مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

في الجزائر.. أجهزة خفية تُروّض الأحزاب وتصنَـع المشهد السياسي

لا ينكر المراقبون وجود تعددية حزبية في الجزائر، لكن العملية السياسية تفتقر إلى الشفافية المطلوبة.

مع بلوغ التجربة التعدّدية في الجزائر سِـنّ العشرين في موفى العام المنقضي، تبلوَرت ملامِـح نظام سياسي جديد يختلِـف عن نظام الحزب الواحد، الذي أدار البلاد بقبْـضة حديدية طيلة رُبع قرن، قبل اندِلاع مظاهرات أكتوبر 1988.

فقد أنهت تلك الهزّة غير المسبوقة هيْـمنة حزب “جبهة التحرير الوطني” على الدولة والمجتمع، وفتحت الأبواب أمام التعدّدية بشكل بدا للوهْـلة الأولى أنه سيشكِّـل قطيعة مع النّـمط السوفييتي الذي كان سائدا في ما يُعرف ببلدان المعسكر الإشتراكي.

وأتى رئيس الحكومة الانتقالية مولود حمروش بذهنية جديدة، لا تشترط التحزب في اختيار الوزراء وكِـبار المسؤولين في الدولة، وهو ما أتاح لكثير من الشخصيات المُبعدة سابقا (بسبب عدم انسجامها مع الحكم)، تقلّـد مسؤوليات رفيعة. وشكّـل إبعاد العسكر من قيادة “جبهة التحرير الوطني” وقبول “الجبهة” قواعد اللّـعبة الجديدة، أي البقاء في المقاعد الخلفية، مؤشِّـرا إلى إطلاق تجربة ديمقراطية متقدِّمة على الجيران في المنطقة.

ويتذكر الإعلامي عمر بلهوشات، مدير صحيفة “الوطن” اليومية المستقلّـة، محطة مهمّـة من تلك الحِـقبة، تتعلّـق بإرساء التعدّدية الإعلامية، بعدما كانت صحيفتا “المُـجاهد” اليومية الناطقة بالفرنسية وشقيقتها “الشعب” الناطقة بالعربية تحتكِـران الساحة الإعلامية أسوة بـ “البرافدا” و “إيزفتسيا” على أيام الإتحاد السوفييتي.

وقال بلهوشات، الذي كان يرأس القسم الإقتصادي في “المجاهد” لـ swissinfo.ch، إنه غادر صحافة الحزب الواحد مع عدد من زملائه لتأسيس صحف مستقلة، وقبلت “المجاهد” أن تسحب الصحف المنافسة في مطبعتها، التي كانت المطبعة الوحيدة قبل أن يقف الناشرون الجُـدد على أقدامهم ويشتَـروا مطبعة خاصة بهم.

“إما تعدّدية كاملة أو دكتاتورية لا مكان فيها للحرية”

وعلى شاكلة هذا التغيير، أبصر المشهد السياسي أيضا نقلة جِـذرية لا تعترف بالموانع والقيود، إلى درجة أن التونسيين القلقين آنذاك من عدوى الأنموذج الجزائري، سألوا السيد محمد شريف مساعدية، الذي كان في زيارة لتونس، عن مدى وضع ضوابط للتعدّدية في الجزائر، فردّ عليهم فورا “نحن الجزائريون هكذا، لا نحب المنزلة الوسطى، فإما تعدّدية وعندها تكون كاملة أو دكتاتورية وساعتها لا مكان للحرية”.

غير أن الأحزاب التي نبتت في كل مكان اعتبارا من 1989 وَفَـاق عددها الثلاثين حزبا، وجدت في الانتخابات المحلية سنة 1990 ثم في الانتخابات البرلمانية خلال السنة الموالية، فُـرصة لأخذ ثأرها من الحِـزب الحاكم، الذي عطَّـل نموّها طيلة عقديْـن من الزمن، ومنها “جبهة القِـوى الاشتراكية” بزعامة حسين آيت أحمد، التي تمّ حظْـرها منذ سنة 1963، أي في بواكير الاستقلال.

وما أن رُفِـع الستار عن نتائج الدورة الأولى للإنتخابات التشريعية في ديسمبر 1991 واتّـضح أن “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” ستُسيْـطر على البرلمان بوصْـفها متقدِّمة على كلٍّ من “جبهة التحرير الوطني” و”جبهة القوى الاشتراكية”، حتى تحرّكت المؤسسة العسكرية لتوقف المسار الانتخابي وتُجْـبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الإستقالة من منصبه.

وشّـكلت تلك الحركة، ضربة قوية للتجربة الحزبية، إذ تمّ حظْـر”الجبهة الإسلامية للإنقاذ” واعتقال قادتها والعديد من أعضائها وأنصارها وفرْض قيود على نشاط الأحزاب الأخرى، وخاصة في أعقاب اندِلاع حرب أهلية بين الجيش والجماعات الإسلامية المسلحة، التي انتشرت عناصرها في الجبال. وفي ذلك المناخ المشحون، تراجع دور الحزب الحاكِـم السابق وتفكّـكت لجنته المركزية بسبب تباعُـد المواقف بين أعضائها من الانقلاب الذي نفّـذه العسكر، إلى درجة أن الأمين العام للحزب آنذاك عبد الحميد مهري، شارك إلى جانب زعماء المعارضة العِـلمانية والإسلامية في ندوة “سانت إيجيديو”، التي طالبت بإرجاع الحُـكم للمدنيين وإعادة التجربة الديمقراطية إلى السكّـة.

لكن في الميدان، استطاعت المؤسسة العسكرية التي كانت تخُـوض حربا ضروسا على الجماعات المسلحة، أن تُعيد تشكيل المشهد الحِـزبي على نحو مكّـنها من تصفِـية الحساب مع “جبهة التحرير الوطني” بتقزيمها وتسمِـية الوزير السابق بوعلام بـالسايح، أمينا عاما للحزب بدَل مهري، وإنشاء كيانات جديدة، مثل “حركة مجتمع السِّـلم” (حمس) بزعامة الراحل الشيخ محفوظ النحناح و”التجمع الوطني الديمقراطي” برئاسة أحمد أويحيى و”التحالف الوطني الجمهوري” برئاسة الإستئصالي رضا مالك، أو النفخ في حجم بعضها الآخر، مثل “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” بزعامة المثقف القبائلي سعيد سعدي لمنافسة “جبهة القوى الاشتراكية”، التي دعا رئيسها آيت أحمد الجيش للإبتعاد عن السياسة وإعادة المسار الديمقراطي إلى السكة.

وشكلت معاودة تشكيل المشهَـد الحزبي مقدّمة لانتخابات رئاسية في 1995 و1999، استُبعد منها مرشّـحو المعارضة المنتقِـدة للجيش، فيما أفسح المجال لأمثال النحناح وسعدي ومالك، لمنافسة مرشح الجيش. واستعادت المؤسسة العسكرية سيْـطرتها على الرئاسة بوصول الجنرال ليامين زروال إلى قصر “المرادية” في 1995 بعد اغتيال محمد بوضياف، ثم بانتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا جديدا في 1999 في مواجهة ستة من بارونات “جبهة التحرير” السابقين، الذين أعلنوا انسحابهم من المعركة الانتخابية في اللحظة الأخيرة بسبب ما اعتبروه “تجاوُزات” غير مقبولة.

“الأكثرية الرئاسية”

ويمكن القول أن عودة بوتفليقة، الذي كان وزير خارجية الرئيس الراحل هواري بومدين (1965 – 1978) إلى الحُـكم، كرّس الانعطاف الجوهري الذي عرفه المشهد السياسي الجزائري بعد عشر سنوات من إطلاق التعدّدية، والمتمثِّـل في “ضبْـط إيقاع” الأحزاب المُغرِّدة خارج السّـرب. وتمّ “الضبط” بطريقتيْـن، هما حظر تلك التشكيلات اليافِـعة، مثلما فعل مع الحزب الذي أعلن غريمه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية السابق، عن تأسيسه، و”الجبهة الديمقراطية”، التي كان رئيس الوزراء الأسبق سيد أحمد غزالي يعتزم بعثها رسميا. أما الطريقة الثانية، فهي التهميش أسْـوَة بما فعل مع “جبهة القوى الاشتراكية” وتغذية الانشقاقات، أسْـوَة بما حصل لـ “حركة النهضة” (حركة الإصلاح لاحقا) بزعامة الشيخ عبد الله جاب الله.

في المقابل، استعادت “جبهة التحرير” موقِـعها بوصفها القوّة السياسية الأولى، وباتت تتنافس على المراكز القيادية في الدولة مع “التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي تناوَب زعيمه أحمد أويحيى على رئاسة الوزراء مع أمين عام الجبهة عبد العزيز بلخادم. وحتى لما ضرب بوتفليقة الأمين العام السابق للجبهة علي بن فليس، الذي نافسه في انتخابات 2004، لم يُقلِّـم أظافر الجبهة، بل جعلها قطب الرّحى في الحياة السياسية.

وعلى هذا الأساس، تبلور ما بات يُعرف بـ “الأكثرية الرئاسية” المُـلتفة حول بوتفليقة والمتشكلة رسميا من ثلاثة أحزاب، هي “جبهة التحرير” و”الوطني” و”حمس”، بالإضافة لعدد من “المؤلفة قلوبهم”، مثل “حزب العمال” برئاسة السيدة لويزة حنون.

“طاق على من طاق”

وأفاد المحلل جلال بوعاتي لـ swissinfo.ch أن قادة التّـحالف الرئاسي الثلاثة، اتفقوا لدى الإعلان عن ميلاد التحالف في 16 فبراير 2004 على قاعدة ذهبية، مفادُها الإلتِـفاف حول برنامج رئيس الجمهورية ومساندته دون شروط، وما دون ذلك، فإن من حق أي من الشركاء تطبيق مقولة “طاق على من طاق”.

وأوضح أن اتِّـفاقا آخر توصّـل إليه “التجمع الوطني” مع “حزب العمال” المعارض، بشأن منح هذا الأخير أصواته في انتخابات مجلس الأمة، أظهر أن ”الشراكة السياسية”، لا مكان لها في قاموس التحالف، خصوصا عندما يتعلّـق الأمر بالمقاعد في المؤسسات المنتخبة. ويُدقِّـق بوعاتي رصده لظاهرة التحالف – الصِّـراع هذه، بالإشارة إلى أن القانون الداخلي للتحالف ينُـص أيضا على توسيع قاعدته أفُـقيا وعمُـوديا عبْـر إنشاء لِـجان على مستوى الهياكل الحزبية مهمّـتها “تنسيق العمل الميداني على الصعيد المحلي”.

وغالِـبا ما عقدت أحزاب التحالف الرئاسي صفقات مع أحزاب المعارضة لاقتسام مناصب المجالس البلدية والولائية، على حساب أحزاب التحالف نفسها، وهو ما يعني أن كل حزب يريد الإستِـحواذ على مكانة الآخر، كما قال. وأضاف “على مَـرّ السنوات وتوالي الاستحقاقات الانتخابية، دأَب قادة التّـحالف على تأكيد التِـزامهم بالعمل المشترك، لكن سُـرعان ما يُـكذِّب الواقِـع هذا الالتزام.

يحدث هذا، رغم اعتراف قادة التحالف (سلطاني وبلخادم وأويحيى)، أن تحالفهم لم يتِـم من أجل مساندة بوتفليقة فقط، وإنما جاء بفضل التقارب الحاصل بين الأطراف الثلاثة الرامية إلى ”خدمة المصلحة الوطنية وتحقيقها”.

“شذوذ سياسي”

واستغربت بعض الأحزاب جُـنوح التشكيلات التي كانت تُصنِّـف نفسها في خانة “المعارضة”، إلى التفاهم مع “الأكثرية الرئاسية”، إذ اعتبر السكرتير الأول لجبهة القوى الاشتراكية كريم طابو، أن إعلان حزب العمال تحالُـفه مع التجمع الوطني الديمقراطي في الانتخابات الخاصة بتجديد نصف مقاعد مجلس الامة الجزائري الأخيرة (29 ديسمبر 2009)، ”واحدة من العلامات السياسية الكُـبرى لقُـرْب الساعة”.

وقال طابو، “إن الأمر مثير للاستغراب، إذ لم يحدُث في أي دولة أن توصّـل حزب يدّعي اليسارية والدِّفاع عن مصالح العمال والطبقات الشغيلة، إلى تحالف مع حزب يميني ليبرالي”، مُـشيرا إلى أن الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون ”دخلت بشكل نهائي بيت طاعة السلطة وكشفت أخيرا عن طبيعة مواقفها الحقيقية بعد سنوات من المواقف المُـزيَّـفة”.

وأشار طابو إلى أن حزبه لم يطلُـب من حزب العمال التحالف السياسي في مواعيد سياسية سابقة، ولكنه على الأقل كان يأمل في أن يُـحافظ الحزب على مواقفه لتقوية جبهة المعارضة، معتبِـرا أن ”إعلان التحالف الشاذ بين لويزة حنون وأحمد أويحيى له بُعد إيجابي، من حيث فرز الساحة السياسية، فنعرف مَـن هو في هذا الخندق ومَـن هو في خندق السلطة”.

أما “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية”، فقرأ الخُـطوة أيضا على أنها بمثابة نجاح للسلطة في استدراج الأحزاب المعارضة. وذكر نور الدين آيت حمودة، أحد قيادات “التجمع” خلال اجتماع أقيم أخيرا بولاية بجاية، أن “السلطة تعتمِـد على أسلوبيْـن في قمْـع أحزاب المعارضة: إما باستدراجها إلى صفِّـها ودفعها إلى خفْـض مستوى التشدّد في مواقفها، على غِـرار ما حصل مع حزب العمال وأحزاب سياسية أخرى أو تفكيكها واستهداف وِحدتها التنظيمية، مثلما تُـحاول السلطة فِـعله مع “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية”، على حد زعمه.

وفي السياق نفسه، رأى الصحفي عثمان لحياني أن هذا التحالف “يطرَح حالة تُـعَـدُّ في حُـكم العُـرف السياسي ”شذوذا سياسيا” وتَـحوُّلا نوعِـيا غير مسبوق في خريطة التحالفات السياسية”، متسائِـلا عن الدّافع وراء تحالُـف حنون مع أويحيى، في الوقت الذي كانت أحزاب أخرى أقرب من ناحية المنطِـق والمواقِـف السياسية والتوجّـهات العامة، للتحالف مع حنون؟ لكن الجواب واضح، وهو التمهيد لانضِـمام “حزب العمال” للأكثرية الرئاسية. غير أن السؤال الأهم يتعلّـق بمصير أحزاب المعارضة الأخرى مثل “القوى الاشتراكية” و”النهضة” و”الإصلاح”، التي وضعت لها الحكومة (أو الجيش؟) حاجزا يتمثّـل في وُجوب الحصول على 3% من الأصوات في الإنتخابات للبقاء في وضعها القانوني، بوصفها أحزابا مسجّـلة، وإلا فقدت وجودها الشرعي.

وقد ارتدت أحزاب عدّة عند حاجز الثلاثة في المائة، مما جعلها مهدّدة بالاندثار والذَّوبان، لكن أطرافا عدة تُشكِّـك في مقياس الانتخابات، مشيرة إلى دور الجيش في تحريك خيوطها “من وراء السِّـتار”، خاصة وأن مصادِر مُـختلفة تعْـزو كثرة الانشقاقات والصِّـراعات في أحزاب المعارضة إلى أيدي الدولة، وتحديدا الجيش، الذي ما زال يُحكِـم قبضته على حياة الأحزاب.

متغيِّـرات بارزة في الخارطة السياسية

وعلّـقت الباحثة مريم بالخضراء على هذه المتغيِّـرات البارزة في الخارطة السياسية لـ swissinfo.ch، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على ميلاد التعددية السياسية، بقولها أن “الساحة الحِـزبية اليوم يتحكّـم فيها رأيان، أحدهما للسلطة التي تعتبر أن هناك حالة إشباع لا يوجد فيها موضع قدم لاعتماد أي حزب جديد، والآخر يرى على النقيض من ذلك، أن الإدارة لم تترك الحرية للشعب لإجراء ”الغربلة”، وقامت هي بالحُـكم بدلا عنه”.

وأضافت “إذا ما أخذنا في الاعتبار التدابير التي أقرّتها وزارة الداخلية على قانون الانتخابات، لم يبق في الساحة السياسية سوى 9 أحزاب بإمكانها المشاركة في الإستحقاقات الانتخابية المقبلة، دون أدنى شروط، غير تلك المنصوص عليها قانونا، في حين أن الباقين خارج هذه المجموعة من الأحزاب، ويُجهل عددهم، مطالبون بجمع التوقيعات لكل مرشح عنهم، حتى تتسنّـى لهم المشاركة في المواعيد الانتخابية المحلية والوطنية”.

واستندت وزارة الداخلية في هذا التّـقسيم الحِـزبي على نتائج المواعيد الإنتخابية الثلاثة الأخيرة، وأقرّت أنّ كل حزب لم يحقِّـق فيها نسبة 3%، لن يشارك في الانتخابات المقبلة سوى بـ “شروط” معيَّـنة.

وكانت هذه العملية، أول عملية فرز إدارية تفرضها وزارة الداخلية، بالرغم من أنها لم تلق إجماعا حولها، خصوصا من قِـبل الأحزاب الصغيرة، من منطلق أن نتائج المواعيد الانتخابية لا تعكس مدى تجذّر أي حزب في الساحة الوطنية، لِـما شاب تلك الانتخابات من تشكيك في ”نزاهتها” ومن تضارُب وضُـعف كبيريْـن في نِـسب المشاركة فيها، إذ لم تتعدَّ 50%، وهو ما يعني، حسب رأيها، أن هناك أغلبية صامِـتة لم تقُـل كلمتها.

وبالتوازي مع عملية تقليم الأظافِـر هذه، وجدت العديد من التشكيلات الحزبية نفسها ”تجرّ” إلى أروقة المحاكم لفضّ النزاعات داخلها، على غِـرار ما تعرّضت له “جبهة التحرير” نفسها غَـداة رئاسيات 2004. وانتقل النزاع أيضا في حركة الإصلاح بين عبد الله جاب الله وخصومه إلى أروقة القضاء بعد ذلك، وهو النزاع الذي لم يستبعد جاب الله وقوف السلطة وراءه، قصد تحييده في المواعيد الانتخابية. كما وجد رئيس الجبهة الوطنية الجزائرية موسى تواتي نفسه داخل أروِقة المحاكِـم حول ما عُـرف بالحركة التصحيحية لمؤتمر عقده حزبه في مدينة عين الدفلى، ولقِـي حزب عهد 54 وكذلك حزب التجديد الجزائري المصير نفسه في أعقاب “حركتيْـن تصحيحيتين”.

“من سلم من الانشقاق تعرض إلى الضغوط”

وأوضحت مريم بالخضراء أن “مَـن سلم من الانشقاق والحركات التصحيحية على غِـرار (القوى الإشتراكية) و(حزب العمال) وبدرجة أقل تجمّـع سعدي، تعرّضت قواعده من أمثال المنتخبين المحليين ورؤساء البلديات، إلى موجة من (الضغوط)، دفعت الكثير منهم إلى (الهجرة) نحو تشكيلات حزبية أخرى، كما هو الشأن بالنسبة لنواب حزب العمال، الذين التَـحق عددٌ منهم بجبهة التحرير أو منتخبي تجمّـع سعدي، الذين انخرط بعضهم في تشكيلات الوطني والتحرير”.

وأضافت، “هذه التطوّرات، وإن لم تتبنَّـها جِـهة بعينها أو تأمر بها صراحة، غير أن دفعها باتجاه إضعاف الطبقة السياسية والحزبية من خلال خلق الانقسام وحالة اللااستقرار داخلها، تغذِّي الانطباع بأن السلطة وراءها، لأنها هي المُـستفيد الأكبر من نتائجها، حتى وإن كانت ستتضرَّر من حالة الفراغ حولها. ولو جمعت كلّ حلقات سلسلة هذا المسار الحزبي، لتبيَّـن أن هناك تيارا يدفع باتِّـجاه العودة إلى عهد الحزب الواحد، لاعتقاده أنه علامة استقرار وليس ركودا للبلد”.

“سلوك بالِـغ الخطر والضّـرر”

وهذا ما أكده عبد الله جاب الله لـ swissinfo.ch حين قال: “مِـن أكثر العقبات التي تعترِض التعدّدية والبناء الديمقراطي، هو تدخّـل السلطة في شؤون الأحزاب ثم اجتهادها في ترويض ذات المِـصداقية منها وتكسيرها وغلْـقها، لفسح المجال لاعتماد أحزاب جديدة. وهذه الممارسات وليدة عدم القناعة بالديمقراطية التعدّدية. وفي هذا السلوك، بالغ الضرر بسمعة النظام وعلاقته بالأمة، إذ أفرز قلقا وانعدام ثقة بين النُّـخب والسلطة، ممّـا أثّر على أخلاق الناس وعلى التنمية، وساهم في عزْل السلطة عن الشعب داخليا وأوجد أجواءً من الشكّ الدائم في نواياها”.

ورأى أن “المَـخرج مِـمَّـا نحن فيه، هو احترام القانون والدستور، بالرغم من النقائص الموجودة في هذه المواثيق. والمطلوب من السلطة، احترام القانون والدستور، وأن تكون هي نفسها خاضِـعة لهما، أما أن تعطِّـل فيهما ما تشاء وكيفما تشاء وتنفذ منهما ما تشاء وكيفما تشاء، فهذا سلوك بالِـغ الخطر والضّـرر”.

حصيلة عقدين من التعددية

وقال المعلق السياسي في صحيفة ”الخبر” حميد ياسين في تقويمه لحصاد عقديْـن من التعدّدية في الجزائر: “إن الممارسة السياسية في عهد الثنائي عبد العزيز بوتفليقة ويزيد زرهوني، كانت ولا زالت بمثابة شبَـح مُـخيف بالنسبة لأحزاب المعارضة. فقد حرِص الرّجُـلان منذ أكثر من 10 سنوات على كسْـر مكاسِـب التعدّدية بشكل منظَّـم، واستطاعا أن يدجّـنا أكثر الأحزاب والشخصيات، زعماً بأنها قادرة على مواجهة النظام”.

وأضاف موضِّـحا “من المؤكَّـد أن قيادات التشكيلات السياسية المحسوبة على المعارضة، مثل التجمّـع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية وحركة الإصلاح الوطني وحركة النهضة، تحِـنّ إلى ماضٍ جميلٍ، حينما كانت ممارسة التعدّدية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وبدرجة أقل في عهد الرئيس اليمين زروال، مُـتاحة للجميع في إطار مُـقنَّـن حدّده دستورا 1989 و1996. وبانتقال الحُـكم إلى عبد العزيز بوتفليقة في ربيع 1999، أظهر الرئيس الجديد إرادة واضحة في التنكّـر لكل المكاسب الديمقراطية التي تحقّـقت منذ انتفاضة 5 أكتوبر 1988، والتي كانت ثمرة نضالات مُـضنية في الميْـدان، أصحابها ينتمون لمختلف التيارات الفكرية والإيديولوجية، تجمع بعضها عداوة تاريخية.

ولتنفيذ إرادة تحطيم كل ما تم بناؤه على صعيد التعدّدية من قبْـل، اختارت منظومة الحُـكم الرجل الأنسَـب لهذه المهمة، وهو يزيد زرهوني، الذي قتَـل الأحزاب القديمة ومنَـع اعتماد أخرى جديدة ببرودة أعصاب مثيرة، حيث تمّ وضعه على رأس وزارة الداخلية وتكفل هو بـ ”تنظيف” المناخ السياسي، الذي كان يراه بوتفليقة مُـلوَّثا، فبدأ بإلغاء المظاهرات في الشوارع بحجّـة تردّي الأوضاع الأمنية، وفرض رخصة على كلّ من يريد تنظيم لقاء في قاعة مغلقة.

وإن كان من النادر أن تردّ الداخلية على طلب الرخصة، فإن موقِـفها كان الرّفض في غالب الأحيان. واتسمت السنوات الأخيرة من حُـكم الثنائي بوتفليقة وزرهوني بالتدخّـل في تسيير الشؤون الداخلية للأحزاب وتوظيف جهاز القضاء لهذا الغرض، والأمثلة على ذلك كثيرة، وأشهرها قضية إلغاء مؤتمر جبهة التحرير الوطني في أواخر 2003 في غمرة الصِّـراع المحموم على كرسي الرئاسة بين بوتفليقة ورجل ثقته السابق علي بن فليس. ويعتبر عبد الله جاب الله، المطاح به من رئاسة حركة الإصلاح الوطني بدعم من الداخلية، من أكثر شخصيات المعارضة اصطداما بالرجل القوي في النظام، يزيد زرهوني.

”اليوم خَـمْـر وغدا أمْـر…”

غير أن السلطة لا تملِـك الوسائل السياسية والقضائية والمالية فقط لكي “تلعب” داخل الأحزاب، بل إن توظيف لُـعبة كرة القدم يُـمكن أن يكون شكلا آخر من تهميش الأحزاب أيضا، مثلما يرى المحلل حميد ياسين، الذي لاحظ أن أحداث تأهّـل المنتخب الجزائري للمونديال، شغلت الشارع الجزائري بالشكل الذي أطفأ العديد من الملفّـات المُـلتهبة والصِّـراعات داخل أروِقة الدولة ووسط الطبقة الحزبية والجبهة الاجتماعية.

ومثلما حسمت الأحزاب مرشحيها لانتخابات مجلس الأمة في ”صمت” والشارع مشغول بفوز أشبال سعدان، رغم الفضائح التي رافقت العملية، نزل هذا الانتصار الكروي بردا وسلاما على “التطريز” الجاري آنذاك حول مؤتمر جبهة التحرير والأجنحة المُـتصارعة داخله. وعندما “برد” الوضع داخل حزب السلطة العتيد، هدأت الجبهة الاجتماعية واستسلمت لـ ”العصا والجزرة”، التي تُـحسِـن الحكومة التوقيت المناسب لإخراجها أو غضّ الطرف عنها. وبين المشاكل والانشغالات وبين الاحتفال بالانتصارات، كسبت السلطة هُـدنة سياسية واجتماعية لم تكُـن تحلُـم أن تأتيها فوق طَـبَـق المونديال. ولعلّ ذلك وراء ترديد أكثر من لِـسان في الساحة الوطنية بأن ”اليوم خَـمْـر وغدا أمْـر…”

رشيد خشانة – تونس – swissinfo.ch

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية