مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

خميس الشماري: “أنا إصلاحي متجذِّر، والسلطة جعلتني معارضا”

AFP

يجمَـع السيد خميس الشماري في شخصه أبعادا متعدّدة. فهو من جهة، شخصية حقوقية لم تغِـب عن أبرز المحطّـات التي عرفتها مسيرة حركة حقوق الإنسان في تونس منذ لِـجان الدفاع عن المساجين السياسيين في الستينات، مُـرورا بالانتساب إلى الرابطة التونسية للدِّفاع عن حقوق الإنسان، التي أصبح كاتبها العام، وُصولا إلى مُـختلف مبادرات الاحتجاج ضدّ انتهاك الحريات والحقوق الأساسية، لكنه إلى جانب ذلك، هو وجْـه بارز من وجوه اليَـسار التونسي ومعارض ديمقراطي وناشط سياسي، أثار باستمرار الجدل حول مواقِـفه وتحرّكاته.

وإذا كانت الطبيعة تكرَه الفَـراغ، فإن خميس الشماري يرفُـض أن يكون غائِـبا عن أي حدث له علاقة بالنِّـضال الديمقراطي. كذلك، لا يُـمكن أن تكون على صِـلة به، دون أن يتحوّل إلى مصدر رئيسي من مصادر معلوماتك، نظرا لِـما يتمتّـع به من شبكة واسعة للعلاقات والمصادر، مع قُـدرة لا تقبل المنافسة في كشْـف المستور وغير المعلوم من أخبار الكواليس والغُـرف المُـغلقة.

الحوار الذي أجريناه معه، تجنّـبنا فيه التعليق على الآني وأردناه أن يكون تأمّـلات في تجربة شخصية وتعميق لنِـقاش يُـفترض أن يُـشارك فيه الكثيرون، يجمع بين استِـحضار الماضي وممارسة النّـقد الذاتي والتفكير قليلا في استِـشراف المستقبل.

Swissinfo.ch: لن نتوقّـف في هذا الحوار عند الانتخابات التي جرت مؤخّـرا في تونس، ولكن ما لفَـت انتباهي في موقِـفك، أنك بالرغم من تأكيدك في عديد التصريحات على أن شروط المنافسة الديمقراطية لم تكُـن متوفرة حسب اعتقادك، إلا أنك تمسّـكت إلى آخر لحظة برفضِـك الدّعوة إلى مقاطعة الانتخابات، كما فعل غيرك. على أي أسُـس بَـنيْـت هذا الموقف؟

خميس الشماري: سؤال وَجيه. فأنا من خلال مسيرة حياتي السياسية، سيكون من الصّـعب علي أن أخالِـف قناعاتي وأقبل بفِـكرة المقاطعة، لأني سأكون عندها غير صادِق مع نفسي. نعم هناك مَـن قال بأن اللّـعبة مغشوشة، لكن ذلك من وِجهة نظري لا يمنَـع من خَـوْض معركة سياسية، ولاسيما بالنسبة للانتخابات الرئاسية. المقاطعة النشيطة، التي دعا إليها بالخصوص السيد حمى الهمامي باسم حزب العمال الشيوعي التونسي، تستوجِـب ميزان قِـوى مغايِـر لِـما هو سائد، إلى جانب شروط أخرى، وفي مقدِّمتها التحرّك الميداني.

ويُـمكن لهذا الحزب أن يعتبِـر – بعد الأخطاء التي ارتكبتْـها السلطة والمحاولات التي قام بها – أنه قد مارَس المقاطعة النشيطة، لكن هل ينطبِـق ذلك على بقِـية الأطراف التي تبنّـت تلك الدّعوة، مثل السيد راشد الغنوشي أو مقاطعة آخر لحظة للحزب الديمقراطي التقدّمي. أنا لا أعتقِـد ذلك.

جرت العادة أن تُـحمِّـل المعارضة السلطة مسؤولية ضعفها وفشَـلها في تحقيق أهدافها، لكن من وِجهة نظرك، ما هو حجم مسؤولية المعارضة عمّـا آل إليه وضعها؟

خميس الشماري: للأسف، ضاعت مرّة أخرى فرصة لتغيير أسلوب إدارة الحياة السياسية. وأنا أعتقد بأن تونس تستحقّ أن تُـنظَّـم فيها انتخابات تختلف عمّـا حدث.

لكن مع الأخذ بعيْـن الاعتبار هذا الارتباط العُـضوي بين الحزب والدولة والإدارة، لا يُـمكن أن ننكِـر أن المعارضة تتحمّـل قِـسطا من المسؤولية. جزءٌ منها مُـلقاة على ما يُـسمّـى بأحزاب المُـوالاة، التي تُـشبه أحزاب البلدان الاشتراكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وللتذكير فقط، كان يوجد في بولونيا 14 حزبا معارضا، منه 11 حزبا مرتبطا بالاستعلامات. أما في ألمانيا الشرقية، فقد كان عددها إحدى عشر حزبا. لكن ما يميِّـز أحزاب المُـوالاة في تونس، أن بعضها خرج من صُـلب المعارضة الديمقراطية، وبالتالي، لا يمكن حصْـر التطوّرات التي حصلت في صُـلب هذه الأحزاب في الأخطاء الفردية، وهو ما يجعلني أطرح جُـملة من الاحتمالات لتفسير ما حصل.

مثلا لعلّ الاعتدال الذي تميّـز به السلوك السياسي لرجل أحترمه كثيرا، وهو السيد أحمد المستيري، كان موقِـفا خاطئا! أو لعلّ رفضنا لصيغة الجَبهة الوطنية التي طرحت عام 1989، يوم كنت أنتمي لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، لم يكن موقِـفا صائبا بعد أن قبلت أطراف عديدة بذلك، ومن بينهم الإسلاميين الذين رضَـوا بثلاثة أو أربعة مقاعِـد، ثم تراجع الجميع بعد أن قرّرنا رفض العرض الذي قدّم!

ولعل السبب يعود إلى أقدم من ذلك، وتحديدا صبيحة يوم السابع من نوفمبر، عندما كُـنا نتحاوَر حول نصّ البيان الذي ستصدره حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وكان هناك من يدعو إلى تأييدٍ مُـطلق، في حين كان مِـنّـا من يقترح شيئا أقلّ اندفاعا. ويجب أن أذكر في هذا السياق بأن الحزب الدستوري لم يكُـن مذكورا في نصّ بيان السابع من نوفمبر، ثم تمّ إلحاقه في المساء ضِـمن التشكيلة الوزارية. فماذا سيكون الوضع لو نزَلَـت القِـوى السياسية يومَـها إلى الشارع ورفَـعت الشعار التالي “نعم للتّـغيير لا للحزب الواحد”؟ أم لعلّ الشّـبح المُـخيف الذي أطل علينا من الجزائر عام 91 وجعل الكثيرين ـ وأنا منهم ـ يقبلون صِـيغة القانون الانتخابي المغشوش الذي نُـظِّـمت على أساسه انتخابات 94، لعل ذلك لم يكن اختيارا سليما؟ هذه الاحتمالات وغيرها تجعلُـني اليوم أقول بأن وضْـع أحزاب المُـوالاة، جاء نتيجة إفرازات لجِـيل كامل.

كذلك الشأن بالنسبة للمَـسارات التي شهِـدها اليسار التونسي، وبالذّات مجموعات أقصى اليسار. فحين ألاحِـظ بأن مِـن مؤسِّـسي تيار الوطد، جماعة حزب العمل الوطني الديمقراطي قد اعتبروا في الفترة الأخيرة أن حركة التجديد كان عليها أن تخفِّـف مِـن “حِـدّة خِـطابها السياسي”، في حين أن هذا الحزب قد سبق له أن اعتبَـر في أواخر السبعينات أن مجرّد الانتماء إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، انحرافا.

لقد توفّـرت للمعارضة فُـرصة زمانية استمرّت من 1980 إلى 1990، لكنها خلَـت من وجود خطّـة إستراتيجية وسادت مُـمارساتها العَـفوية والنّـزوات الفرْدية، ولم يتِـم اللّـجوء خلالها إلى إقامة جبهة لتخويف السلطة والضَّـغط عليها.

أما بالنسبة للمعارضة الجِـدية، فإن ظروف القمْـع التي واجهتها حَـرَمتها مِـن أن تكون فاعِـلة، لكن حُـبّ النفس زاد من إضعافها وتشتُّـتها، إضافة إلى التورّط في صراعات هامِـشية أو خاطئة، وأشير بالخصوص إلى التيار الاستِـئصالي الذي تسبّـب في إحداث شرْخٍ في صفوف المعارضة الجدية، لمجرّد قِـيام جزءٍ منها بإجراء حِـوار سياسي وفِـكري مع الإسلاميين، وهو أمر استغلّـته السلطة بشكل واضح.

لكن مع أهمِـية هذه العوامل، فإنه لا يجوز مُـقارنة مسؤولية المعارضة بمسؤولية السلطة، التي تعمّـدت كسْـر أي نَـواة لقيام تعدُّدية مرتكِـزة على عمَـل مؤسّـساتي قابل للنمُـو والتطور.

طيب في ضوء ذلك، هل تعتقِـد بأن المعارضة سيكون لها دور – ولو محدودا – في التطورات القادمة التي ستشهدُها تونس؟

خميس الشماري: المشهد السياسي، مثله مثل الطبيعة، يرفُـض الفراغ. وفي هذا السياق، أريد العودة إلى تجربة أوروبا الشرقية. فالمعارضة هناك لم تختَـر العمل المسلّـح، مثلما فعلت المعارضة في أمريكا اللاّتينية، ولهذا، المطلوب من المعارضة التونسية أن تبتكِـر أساليب متجدّدة تتجاوز البلاغات واللقاءات، دون التورّط في أسلوب المغامَـرة، مثل الدعوة إلى الانتفاضة المُـستمرّة. وقد سبق لي أن قُـلت لمنصف المرزوقي بأن بعض ما يطرحه من أفكار، هي حق، ولكن يخشى أن يكون مردودها باطلا.

فالمقاومة المدنية لا يمكن تنزيلها في مناخ فاقِـد لشروط نجاح، مثل هذا التوجّـه. إن المقاومة المدنية شِـعار هامّ وتصوّر إيجابي، لكنه يبقى مرهُـونا بِـما تضعه فيه من مضمون، حتى لا يسقُـط في المُـغامرة.

القضية في بعض وجوهِـها، قضية أجيال. لقد نجحنا في بعض الجوانب، مثل تأسيس حركة 18 أكتوبر وإدارة الحوار مع حركة النهضة، وتمكّـنا بفضل ذلك من إصدار ثلاث نصوص، أعتبرها تشكِّـل مرجعية هامة، لكننا في المقابل، فشلنا في إيجاد صِـيغ نِـضالية وأشكال تدخّـل ميْـداني متجدّدة وناجعة، ولا يعود ذلك فقط إلى قيام السلطة بمنع اجتماعاتنا وإفشال تحركاتنا، وإنما لأن ابتكار هذه الوسائل مهمّـة مطروحة على جِـيل غير جيلنا.

نحن في حاجة إلى تركيبة مُـختلفة تجمَـع بين الجُـرأة والحِـكمة، حتى لا تؤدِّي الشجاعة إلى التهوُّر والانزِلاق، أي هناك قطيعة قائمة بين المعارضة الجدِّية وجِـيل الشباب الموزّع بين اللاّمبالاة و”الحرقان” أو هؤلاء الذين يُـعدّون بالمئات اتُّـهموا بالإرهاب دون دليل. أما الذين يؤمنون بالتغيير الديمقراطي من الشباب التونسي، فعددهم لا يتجاوز 1% في أحسن التقديرات.

عُـرفت منذ شبابك بمعارضتك المستمرّة للسلطة، وقد عِـشت تجربةً قصيرة نسجت خلالها علاقة مفتوحة وإيجابية مع النظام، لكنك عُـدت بسرعة إلى موقِـف المعارض. ما هي أهمّ الاستخلاصات من هذه التجربة الطويلة؟

خميس الشماري: بدأت علاقتي بالسياسة من خلال اعتِـناقي للأفكار الشيوعية، لكن سُـرعان ما اتّـضحت لي عُـيوب الستالينية. فأحداث المجَـر (هنغاريا) عام 56، ثم تقرير غورباتشوف وما حدث في براغ، كلّـها وقائع بيّـنت حقيقة هذا النظام الاشتراكي المنشود.

صحيح كان موقِـفنا من نظام الحزب الواحد ومن بورقيبة تحديدا، موقفا مُـعارضا، حيث لم يتركوا لنا اختيارا آخر. وتحظرني في هذا السياق، شخصية غير سياسية، لكنها تتمتّـع بحدَس قوي، وأقصد به هشام جعيط، الذي نشَـر مقالا في تلك المرحلة بمجلّـة “جون أفريك” تحت عنوان “الوصوليون قد وصلوا”.

صحيح كُـنا نتمتّـع بجُـرأة الشباب وحماسته، لكن الماسكين بالسّـلطة جعَـلوا منا مُـعارضين بالضرورة. وأتذكر يوم استقبلني سي أحمد المستيري في إحدى أيام سنة 1968، عندما كان وزيرا للدفاع، وكنتُ أنا في مرحلة التّـجنيد العسكري، ودامت الجلسة معه ساعتيْـن ورُبع، حاول خلالها أن يُـقنعني بالبحث عن حلٍّ لمشكلة اتِّـحاد الطلبة وبضرورة بناء علاقة حوارية مع النظام.

وقال لي خلال ذلك اللقاء “أستطيع أن أضمن لك بأن التوصل إلى حلّ مع الحزب والدولة، أمر ممكن”. وقد فكرت جيِّـدا في ذلك العرض بعد انتهاء مدّة التجنيد وحاورت بعض الأصدقاء في الجامعة، لكن بعد عشرة أيام من خروجي، قامت اللجنة المركزية للحزب الحاكم بإقصاء أحمد المستيري، الذي كان واثقا من نفسه.

قبل ذلك التاريخ، وعندما تمّ يوم 12 مايو 64 تأميم أراضي ومُـمتلكات المستعمرين الفرنسيين، طرح البعض منّـا فكرة التسلل إلى أجهِـزة الدولة لمحاولة دفع المسار نحو الاشتراكية من خلال تسيير أراضي الدولة، وبهذه الفكرة، ترسّـخ منهج الدّخول في صفوف الحزب الحاكِـم ومُـحاولة تغييره من التدخل، وهو المنهج الذي اعتمده الترتسكيون، بالخصوص في الكثير من تجاربهم نظرا لِـما تعرّضوا له من اضطهاد مزدوج، سواء من قبل الأنظمة الرأسمالية أو من قبل الأحزاب الشيوعية، لكن عندما تم اعتقالنا بتاريخ 21 مارس عام 1968، كتب السيد أحمد بن صالح افتتاحية تحت عنوان “خيانة المتعلمين “، بمن فيهم الذين دعموا التوجه الاشتراكي.

هذا يعني أن فرصا عديدة قد توفرت لبناء تفاهم مع النظام. حصل ذلك في مناسبات كثيرة مثل 65 و67 و68 و70، كذلك مؤتمر “قربة| لاتحاد الطلبة عام 71 ثم 72. كل هذه التواريخ شهدت محاولات لتعامل إيجابي مع النظام، لكنها فشلت. ثم جاءت مرحلة ما بعد التغيير، ومعه أنجز (الميثاق الوطني) الذي سُـرعان ما وضع في الأدراج.

بعد ذلك، جاءت المحاولة التي ساهَـمْـت فيها شخصيا، لكنني أقِـر بأنها كانت سلبية، وأقصد بها محاولة تفعيل فكرة التعددية من فوق، بعد أن عجزنا على إنجازها من تحت، وكذلك خوفا من شبح الإسلاميين الذي ظهر من جهة مع القائمات البنفسجية خلال الانتخابات التشريعية لسنة 89، وبعدها جاءت تجربة الإنقاذ بالجزائر من جهة أخرى. وقد فشلت أيضا تلك المحاولة.

هذه الأمثلة وغيرها تدل على أنني لم أختر أسلوب المعارضة الآلية، لكن بالرغم من تواتر فشل كل هذه المحاولات وغيرها، فإنني لا أشعر بالاحباط. نعم ارتكبت أخطاء، لكني رفضت الانسياق وراء التيار الماوي، لأن ذلك لا ينسجم مع تصوري لأسلوب التغيير.

المؤكد أنني طيلة هذه المسيرة، بقيت معارضا للحكم الفردي والقمع والتعذيب ونظام الحزب الواحد، هذه الاستمراية تجعلني مرتاح الضمير. صحيح كانت طموحاتنا أكبر، وكان القمع شديدا أحيانا، لكن أخطاءنا كانت كثيرة، مثل الانزلاقات الأيديلوجية والحسابات الخاطئة والتمسك بمواقف باطلة.

كانت مرجعياتي في تلك الظروف كاسترو في بدايته وفرانس فانون ومحمد حربي بجبهة التحرير الجزائرية، وعبد الناصر في خطاب تأميم قناة السويس وضحتكه التي أطلقها في تلك اللحظة والمعبرة عن شحنة التحدّي، والمهدي بن بركة، كل هذه الرموز تشكل المنظومة المرجعية لدي. وباستثناء ما آلت إليه التجربة الكوبية، فإنني ما زلت متشبّـثا بهذه المرجعية، كما أعلن بأنني في ضوء ذلك كله، متمسك باختياري الإصلاحي المتجذر. وهو اختيار ليس سهلا.

عبّـرت في تصريحاتك الأخيرة عن تخوّفك من الطريقة التي ينتهِـجها النظام أو شق من داخله لإعادة الاعتبار للمسألة الدينية. ما هو الخطر الذي رأيته في هذا المسار الذي يبدو طبيعيا، خاصة وأنه جاء في أعقاب تجربة تصادمية فاشلة خلطت بين الصراع مع الإسلاميين وبين الظاهرة الدينية؟

خميس الشماري: يبدو أنه قد حصل سوء فهم للموقف الذي عبّـرت عنه. لم أقصد في تصريحاتي تلك، إبراز خطر ما، وإنما أردت أن ألفت الانتباه إلى مسألة أعتبرها هامة.

لقد قامت السلطة ولمدّة سنوات، بشيْـطنة حركة النهضة، رغم أن هذه الأخيرة تُـعتبر حركة معتدلة مقارنة بغيرها من الحركات الإسلامية في المنطقة، وأصبَـحت مستعدّة لقبول لُـعبة المؤسسات، مما يجلعني أعتبِـر خطاب النهضة اليوم، بعد كل التطورات التي حصلت، من أكثر الخطابات اعتدالا في العالم العربي والإسلامي.

ورغم هذا التطور، فإن النظام واجه أصحاب هذه التَـجربة بالحديد والنار، وجعل من هذه الحركة غولا وشيطانا. اليوم، وبعد كل ذلك، يأتي نفس النظام ليتبَـنّـى خطابا مُـختلفا على الصعيد الدِّيني، بهدف محاولة التمسك باحتكار السلطة من قِـبل الحزب الواحد، في حين أن التطورات التي حصلت في هذا المجال، تقتضي الشروع في ترسيخ تعدّدية فعلية وليست شكلية تسمح بوجود تيار إسلامي نيِّـر أو معتدل.

أنا لست ضدّ أي صَـحوة إسلامية، بل على العكس، أقدَـِّر وأحترم الشعور الشعبي بالانتماء، لكنني أرفض أن يوظف هذا الشعور في اتجاه أكثر محافظة، كما أرفض بشكل موازي أن تُـستغل هذه الصحوة لمواصلة تجربة الحزب الواحد.

أعتقد بأن الخروج من بوتقة الحزب الواحد لن يحل كل المشاكل، لكنه بالتأكيد سينقلنا إلى أجواء مختلفة تجعل مطالب الإصلاح السياسي قابلة للتبلوُر والتجسيد تدريجيا، إذا أنني أريد أن أكشف ازدواجية لغة النظام وخطابه. ولا ننسى أن السلطة تعتمد في دعايتها البدائية المستمرة على توظيف ثلاث مسائل وهي: الاستقرار الاقتصادي النِّـسبي، الذي لا ننكر وجود بعض مظاهره، لكن دون أن يخفي الصعوبات والمشكلات القائمة.

وثانيا ملف المرأة والمساواة، حيث توظيف سياسي مكثف للمكاسب التي تحققت لها بشكل حوّله إلى خطاب غير منتج. وثالثا، استعمال ما يسمّـى بالحصانة ضد الإسلام السياسي.

إن استعمال قضايا الهُـوية من قبل السلطة، دليل على فشل سياساتها الاستئصالية، إذ يجب أن نأخذ في الحُـسبان هذا البُـعد الديني المكوّن للشخصية الوطنية، واعتبار ذلك أمرا مشروعا، يجب أن ننتبه في المقابل إلى وجوب أن يؤدّي ذلك إلى دعم التنوّع الفكري وقِـيم التسامح بين مكوِّنات المجتمع التونسي.

هل تستبعد حصول تحالف أو على الأقل تقاطُـع بين حركة النهضة وبين السلطة، إذا ما ذهبت بعيدا في اهتمامها بالبُـعد الديني، وما هي انعكاسات ذلك حسب تقديرك؟

خميس الشماري: أنت تعلَـم حجم الصعوبات التي تواجِـهها حركة النهضة بعد سنوات القمع والجفاف السياسي، كما تعلم الجهود التي بذلناها لتذويب الجليد مع هذه الحركة بالذات، ومع ذلك، لا أستبعد أي احتمال في المجال السياسي القابل باستمرار للتطور، لكن الوسائل التي استعملتها السلطة لاختراق هياكل حركة النهضة وشبكاتها والضريبة القاسية التي دفعها أنصارها، لا تنبِّـئ بخير. والذين نفَّـذوا هذه الخطة وحاولوا أن يلعبوا أدوارا غير واضحة في الفترة الأخيرة، لا يفعلون ذلك من أجل تطوير الأوضاع وتحسينها، وإنما هُـم ينفذون خطة ذات طابع أمني.

كما أن المقارنة بين الميثاق الوطني والميثاق الاّئيكي، الذي وضعه أتاتورك وفرضه الجيش، مقارنة في غير محلها. وشخصيا، أعتقد بأن ما حدث في تركيا يشكل سابقة هامة تحتاج لمزيد من الرصد والتحليل.

المؤكد عندي، هو أن بوْصلتي تتّـجه دائما نحو رفض الاحتكار الدِّيني، باعتباره أداة لدعم الاحتكار السياسي وعرقلة روح وفكرة الإصلاح السياسي، الذي لا مناص منه. فهو رِهان يجب أن يتحقق، لأن البديل عنه سيكون بالضرورة مزيدا من الاستبداد.

أجرى الحوار صلاح الدين الجوشي – تونس – swissinfo.ch

تونس (رويترز) – قضت محكمة تونسية يوم الخميس 26 نوفمبر بسجن الصحفي المعارض توفيق بن بريك لمدة ستة أشهر، بعد ادانته بتهمة الاعتداء على امرأة في الشارع، في محاكمة وصفها حقوقيون بأنها تهدف لاسكات انتقاده للحكومة. وبن بريك معارض بارز لنظام الرئيس زين العابدين بن علي.

وقالت منظمات دولية تعنى بحرية الصحافة، ان قضية بن بريك ملفقة بهدف تكميم انتقاده للرئيس. وقال برنار فاليرو، المتحدث باسم الخارجية الفرنسية معلقا على الحكم “نأسف لهذا القرار ونعيد التأكيد على دعم حرية الصحافة في تونس وفي كل مكان”. وقالت منظمة مراسلون بلا حدود، انها ستواصل الضغط على الحكومة التونسية سعيا لاطلاق سراح بن بريك.

وقال جان فرانسوا جوليار من منظمة مراسلون بلا حدود لرويترز “نشعر بخيبة أمل، لان المخرج الوحيد في هذه القضية هو الافراج عن بن بريك”. واضاف “لكننا تنفسنا الصعداء قليلا، لان الحكم هو ستة اشهر وليس اربعة او خمسة أعوام. يبدو ان الضغط الدولي كان لفائدة بن بريك”.

واتخذت القضية بُـعدا دوليا، بعد ان انتقد وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنر اعتقال بن بريك، وقال انه غير موافق على اعتقال صحفيين في تونس. وجاء رد الرئيس بن علي في خطاب القاه في وقت سابق هذا الشهر، وهاجم فيه ما سماه “التدخلات الاجنبية في الشؤون الداخلية” لبلاده.

وقالت المحامية راضية النصرواي لرويترز، ان بن بريك سيقضي ستة اشهر سجن.. ثلاثة بتهمة العنف وشهرين بتهمة الحاق الضرر بأملاك الغير وشهر واحد لانتهاك الاخلاق الحميدة”. وأكد مصدر قضائي صدور هذا الحكم.

وقال مسؤولون تونسيون ان بن بريك متهم بالاعتداء على امرأة عنوة وتهجمه عليها بعبارات فيها مساس بالاخلاق الحميدة، بينما قال بن بريك ومحاموه انه معتقل بسبب مقالات نشرها في صحف فرنسية، وقالوا ان المرأة الشاكية من أعوان البوليس السياسي. ويكتب بن بريك (49 عاما) في صحف فرنسية من بينها لونوفال اوبسرفاتور. وقال بن بريك الاسبوع الماضي مخاطبا القاضي خلال جلسة لمحاكمته “المرأة التي رفعت ضدي شكوى تنتمي لاحدى وحدات البوليس السياسي في تونس”. وأضاف “انا معتقل بسبب كتاباتي… انا رهينة الرئيس زين العابدين بن علي”.

لكن فوزي البعزاوي – وهو محامي المرأة الشاكية – قال ان بن بريك اعتدى على موكلته في بلد تحترم فيه النساء ويجب ان لا يفلت من العقاب مهما ادعى انها محاكمة سياسية. ويتهم معارضون ونشطاء في مجال حقوق الانسان تونس بانها تستخدم الشرطة والقضاء بهدف اسكات أصوات منتقديها من المعارضة والصحفيين المستقلين. وتنفي تونس هذه الاتهامات، وتقول انها تتيح حرية التعبير، لكن لا أحد فوق القانون، مهما كانت صفته. ويقول بن علي، الذي يحكم تونس منذ 22 عاما، ان بلاده حريصة على احترام حقوق الانسان وحرية التعبير وانها تتعرض لحملة تشويه من قِـبل بعض المناوئين.

وانتخب بن علي الشهر الماضي لفترة رئاسية خامسة بنسبة 89.62% من الاصوات. وينسب اليه العديد من التونسيين الفضل في ضمان الاستقرار الامني والرخاء الاقتصادي والاجتماعي.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 26 نوفمبر 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية