مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بحيرة على ضفافها تطيب الحياة والفلسفة

foto Wam

يعتبر فريدريك نيتشه من أعظم الفلاسفة والموسيقيين والفنانين، وجد الطمأنينة في أكناف جبال الألب السويسرية، هناك، حيت تتشابك أطراف بحيرة سيلس مع سهول ماجولاّ، لتعانق أعالي غراوبندن بالـ"أنغادين" .

وفي هذه الربوع، تتعدّد البحيرات وتتناثر القرى وتتجلى الواجهة الصخرية الناصعة لسلسلة جبال تتَـوج الآفاق، فتجعل منها مشهدا يسحر الألباب.

في رسالة له، يصف نيتشه هذا المشهد بأنه “ملحمي وشاعري”، وشهد كتابة جزء من “هكذا تكلم زرادشت”، أحد أشهر أعمال الفيلسوف.

وعلى الرغم من مرور قُـرابة قرن على المصايف التي تقضاها نيتشه هناك في الثمانينات من القرن التاسع عشر، فإن تلك المنطقة لم تشهد تغيّرات كبيرة. وفيها، كان نيتشه يقطن غرفة في بناية من طابقين مطلية بلون أبيض ناصع، تحولت الآن إلى محال تجارية.

ويقول يوهاخيم كونغ، المستأمن على “دار نيتشه” في سيلس ماريّا: “لحسن الحظ، ليس بالإمكان تغيير واجهة الجبال والبحيرات، لكن هذه المنطقة، أصبحت منطقة سياحية، ولم تعد تتسع لممارسة رياضة المشي في ممرات معزولة، هذا بالرغم من محاولة منطقة سيلس الحدَّ من هجمة السياحة، كتشييدها موقف للسيارات تحت الأرض مثلا”.

وعانى نيتشه من مرض الصّـداع النصفي ومن الغثيان وضعف البصر، ومن اضطرابات عصبية شديدة في آخر حياته، لكنه كان أيضا من عشّاق رياضة المشي.

ومن المعروف عنه، اقتناعه الرّاسخ بالأثر البالغ الذي تتركه الظروف الخارجية في الطبيعة الإنسانية. وورد في كتابه “الإنسان الأعلى” (Le Superman): “لا نثق في أي فكر لا ينشأ في أجواء مفتوحة وفضاءات يتمتع فيها الجسد بحرية الحركة، ولا نثق في فكر لا ينبع من وحي البدن المتوثّب، وكل الأفكار المسبقة تنبع من الخمول، إنها أكبر خطيئة في حق العقل المقدس”.

وتمثل مالوجّا، بالنسبة لهذا الفيلسوف، الجسر المثالي للربط بين المياه والجبال، وأما الخليج الهادر ومصبّـه في بحيرة سيلس على بـُعد خطوات معدودة من منزله، فكان أحد الأماكن المفضلة لديه”.

كان مضطهدا

واليوم، تماما مثلما كان الحال في نهاية القرن التاسع عشر، بإمكان الزوّار إتّـباع نفس الطريق والجلوس على الصخور الساحلية، متأملين خرير المياه المتدفقة ومستظلين بالقمم الشاهقة الجاثمة على صدر تلك البحيرة الهادئة.

ويروي سكان سيلس ماريّا، الذين كان ينتابهم شعور مرتبك تجاه نيتشه، تعرّضه إلى الاضطهاد والاستفزاز على يد أطفال المدارس العابثين خلال جولاته اليومية. ويقول كونغ مبتسما “عندما يراه الأطفال يتمشى على ساحل البحيرة، يملأون مظلته بالحَـصى، وعندما يفتحها في غفلة من أمره، تمطر رأسه الحجريات الصغيرة”.

وأُعجب نيتشه بتلك المنطقة أيّما إعجاب، إذ أنها ظلت بكرا لم تعبث بها يد الإنسان، وأنها نموذج الطبيعة التي يشعر بأنه جزء منها، لكنه غير قادر على السيطرة عليها، ليس لهذا فحسب، بل لجفاف مناخها وشمسها الساطعة، على الرغم من معاناته المستمرة من البرد القارص الذي تشهده بحيرة سيلس، حتى في فصل الصيف. و”تصل درجة الحرارة في غرفة نومه، سبع درجات في فصل الصيف، وكتب نيتشه لأمه يستجديها إرسال جوارب وقفازات”، يضيف كونغ.

وفي تلك الغرفة بالذات، بإمكان الواحد منا أن يجد أهم ما كان يربط نيتشه إلى كائن عبقري آخر: هذه الطاولة الخشبية التي كان يجلس إليها الفيلسوف وهو يدوّن أعماله، وتبدو غرفته وكأنها بيت خشبي متواضع تحتل الأشجار جزء منه”.

ويبدو أن ما لم يعلمه نيتشه في ذلك الوقت، هو أن الشابة الألمانية اليهودية، آن فرانك، ستقضي فصليْ صيف في هذا البيت الخشبي نفسه عشرات السنين بعد ذلك”.

ويقول كونغ “الطريف في الأمر، أن إحدى عجائز القرية قرّرت أخيرا زيارة دار نيتشه لأوّل مرة”، ويضيف “إنهن لم يأتيَـن أبدا إلى المتحف، لكن هذه العجوز جاءت بعد أن رأت إحدى الملصقات المشهِّـرة لمعارض ومحاضرات يتم تنظيمها”، وعندما وقع بصرها على آن فرانك، هتفت مباشرة “هذه إحدى الفتيات اللاتي كنّ يلعبن معي أيام الطفولة، لكنها كانت تجهل مطلقا الحال التي كانت عليه أنّ من قبل”.

وتصدر دار نيتشه للنشر مخطوطات ورسائل وأعمال، وتحتفظ حتى بقناع موت نيتشه، لكنها تمثّل بالأساس مكان يلتقي فيه المفكرون والفلاسفة المشتغلون بدراسة أعمال هذا الفيلسوف، وتوفِّـر لهم ناديا ومسكنا، وتمكنهم من تنظيم حوارات ومناظرات ومعارض، وتشكِّـل في مجملها مشهدا متكاملا يستمد إيحاءه من ذلك الفيلسوف العبقري.

سويس انفو – جولي لينلي – سيلس ماريّا

ولد نيتشه سنة 1844 في المدينة الألمانية، روكن.
عيّن سنة 1869، أستاذا مدرّسا لفقه اللغة بجامعة بازل.
من ضمن كتاباته :
ما وراء الخير والشر.
وفي أصل الأخلاق.
هكذا تكلم زرادشت.
إرادة القوة.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية