مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

لماذا تمتنع سويسرا  عن اقتناء طائرة لإجلاء رعايها من مناطق الأزمات

Uk Mod © Crown Copyright 2023

هناك العديد من السويسريين الذين يعيشون ويعملون في الخارج. لكن يحدث أن تَضطَر الحكومة السويسرية إلى إجلاءِ رعاياها وإعادتهم إلى البلاد، لا سيما عندما تغرق أحد هذه المناطق في حالة من الفوضى والصراعات. لكن ماذا يحدث عندما تفتقر الدولة الصغيرة إلى طائرة تتولى هذه المهمة؟ النقاش حول هذا الموضوع طفا على السطح مجددا.

تُمَثِّل عمليات إجلاء الرعايا السويسريين من مناطق الأزمات تحَديًا يتكرر في كل مرّة. ورغم استعداد البلاد للتعامل مع الأزمات من الناحية النظرية – حيث تحتفظ بقوات نُخبة مُتخصِّصة، وقوات إنقاذ مؤهلة تأهيلا عاليا، ومركزا متطورا لإدارة الأزمات – إلّا أن الأمور قد تَتَعَقَّد رغم ذلك، مع ضرورة نَقل المواد والقوات والمُتخصصين إلى مناطق الأزمات، وعدم توفر سويسرا على طائرة نَقل متعددة الوظائف لتنفيذ هذه المهام. والغريب أنها تمتنع عن اقتناء واحدة منها عمدا.

لكن لماذا؟

تُجَسِّد مسألة طائرة الاخلاء مثالا واضحا على التناقض المُتكرر للموقف السويسري عندما يتعلق الأمر بالشؤون الدولية: فهي من ناحية ترتبط بشبكة دولية واسعة وتشارك في مجموعة متنوعة من الأنشطة الإنسانية، لكنها من ناحية أخرى تميل إلى العمل بشكل مستقل، وتفضل الاعتناء بنفسها. لكنها، وبسبب حجمها، كثيرا ما تصطدم بمحدودية قدراتها.

“اتصالات أفضل تعني إدارة أفضل للأزمة”

مع ذلك، فإن التعامل مع الأزمات الكبيرة لا يمكن أن يكون جهدًا فرديًا أبدًا. فمثل هذه العمليات – كما في العملية الأخيرة التي تم تنفيذها في الخرطوم – تتم دائِمًا من خلال تعاون دولي وثيق. وفي حالة السودان، تم تنسيق عملية الإنقاذ على مستوى القارة الأوروبية من طرف الاتحاد الأوروبي.

سويسرا هي جزء من النظام الأوروبي لإدارة الأزمات الذي يوظّف موارد الاتحاد الأوروبي المشتركة في حالة حدوث أزمة. وهي تبني شراكات في مجالي الوقاية والتدريب من خلال العمليات المشتركة. وكما قال السفير سيرج بافو، الذي يرأس مركز إدارة الأزمات التابع لوزارة الخارجية السويسرية  للإذاعة العامة السويسرية الناطقة بالفرنسيةرابط خارجي (RTS): “ان الاتصالات موجودة، وكلما كانت هذه الاتصالات أفضل، كلما كانت الإدارة الفعلية للأزمة أفضل”.

تحالُف مضاد للطائرات

من خلال هذا النظام، استطاعت سويسرا الاستفادة من قدرات الطيران في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والسويد، وهولندا والنرويج. وكما قال السفير السويسري في الخرطوم كريستيان فينتر بعد إجلائه من قبل الجيش الفرنسي: “لقد كان من الواضح دائما أننا لا نستطيع القيام بذلك بأنفسنا. سوف يتعين علينا رَبط أنفسنا بالآخرين بطريقة ما”.

وفي هذا المجال، لا تفتقر سويسرا بمفردها إلى الخبرة فحسب، لكنها تفتقر قبل كل شيء إلى طائرة مناسبة يُمكنها اكتساب الخبرة من خلالها.

حتى الآن، تمت عرقلة كل المساعي في هذا الاتجاه على مستوى البرلمان من خلال تحالف ضد الطبيعة يجمع بين أحزاب اليمين واليمين المتشدد.

ورغم تأييد الأحزاب اليمينية لقضايا التسلح، إلّا أنَّها تُعارض بشدة تدخل الجيش السويسري النَشط في بلدان أخرى. على الجانب الآخر، تستثمر أحزاب اليسار عن طيب خاطر في أي ممارسات ومساعدات انسانية، لكنها تُعارض التسلح من حيث المبدأ.

خيانة للسويسريين المُقيمين في الخارج”

الآن، وبعد عملية الإجلاء في السودان، عادت هذه القضية إلى طاولة المناقشات مرّة أخرى. ويصف المحلل الأمني السويسري أوليفر هيغلين افتقار سويسرا إلى وسيلة نقل عسكرية بأنها “وصمة عار  في سجلّ التقاليد الإنسانية للبلاد، وخيانة للسويسريين المقيمين في الخارج، الذين يصبحون تحت رحمة الدول الأخرى في أوقات الشدّة”.

ويضغط هيغلين، وهو ضابط في الجيش يعمل في مجال بناء السلام وحاصل على شهادة في العلاقات الدولية، من أجل شراء مثل هذه الطائرة منذ سنوات. وفي وقت مبكر من عام 2021، شدد في مقالرابط خارجي نشره المجلس الأعلى للأمن [وهو مؤسسة فكرية مستقلة للسياسة الخارجية في مجالات حقوق الإنسان وسياسة الأمن الدولي والديمقراطية يقع مقرها في لندن]،على حاجة سويسرا لطائرة في هذا المجال، لا سيما فيما يتعلق بالدور الذي تود أن تلعبه على الصعيد الدولي في مجال حقوق الانسان.

فريق روماني للإغاثة من الكوارث يستعد للانتقال إلى منطقة الزلزال في تركيا في فبراير 2023. Keystone / Robert Ghement

وكانت المساعدات السويسرية مطلوبة في جميع أنحاء العالم في عام 2021، سواء خلال حرائق الغابات في أوروبا، أو في الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب غرب هايتي. كما انتظر 238 شخصا لديهم صلة بسويسرا إجلائهم من أفغانستان بعد وصول مُقاتلي طالبان إلى كابول.

شراء وصيانة واستخدام

برأي الحكومة السويسرية، لا توجد أولوية لشراء مثل هذه الطائرة بسبب نفقاتها المكلفة على المدى الطويل. وبالفعل، فإن العملية ستكون مثقلة للكاهل، بسبب الحاجة ليس إلى طائرة واحدة فقط، ولكن إلى ثلاث أو حتى خمس طائرات، تبلغ كلفة الواحدة منها 70 مليون فرنكا سويسريا، كما يقول المختصون في السياسة الأمنية. وهذا السعر يمثل مبلغ الشراء فقط دون نفقات الصيانة.

فضلاً عن ذلك، فإن هناك مسألة تشغيل هذه الطائرة، والتي سوف تُثار بمُجرد وصولها. 

عقيدة “نتمسك بها”

للأسباب سالفة الذكر، تفضل الحكومة السويسرية الاعتماد على إمكانية استئجار طائرات مدنية، أو الاستفادة من امكانيات الدول الاوروبية المجاورة. وهي ترى في أوروبا “قدرة نقل جوي استراتيجية كبيرة يمكن لسويسرا أيضا استخدامها”. وهكذا أيضًا بررت الحكومة السويسرية في عام 2022 رفضها  لأحدث مبادرة بهذا الشأنرابط خارجي حازت على تأييد البرلمان الفدرالي.

لذا، فإن عبارة ” سوف يتعين علينا رَبط أنفسنا بالآخرين بطريقة ما ” تتوافق مع عقيدة الدولة السويسرية إلى حد كبير أيضا.

لكن الإجلاء الطارئ من السودان لم يكن السبب الوحيد الذي سلط الضوء ثانية على الحاجة إلى طائرة متعددة الأغراض؛ حيث ساهم الوضع الجيوسياسي العام أيضاً في انطلاق هذا النقاش مجددًا. وكانت الحرب في أوكرانيا، قد وضعت حياد سويسرا وقراراتها الدبلوماسية تحت المجهر، كما زادت الضغوط المُمارسة عليها من قبل الشركاء الغربيين.

مساهمة سويسرية في التحالف الغربي؟

برأي خبراء السياسة الخارجية في البرلمان السويسري، يمكن ان تُصحح القدرات الجوية كَمُساهَمة سويسرية في إدارة الأزمات الدولية، صورة البلاد المهترئة كمستفيد خامل من الناتو إلى حدٍ ما. كما أنها ستكون إجابة جديدة على مسألة استخدام القدرات.  وهم يرون في اقتناء هذه الطائرات الآن مساهمة مُمكنة ومُتوافقة مع الحياد من قبل سويسرا في التحالف الغربي. وقد يوفر هذا الحل نقطة تسوية للأحزاب السياسية اليسارية على وجه الخصوص.

وماذا عن اليمين؟ “أنا مُنفتِح على الفكرة، لكن ليس بأي ثمن”، يقول ماورو توينا، من حزب الشعب اليميني، الذي يترأس لجنة السياسة الأمنية في المجلس الوطني، والذي كان قد تناول مسألة طائرات النقل للتو مرة ثانية في لجنته. وبرأيه، يجب أن تبرر الفائدة تحمّل التكلفة.

حتى عندما تكون سويسرا طرفا مساهما في إدارة الأزمات الأوروبية؟ تسأله SWI swissinfo.ch؟، فيرد: “إذا تم شراء طائرة كهذه لإخماد حرائق الغابات في جنوب أوروبا، سوف يتعين إجراء المناقشات مرة أخرى من حيث المبدأ. لأنها في هذه الحالة – والجميع متفق على ذلك – ستكون مساهمة سويسرية فعلية في سياسة الأمن الخارجي الأوروبي”، يجيب توينا.

طائرة الحرائق
استخدام طائرة مكافحة الحرائق في كاليفورنيا، 2020. Keystone / Etienne Laurent

احتياجات وزارة الخارجية

فرانز غروتر، المتخصص في العلاقات الخارجية. Keystone / Peter Schneider

بدوره، ينتمي فرانتز غروتر أيضا إلى حزب الشعب اليميني، الذي يعارض بشدة أي تدخل خارجي للجيش السويسري. يترأس غروتر لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب (الغرفة السفلى في البرلمان السويسري)، وهو يرى ان طائرة نقل فدرالية يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام في حال أمكن استخدامها بشكل متعدد الوظائف، كما عند إطفاء حرائق الغابات، وتسليم الإعانات، والمساعدات الإنسانية، وعمليات الإنقاذ، وعند حدوث الزلازل، أو في عمليات الإجلاء من مناطق الأزمات.

وكما يقول: “أنا استغرب من عدم تقديم وزارة الخارجية طلباً من البرلمان بهذا الخصوص. وهو يرى أن هذا النوع من الطلب سوف يحظى بفرص جيدة جداً في البرلمان، خاصة إذا لم يكن الغرض الأساسي من اقتناء الطائرة هو تنفيذ مهام عسكرية”.

الطائرات المدنية المستأجرة: سيتم تحميل إمدادات الإغاثة السويسرية أثناء الزلازل إلى هايتي في عام 2010. Keystone/ennio Leanza

في السياق، قال وزير خارجية سويسرا  إينياتسيو كاسيس لـ SWI swissinfo.ch بعد عملية الإجلاء في السودان: “لا جدال في أن قدرات النقل للقوات الجوية غير كافية بسبب الأزمات المختلفة التي تحدث من حولنا”.

“سويسرا تفتقر إلى المُمارسة”

ولكن هل ستكون طائرة للنقل هي الحَلّ لعمليات الإجلاء الناجمة عن الأزمات، مثل تلك التي حدثت في السودان؟ جزئيا فقط، يجيب الخُبراء. ففي أحيان كثيرة، لا يمكن في الواقع إتمام عمليات الإجلاء إلا بواسطة هذه الطائرات، وهو ما ينطبق أيضًا على رحلات الإمداد الجوية إلى مناطق الأزمات. والسبب في ذلك هو المتطلبات المحددة التي تفرضها مثل هذه العمليات على الطائرة؛ حيث يجب أن تكون قادرة على التعامل مع المدارج القصيرة، ومتوفرة على نظام حماية ذاتي، بالإضافة إلى المساحة الكافية.

مع ذلك، لا تمثل الطائرة سوى نصف التحدي. ذلك أن الخدمات اللوجستية لمثل هذه العمليات معقدة. وعلى سبيل المثال، كان على دول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية أن تتفاوض أولا على إمكانية استخدام قاعدة وادي سيدنا الجوية شمال الخرطوم لرحلات الإجلاء الغربية. وقد قامت القوات الفرنسية طوال مدة العملية بتأمين هذا المطار بنفسها.

وكما قال ألكسندر فوترافرز، رئيس تحرير مجلة “ريفو ميليتير سويس” Revue Militaire Suisse [السويسرية المخصصة في قضايا الأمن والسياسة الدفاعية] لـ التلفزيون السويسري العمومي الناطق بالفرنسية (RTS) رابط خارجي: “يجب علينا أن نكون واقعيين. ليس لدى سويسرا لا الاتفاقات ولا الخبرة المتعلَّقة بمثل هذه العمليات، لا سيما مثل تلك التي تنفذها بعض البلدان المجاورة لنا في أفريقيا”.

مُقاتلي النخبة في طائرة كبار الشخصيات

من المؤكد أن قيادة القوات الخاصة السويسرية AAD10 سوف تستفيد من وجود طائرة مخصصة لهذه الحالات. ورغم عدم وضوح الدور الذي لعبته هذه القوة في عملية الإجلاء من السودان إلى اليوم، لكن العديد من المؤشرات تدل ببساطة على عدم وصول الوحدة الخاصة إلى الخرطوم لإخراج المفوضية السويسرية من المدينة التي تعرضت للقصف.

سفير سويسرا في الخرطوم
أعادته عبر طائرة الحكومة الفدرالية: رحب وزير الخارجية إنياتسيو كاسيس (على اليمين) بالسفير السويسري في الخرطوم، كريستيان وينتر. © Keystone / Peter Schneider

وكانت الوحدة الخاصة التي أرسلتها الحكومة السويسري إلى السودان في 22 أبريل قد طارت على متن طائرة الحكومة السويسرية – وهي من طراز فالكون 900  مجهزة كطائرة لكبار الشخصيات، والتي كانت في خدمة أمير موناكو قبل ذلك بفترة قصيرة. ورغم كونها أكبر طائرة في سلاح الجو السويسري، إلّا أنها لا تتسع إلّا لـ 14 راكبا فقط. وقد وصلت القوات الخاصة السويسرية إلى جيبوتي بواسطة هذه الطائرة.

وماذا حدث بعد ذلك؟ ألم تكن هناك أي وسيلة نَقل عسكرية لاستكمال الرحلة إلى السودان؟ swissinfo.ch لم تتلق إجابة واضحة على السؤال – “لأسباب أمنية”.

المزيد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية