مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“خربشات” خطيرة على الخارطة!

كانت الأوساط العربية تنتظر بكل ترقب خطاب وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، الذي كان من المفترض أن يلقيه في 6 نوفمبر حول الشراكة الأمريكية مع العالم العربي.

لكن الولايات المتحدة، ولظروف لم تحددها، أجلت خطاب وزير الخارجية إلى موعد لاحق.

فيما كانت كل الأنظار مشدودة إلى واشنطن ترقبا لما كان سيعلنه يوم 6 نوفمبر (وما أرجئ مؤقتا) كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي من مشروع لـ “شرق أوسط جديد” يستند إلى الديموقراطية والتنمية في إطار شراكة أمريكية – شرق أوسطية، تسارعت التطورات في المنطقة التي تصب كلها في هذا التوّجه.

ففي تركيا برز فجأة، وللمرة الأولى، تيار إسلامي جديد يزاوج بين الإسلام والديموقراطية، وبين الدين والعلمانية (على النمط العلماني الأمريكي لا الفرنسي)، ويدعو إلى لقاء الشرق الإسلامي والغرب المسيحي على أرض الحريات الليبرالية. وثمة نقطتان مثيرتان في هذا التطور.

الأولى، أن الشعب التركي منح حزب العدالة الإسلامي بزعامة النجم التركي الصاعد طيب رجب أردوغان انتصارا كاسحا غير مسبوق (ثلثي مقاعد البرلمان)، برغم الضغوط الهائلة التي مارستها المؤسسة العسكرية، والتي تراوحت قبل الانتخابات بين محاولة حظر الحزب، والعمل على تقليص عدد أصواته.

والأتراك الـ 34% الذين أوصلوا أردوغان إلى السلطة، فعلوا ذلك أولا يأسا من الطبقة السياسية الفاسدة التي أغرقت البلاد في ديون بلغت 200 مليار دولار، وبطالة تجاوزت نسبة ال 20 %، وثانيا بسبب رغبتهم في علمانية متصالحة مع الدين لا متواجهة معه.

والنقطة الثانية، هي الدعم الفوري الذي حصل عليه أردوغان من الأوروبيين والأمريكيين كل لأسبابه الخاصة. فالاتحاد الأوروبي تحركّ سريعا لحماية إسلاميي تركيا الجدد من الجنرالات، ليس بهدف تسهيل انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي (الذي يريدونه ناديا مسيحيا مغلقا)، بل على العكس لإغلاق هذا الاحتمال.

فإذا ما كانت بروكسل، الباحثة عن هوية مسيحية، ترفض ضم تركيا الشرسة في علمانيتها إليها، فهل يمكن أن تقبل بعد تركيا بهوية إسلامية فاقعة، حتى ولو كانت ليبرالية ديموقراطية؟ أما الولايات المتحدة، فلها أهدافا أخرى مغايرة تماما، لعل أهمها تحويل تركيا إلى نموذج جديد لكل العالم الإسلامي. ويتجلى هذا في بعض ما قالته أهم الصحف الأمريكية.

نقرأ في “واشنطن بوست”، “برغم أن أردوغان قد يفشل في الداخل التركي، إلا انه قد ينجح في خلق نموذج لممارسة سياسية ديموقراطية يحتاجها بإلحاح العالم الإسلامي”.

وتقول “نيويورك تايمز”، “التجربة التركية الإسلامية الجديدة قد تُثبِتُ للعالم الإسلامي، وللعالم أيضا، أن العلمانية يمكن أن تكون حقا ليبرالية، وأن الديموقراطية يمكن أن تترعرع في بيئة إسلامية”.

وتُقرّ “لوس انجليس تايمز”، “هذه المرة الأولى التي تبرز فيها فرصة زواج بين الإسلام والديموقراطية الليبرالية”.

انقلابات

هذه التطورات التركية، وبرغم أنها مفاجئة (حزب أردوغان تأسس قبل حوالي سنتين فقط على أنقاض حزبي الرفاه والفضيلة المحظورين)، إلا أنها لم تأت كصاعقة صافية في سماء الشرق الأوسط.

فقبل تركيا، كانت الولايات المتحدة تفرض على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات “دمقرطة” سلطته الوطنية، إذا ما أراد البقاء رأسا لهذه السلطة، وهو يفعل ذلك الآن بكثير من الامتعاض، والكثير من محاولات تطويق المؤسسات الديموقراطية بأجهزته الأمنية والمالية وبتكتيك “فرّق تسد” الذي يتقنه جيدا.

وقبل فلسطين، طرأت تحوّلات في البحرين، التي شهدت أول انتخابات منذ عقود. كما ظهرت إرهاصات ديموقراطية أخرى في عدد من الدول العربية كالجزائر والمغرب تُنبئ بتغييرات ما، إما غدا أو بعد غد.

السؤال الكابوس

كل هذه الانقلابات المثيرة في دار الإسلام، تجري قبل أن يتم، (كما أشرنا)، إطلاق الدخان الأبيض لانطلاق عملية “الدمقرطة” من البيت الأبيض. فكيف سيكون حال أنظمة المنطقة، بعد أن يصل هذا الدخان إلى سمائها؟

هذا السؤال هو الكابوس الذي يجثم الآن على صدور الأنظمة العربية، وعلى رأسها تلك التي كانت الحليف الرئيسي لأمريكا، إما تاريخيا (كالسعودية وباقي دول الخليج والمغرب)، أو مرحليا (كمصر).

والواقع، أنه بات في الوسع ملاحظة أصوات متشنجة يتردد صداها داخل بعض هذه الأنظمة، وهي تعّبر عن نفسها في تصريحات تنتقل من النقيض إلى النقيض: من الغزل الكامل مع واشنطن، وإطلاق مبادرات كبرى في السياسة الخارجية يفترض أن ترضيها، إلى الخصام الكامل معها، والإيحاء بأنها تنوي معارضة توجهاتها في الشرق الأوسط.


بيد أن كل هذه الأصوات تسقط على آذان صمّاء في واشنطن، ويعتقد محللون لشؤون الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة عبرت بعد أحداث 11 سبتمبر الخطوط الحمراء فيما يتعلق بطبيعة الأنظمة التي تريد رؤيتها في المنطقة.

ويعتقد فولكر برتس، مدير قسم الشرق الأوسط في “المعهد الألماني للدراسات الدولية”، أن المستقبل سيكون لصالح إسلام سياسي معتدل، وهو رأي ربما تؤكده التطورات المتسارعة، والتي تشير إلى بدء بروز نخب إسلامية- ليبرالية جديدة تدعو إلي التصالح مع الغرب في الخارج، وإلى التصالح مع الديموقراطية في الداخل.

وبرغم أن تيار الإسلام المعتدل، أو الليبرالي ستكون له بالفعل اليد العليا في تقرير مصير المنطقة، إلا أنه لن يكون التيار الوحيد. وكما يقول رئيس وزراء لبناني سابق، “سيعتمد الأمر على طبيعة كل دولة عربية، وعلى موازين القوى فيها بين العلمانيين والقوميين والإسلاميين”.

على أي حال، دارت عجلة التغييرات التاريخية من جديد في الشرق الأوسط، وستزيد من وتائر سرعتها بعد أن توضح واشنطن طبيعة الشراكة التي تعتزم إقامتها مع العالم العربي و”خارطة الطريق” التي تنوي بموجبها تنفيذ هذه التغييرات.

وما نشهده الآن، من أطراف بلاد الأناضول إلى أطراف شبه الجزيرة العربية، ليس إلا “خربشات” أولية، وإن كانت خطيرة، على لوحة الخارطة الجديدة للشرق الأوسط، لأن الآتي أشد وأعظم.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية