيحة طحالب البحر” 1903، ثم الخلاف الحاد على الاستراتيجية العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي كانت “مشكلة إيجابية”، لأنها ظهرت بسبب اختلاف وجهات النظر حول أفضل سبل الدفاع عن سويسرا، دون أن يؤثر هذا على كفاءة الجيش.
أما الفضيحة الأكثر شهرة فكانت في ستينيات القرن الماضي، والمعروفة باسم “ملف ميراج”، المتشعبة للغاية، تداخلت فيها سوء عوامل استغلال رأس المال، والعلاقات السياسية الخارجية مع كل من فرنسا وإسرائيل، ولكنها لا تزال حتى اليوم حديث المؤرخين العسكريين والمهتمين بالعلاقات الخارجية السويسرية.
القوة … أحد دعائم الاستقرار
عندما تنتهي زيارتك للمعرض وتتخيل أنك كنت في أجواء حرب افتراضية، تخرج من قاعته بصورة متكاملة عن هيئة الأركان، مفادها أن الاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها أثناء عقدين كاملين، كانت تعتمد على وضع سيناريوهات مسبقة لأزمات يمكن أن تحدث، واعتمدت في أسلوبها على الأوضاع السياسية في العالم بأسره وليس في أوروبا أو حول سويسرا فقط.
ومع انتهاء الحرب الباردة، تغيرت هذه التوجهات، واصبح المعلـَن منها الآن هو سيناريوهات مواجهة الكوارث الطبيعية، وبعض الأفكار حول التعاون مع دول معينة، واتفاقية الشراكة من أجل السلام مع حلف شمال الأطلسي، أما من هو العدو الذي يخشاه السويسريون، فليس معروفا حتى اليوم.
تامر أبوالعينين – سويس انفو
“تخيل الحرب” هو اسم المعرض الذي نظمته هيئة أركان الجيش السويسري من 20 اغسطس إلى 17 أكتوبر بمناسبة مرور مائتي عام على تأسيسها، والذي يتعرف الزائر من خلاله على تطور جيش بشكل متقدم للغاية، ولم يخض حربا واحدة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.